التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الشعر في المسجد

          ░68▒ بَابُ الشِّعْرِ فِي المَسْجِدِ
          453- حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ الحَكَمُ بنُ نَافِعٍ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ، أَنَّهُ سَمِعَ حَسَّانَ بنَ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيَّ، يَسْتَشْهِدُ أَبَا هُرَيْرَةَ: أَنْشُدُكَ اللهَ، هَلْ سَمِعْتَ النَّبِيَّ صلعم يَقُولُ: يَا حَسَّانُ، أَجِبْ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلعم، اللهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ القُدُسِ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: نَعَمْ.
          الكلام عليه مِنْ أوجهٍ:
          أحدها: هذا الحديث أخرجه البخاريُّ أيضًا في باب بدء الخلق [خ¦3212] والأدب [خ¦6152]، وأخرجه مسلمٌ في الفضائل.
          ثانيها: لم يذكر أبو مَسْعُودٍ والحُمَيْدِيُّ وغيرهما أنَّ لحَسَّانَ بنَ ثابتٍ روايةٌ في هذا الحديث، ولا ذكروا له حديثًا مسندًا، وإنَّما أوردوا هذا الحديث في مسند أبي هريرةَ، وخالف خَلَفٌ فذكره في مسند حَسَّانَ، وأنَّه روى عن النَّبيِّ صلعم هذا الحديث، وذكره في مسند أبي هريرةَ أنَّ البخاريَّ أخرجه في الصَّلاة عن أبي اليَمَانِ به، وذكر ابنُ عَسَاكِرَ لحَسَّانَ حديثين مسندين أحدهما هذا، وذكر أنَّه في أبي داودَ مِنْ طريق سَعِيْدِ بنِ المُسَيِّبِ عن أبي هريرةَ، قال: وليس في حديثه استشهاد حَسَّانَ به وأنَّه في النَّسَائِيِّ مرَّةً بالاستشهاد، ومرَّةً مِنْ حديث سَعِيْدٍ عن عُمَرَ بعدمه.
          ثمَّ أورده في مسند أبي هريرةَ مِنْ طريق أبي سَلَمَةَ عنه.
          وفي كتاب «مَنْ عاشَ مائةً وعشرين سنةً مِنَ الصَّحابةِ» مِنْ حديث عُبَيْدِ اللهِ بنِ عبدِ اللهِ عن أبي هريرةَ: أنَّ عُمَرَ مرَّ بحَسَّانَ... الحديثَ.
          قال المُنْذِرِيُّ: وسَعِيْدُ لم يصحَّ سماعه مِنْ عُمَرَ، فإن كان سمع ذلك مِنْ حَسَّانَ فيتَّصل.
          قُلْتُ: والبخاريُّ أخرجه في بدء الخلق مِنْ طريق سَعِيْدٍ قال: ((مرَّ عُمَرُ في المَسْجِدِ...)) الحديثَ [خ¦3212]، وفيه: ثمَّ التفت إلى أبي هريرةَ وقالَ: ((أَنْشُدُكَ باللهِ)) فذكره، وصرَّحَ مسلمٌ بسماعِ سَعِيْدٍ له مِنْ أبي هريرةَ، وقيل: إنَّ أبا سَلَمَةَ سمعَ مِنْ حَسَّانَ.
          الثَّالث: حَسَّانُ هذا هو ابنُ ثابتِ بنِ المُنْذِرِ بنِ حَرَامٍ الخَزْرَجِيُّ النَّجَّارِيُّ الشَّاعِرُ المَدَنِيُّ أبو الحُسَامِ أو أبو المُضَرَّبِ أو أبو عبدِ الرَّحمنِ شاعرُ رسولِ اللهِ صلعم، وأمُّهُ الفُرَيْعَةُ بنتُ خالدٍ الصَّحابيَّةُ، وكان قديم الإسلام ينصر النَّبيَّ صلعم بلسانه، ولم يشهد معه مشهدًا؛ لأنَّه كان يُجَبَّن، وقيل: إنَّه كان شجاعًا، فأصابته علَّةٌ، فحدث ذلك به؛ واستُبْعِدَ ذلك فإنَّ العرب لم تعيِّره به، وكان يهاجيهم ولسانه فيهم أشدُّ مِنَ النَّبل.
          وقد يُجَابُ بأنَّه لمَّا كان ينافح عن الشَّارع عصمه الله عن ذلك ببركته، عاش مائة وعشرين سنةً، وكذا أبناؤه الثَّلاثة، ولا يُعْرَفُ لغيرهم مِنَ العرب مثله كما قاله أبو نُعَيْمٍ.
          وقد قيل: مات حَسَّانُ سنة خمسين، ولحَسَّانَ ولدٌ اسمه عبدُ الرَّحمنِ، فكان إذا ذكر ما عاشه سلفه استلقى على فراشه وضحك وتمدَّد، وتوهَّم أنَّه يعيش كذلك، فمات وهو ابنُ ثمان وأربعين سنةً.
          ولا يُعْرَفُ خمسةٌ مِنَ الشُّعراء على نسقٍ واحدٍ، شاعرٌ ابنُ شاعرٍ ابن شاعرٍ إلَّا هؤلاء.
          أمَّا مَنْ عاش مائة وعشرين ستين في الجاهليَّة وستين في الإسلام، فذكر ابنُ الصَّلَاحِ مع حَسَّانَ على إشكالٍ فيه حَكِيْمَ بنُ حِزَامٍ ولم يذكر غيرهما، وتبعه النَّوَوِيُّ في «تقريبه» وزاد في «تهذيبه» فقال: لا يُعْرَفُ لهما مُشاركٌ في ذلك، وليس كما ذكر فقد ذكرت في كتابي: «المُقْنِعُ فِي علومِ الحديثِ» ثمانية أنفسٍ أخر.
          أمَّا مَنْ عاش مائة وعشرين مطلقًا فجماعةٌ أُخر أفردهم ابنُ مَنْدَهْ في جزءٍ، وكان لحَسَّانَ لسانٌ طويلٌ يضرب به أذنه، مات في خلافة مُعَاوِيَةَ، بعد أن عَمِيَ سنة خمسٍ أو أربعٍ وخمسين، وقيل: خمسين، وقيل: تُوُفِّيَ قبل الأربعين في خلافة عليٍّ.
          الرَّابع: ليس في الباب ما ترجم له البخاريُّ أنَّه أنشد في المسجد، نعم فيه في باب بدء الخَلْقِ مِنْ حديث سَعِيْدٍ: ((مرَّ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ في المسجد وحَسَّانُ ينشد فلحظ إليه، فقال: كنت أُنشدُ فيه وفيه مَنْ هو خيرٌ منك، ثمَّ التفت إلى أبي هريرةَ...)) الحديث [خ¦3212]، ولأبي داودَ: فخشي أن يرميه برسول الله صلعم فأجازه، وعدل البخاريُّ عن هذا الحديث هنا ليقدح الطَّالب فكره ويشحذ ذهنه ولأنَّ فيه الأمر بالإجابة عن الشَّارع، والدُّعاء بالتَّأييد، وهو لأجل إجابته عنه.
          الخامس: الحديث ظاهرٌ في جواز إنشاد الشِّعر فيه، وقد اختلف العلماء في ذلك: فأجازته طائفةٌ إذا كان الشِّعر ممَّا لا بأس بروايته، قال ابنُ حَبِيْبٍ: رأيت ابنَ المَاجِشُونَ ومُحَمَّدَ بنَ سَلَّامٍ ينشدان فيه الشِّعر ويذكران أيَّام العرب، وقد كان اليَرْبُوعُ والضَّحَّاكُ بنُ عُثْمَانَ يٌنشدان مالكًا ويحدِّثانه بأخبار العرب، فيصغي إليهما.
          وخالفهم في ذلك آخرون فكرهوا إنشاده فيه، واحتجُّوا بحديث عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ عن أبيه عن جدِّه: نهى رسولُ اللهِ صلعم عن تناشد الأشعار في المساجد، أخرجه ابنُ خُزَيْمَةَ في «صحيحه» وحسَّنه التِّرْمِذِيُّ، وحديث حَكِيْمِ بنِ حِزَامٍ مرفوعًا: نَهَى رَسُولُ اللهِ أَنْ يُسْتَقَادَ في المسجدِ، وأن يُنْشَدَ فيهِ الأشعارُ. أخرجه أبو داودَ، وحديث جُبَيْرٍ وابنِ عُمَرَ وابنِ عَبَّاسٍ مثله.
          وحديث أَسِيْدِ بنِ عبدِ الرَّحمنِ أنَّ شاعرًا جاء إلى النَّبيِّ صلعم وهو في المسجد، فقال: أُنْشِدُكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ((لَا)) قَالَ: بَلَى، فَقَالَ لَهُ النَّبيُّ صلعم: ((فَاخْرُجْ مِنَ المَسْجِدِ))، فَخَرَجَ فَأَنْشَدَ، فَأَعْطَاهُ النَّبيُّ صلعم / ثوبًا وَقَالَ: ((هَذَا بَدَلَ مَا مَدَحْتَ بِهِ رَبَّكَ)).
          وأجاب الأوَّلون بالطَّعن في هذه الأحاديث: أمَّا حديث عَمْرٍو؛ فقال ابنُ حَزْمٍ: لا يصحُّ؛ لأنَّه صحيفةٌ، وإن كنَّا لا نوافقه، وأمَّا حديث حَكِيْمٍ؛ فضعَّفه عبدُ الحَقِّ، وبيَّنه ابنُ القَطَّانِ بما فيه نظرٌ، وحديث جُبَيْرٍ طعن فيه، وكذا حديث ابنِ عُمَرَ ردَّه ابنُ عَدِيٍّ بالفراتِ بنِ السَّائِبِ، وحديث ابنِ عَبَّاسٍ ضعيفٌ منقطعٌ، وحديث أَسِيْدٍ ذكره عبدُ الرَّزَّاقِ في إسناده ابنُ أبي يحيى، وحالته معروفةٌ، وحديث الباب هنا، وفي بدء الخلق دالٌ لهم إذ كان ذلك بحضرة الصَّحابة، ولم ينكره أحدٌ منهم، ولا أنكره عُمَرُ أيضًا، فدلَّ على أنَّ الشِّعر الكائن بهذه المثابة لا يُمْنَعُ منه، وقد روى التِّرْمِذِيُّ مصحَّحًا مِنْ حديث عائشةَ: كانَ رَسُول اللهِ صلعم ينصب لحَسَّانَ منبرًا في المسجد، فيقوم عليه يهجو الكفَّار.
          ويُحْمَلُ النَّهي على تسليم الصِّحَّة على ما كان فيه السُّخف والباطل، وهذا أولى مِنْ تأويل أبي عبدِ الملكِ: أنَّ ذلك كان في أوَّل الإسلام، وكذا لعب الحبش فيه، وكان المشركون إذ ذاك يدخلونه، فلمَّا كمل الإسلام زال ذلك كلُّه، وكذا قول ابنُ بَطَّالٍ: يجوز أن يكون الشِّعر الَّذي يغلب على المسجد حتَّى يكون كلُّ مَنْ فيه متشاغلًا به، كما تأوَّل أبو عُبَيْدٍ في قوله ◙: ((لأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قِيْحًا حَتَّى يريه خَيْرٌ لَهُ مَنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا)) أنَّه الَّذي يغلب على صاحبه.
          السَّادس: (رُوحِ القُدُسِ) جِبْرِيْلُ، و(القُدُسِ) فيه أقوالٌ:
          أحدها: أنَّه الله تعالى، قاله كَعْبٌ، أي أنَّه رُوح اللهِ، والثَّاني: البركةُ، والثَّالث: الطَّهارةُ، وكأنَّه رُوحُ الطَّهارةِ وخالصُها، وسُمِّي رُوحًا لأنَّه يأتي بالبيانِ عَنِ اللهِ فيحيى به الأرواح.