التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب التعاون في بناء المسجد

          ░63▒ بَابُ التَّعَاوُنِ فِي بِنَاءِ المَسْجِدِ
          وقوله: ({مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ}) الآيةَ [التَّوبة:17].
          سبب نزولها: أنَّه لمَّا أُسِرَ العَبَّاسُ يومَ بدرٍ أقبل عليه المسلمون، فعيَّروه بالكفر وأغلظ له عليٌّ، فقالَ العَبَّاسُ: ما لكم تذكرون مساوئنا دون محاسننا، فقال له عليٌّ: ألكم محاسنُ؟ قالَ: نَعَمْ، إنَّا لنعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة، ونسقي الحاجَّ، ونفك العاني، فأنزل الله هذه الآية.
          وقوله: ({شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالكُفْر}) قيل: سجودهم للأصنام واتِّخاذها آلهةً.
          447- ثمَّ ساقَ البخاريُّ حديثَ عِكْرِمَةَ: قَالَ لِي ابنُ عَبَّاسٍ وَلِابْنِهِ عَلِيٍّ: انْطَلِقَا إِلَى أَبِي سَعِيدٍ فَاسْمَعَا مِنْ حَدِيثِهِ، فَانْطَلَقْنَا فَإِذَا هُوَ فِي حَائِطٍ يُصْلِحُهُ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَاحْتَبَى، ثمَّ أَنْشَأَ يُحَدِّثُنَا حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى ذِكْرِ بِنَاءِ المَسْجِدِ، فَقَالَ: (كُنَّا نَحْمِلُ لَبِنَةً لَبِنَةً وَعَمَّارٌ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ، فَرَآهُ النَّبِيُّ صلعم فَجَعَلَ يَنْفُضُ التُّرَابَ عَنْهُ، وَيَقُولُ: وَيْحَ عَمَّارٍ، تَقْتُلُهُ الفِئَةُ البَاغِيَةُ، يَدْعُوهُمْ إِلَى الجَنَّةِ، وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ قَالَ: يَقُولُ عَمَّارٌ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الفِتَنِ).
          وهذا الحديث ذكره البخاريُّ في الجهاد [خ¦2812].
          والكلام عليه مِنْ أوجهٍ:
          أحدها: ابنُ ابنِ عَبَّاسٍ هو السَّجَّادُ لكثرة عبادته، الثَّقةُ، وُلِدَ ليلة قتْل عليٍّ في شهر رمضانَ سنة أربعين فسُمِّيَ باسمه، وكُنِّيَ بكنيته، فقال له عبدُ الملكِ بنُ مروانَ: لا والله لا أحتمل لك الاسم والكنية جميعًا، فغير كنيته فصيَّرها أبا مُحَمَّدٍ، ولي الخلافة وكان له خمسمائة شجرةٍ وصلَّى عند أصل كلِّ شجرةٍ ركعتين، فكان يصلِّي في اليوم ألف ركعةٍ، مات بعد العشر ومائة، إمَّا سنة أربع عشرة، أو سبع عشرة، أو ثماني عشرة، أو تسع عشرة، عن ثمانٍ أو تسعٍ وسبعين سنةً، روى له الجماعة خلا البخاريَّ ففي الأدب.
          الثَّانية: قوله: (انْطَلِقَا إِلَى أَبِي سَعِيدٍ فَاسْمَعَا مِنْ حَدِيثِهِ) فيه: أنَّ العَالِمَ يبعثُ ولدَه إلى عَالِمٍ آخر ليتعلَّم منه لأنَّ العلم لا يحويه أحدٌ.
          وقوله: (فِي حَائِطِهِ) أي: بستانه.
          وقوله: (فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَاحْتَبَى، ثمَّ أَنْشَأَ يُحَدِّثُنَا) فيه: أنَّ العالم يتهيَّأ للحديث ويجلس له جلسةً تأهُّبًا لذلك، ومعنى (أَنْشَأَ يُحَدِّثُنَا) أخذ في الحديث.
          وقوله: (لَبِنَةً...) إلى آخره، فيه: ارتكاب المشقَّة في عمل البرِّ.
          قال ابنُ إِسْحَاقَ: وعَمَّارُ أوُّل مَنْ بنى لله مسجدًا، قال السُّهَيْلِيُّ: فكيف أضاف إليه بنيانه، وقد بناه معه النَّاس؟!
          فنقول: إنَّما عنى بهذا مسجدَ قُبَاءَ؛ لأنَّ عَمَّارًا هو الَّذي أشار على رسولِ اللهِ صلعم ببنيانه، وهو الَّذي جمع الحجارة له، فلمَّا أسسَّه رسولُ اللهِ صلعم استتمَّ بنيانه عَمَّارٌ، كذا ذكره ابنُ إِسْحَاقَ.
          الثَّالثة: التَّعاون في بنيان المسجد مِنْ أفضل الأعمال؛ لأنَّ ذلك ممَّا يجزي الإنسان أجره بعد مماته، ومثل ذلك حفر الآبار، وتحبيس الأموال الَّتي يعمُّ العامَّة نفعها، والولد الصَّالح يدعو له بعد موته، قال المُهَلَّبُ: وفيه: بيان ما اختُلف فيه مِنْ قِصَّةِ عَمَّارٍ.
          وقوله: (يَدْعُوهُمْ إِلَى الجَنَّةِ، وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ) إنَّ ما يصحُّ ذلك في الخوارج الَّذين بعث إليهم عليُّ بنُ أبي طالبٍ عَمَّارًا يدعوهم إلى الجماعة، وليس يصحُّ في أحدٍ مِنَ الصَّحابة؛ لأنَّه لا يجوز لأحدٍ مِنَ المسلمين أن يتأوَّل عليهم إلَّا أفضل التَّأويل؛ لأنَّهم الصَّحابة الَّذين أثنى الله عليهم وشهد لهم بالفضل بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]. قال المفسِّرون: وهم أصحاب مُحمَّدٍ صلعم، وقد صحَّ أنَّ عَمَّارًا بعثه عليٌّ إلى الخوارج يدعوهم إلى الجماعة الَّتي فيها العصمة بشهادة النَّبيِّ صلعم أنَّ أمَّته لا تجتمع على ضلالٍ.
          وفيه: أنَّ عَمَّارًا فهم عن النَّبيِّ صلعم أنَّ هذه الفتنة في الدِّين يُسْتَعَاذُ بالله منها، وفي الاستعاذة منها دليلٌ أنَّه لا يدري أحدٌ في الفتنة أهو مأجورٌ أم مأثومٌ إلَّا بغلبة الظَّنِّ، ولو كان مأجورًا / لَمَا استعاذ بالله مِنَ الأجر، وهذا يردُّ الحديث المروي: ((لَا تَسْتَعِيْذُوا باللهِ مِنَ الفِتْنَةِ فَإِنَّهَا حَصَادُ المُنَافِقِيْنَ)).
          الرَّابعة: فيه: فضيلةٌ ظاهرةٌ لعَمَّارٍ وهو علمٌ مِنْ أعلام النُّبوَّة؛ لأنَّ الشَّارع أخبر بما يكون فكان كما قال.