التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب في كم تصلي المرأة في الثياب

          ░13▒ بَابٌ: فِي كَمْ تُصَلِّي المَرْأَةُ مِنَ الثِّيَابِ؟
          وَقَالَ عِكْرِمَةُ: (لَوْ وَارَتْ جَسَدَهَا فِي ثَوْبٍ جَازَ).
          وهذا التَّعليق أسنده بنحوه ابنُ أبي شَيْبَةَ عن أبي أُسَامَةَ عن الجَرِيْرِيِّ عن عِكْرِمَةَ: أنَّه كان لا يرى بأسًا بالصَّلاة في القميص الواحد حصيفًا.
          وبهذا الإسناد عنه: تُصَلِّي المرأة في درعٍ وخمارٍ حصيفٍ قال: وحدَّثنا أَبَانُ بنُ صَمْعَةَ عن عِكْرِمَةَ عن ابنِ عَبَّاسٍ قال: لا بأس بالصَّلاة في القميص الواحد إذا كان صفيقًا، ثمَّ أسند عن مَيْمُونَةَ: أنَّها صَلَّتْ في درعٍ وخمارٍ، وفي أخرى: أنَّها صَلَّتْ في درعٍ واحدٍ فضلًا، وقد وضعت بعض كمِّها على رأسها، وعن عائشةَ وعليٍّ وابنِ عَبَّاسٍ: تُصَلِّي في درعٍ سابغٍ وخمارٍ، وعن إبراهيمَ: في الدِّرع والجلباب، وعن عُرْوَةَ وغيره: في درعٍ وخمارٍ حصيفٍ، وعن الحَكَمِ: في درعٍ وخمارٍ، وعن حَمَّادٍ: في درعٍ وملحفةٍ تُغَطِّي رأسها، وعن مُجَاهِدٍ: لا تُصَلِّي المرأةُ في أقلِّ مِنْ أربعة أثوابٍ، وعن مُجَاهِدٍ وعَطَاءٍ وابنِ سِيرِينَ: إذا حضرتها الصَّلاة وليس لها إلَّا ثوبٌ واحدٌ، قالوا: تَتَّزِرُ بِهِ.
          واختلف العلماء في عدد ما تُصَلِّي فيه المرأة مِنَ الثِّياب / فقالت طائفةٌ: تُصَلِّي في درعٍ وخمارٍ، رُوِيَ ذلكَ عن مَيْمُونَةَ وعائشةَ وأُمِّ سَلَمَةَ أُمَّهات المؤمنين، وهو مَرْوِيٌّ عن ابنِ عَبَّاسٍ كما سلف، وبه قال مالكٌ واللَّيْثُ والأوزاعيُّ والثَّوْرِيُّ وأبو حنيفةَ والشَّافعيُّ.
          وقالت طائفةٌ: تُصَلِّي في ثلاثة أثوابٍ، درعٌ وخمارٌ وحَقْوٌ، وهو الإزار في لغة الأنصار، رُوِيَ ذلك عن ابنِ عُمَرَ وعُبَيْدَةَ وعَطَاءٍ.
          وقالت طائفةٌ: تُصَلِّي في أربعة أثوابٍ، وهو الخِمار والدِّرع والإزار والملحفة، رُوِيَ ذلك عن مُجَاهِدٍ وابنِ سِيرِينَ.
          وقالَ ابنُ المُنْذِرِ: على المرأة أن تَسْتُرَ في الصَّلاة جميع بدنها سوى وجهها وكفَّيها، سواءٌ سترته بثوبٍ واحدٍ أو أكثر، ولا أحسب ما رُوِيَ عن المتقدِّمين في ذلك مِنَ الأمر بثلاثة أثوابٍ أو أربعةٍ إلَّا مِنْ طريق الاستحباب، وعند الشَّافعيِّ أنَّ عورة الحُرَّةِ ما سوى الوجه والكفَّين، ورُوِيَ عن أحمدَ أنَّها كلَّها عورةٌ حتَّى ظفرها، وعند مالكٍ أنَّها إذا صَلَّتْ وقَدَمُها مكشوفٌ أعادت في الوقت، وقال أبو حنيفةَ والثَّوْرِيُّ: لا تُعِيدُ أبدًا، وقَدَمُها ليست بعورةٍ.
          فائدةٌ: قوله: (وَارَتْ) أي أخفت وسترت ومنه: {يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ} [الأعراف:26]، و{يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ} [المائدة:31].
          372- ثمَّ ساقَ حديثَ عائشةَ قَالَتْ: (لَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلعم يُصَلِّي الفَجْرَ، فَيَشْهَدُ مَعَهُ نِسَاءٌ مِنَ المُؤْمِنَاتِ مُتَلَفِّعَاتٍ فِي مُرُوطِهِنَّ، ثمَّ يَرْجِعْنَ إِلَى بُيُوتِهِنَّ مَا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الغَلَسِ)، والكلام عليه مِنْ وجوهٍ، ويأتي في الصَّلاة أيضًا [خ¦578] [خ¦872].
          أحدها: هذا الحديث أخرجه أيضًا مسلمٌ والأربعة، ووجه إيراده هنا ما فهمه مِنَ التَّلَفُّعِ، وسيأتي حقيقته.
          ثانيها: (كَانَ) هذه تعطي المداومة والاستمرار على الشَّيء، ومِنْ عادته صلعم أن يصلِّي الصُّبح في هذا الوقت، نعم أسفر بها مرَّةً كما أخرجه أبو داودَ مِنْ حديث ابنِ مَسْعُودٍ: ((أَنَّهُ ◙ صَلَّى الصُّبْحَ مَرَّةً بِغَلَسٍ، ثمَّ صَلَّى مَرَّةً أُخْرَى فَأَسْفَرَ بِهَا، ثمَّ كَانَتْ صَلَاتُهُ بَعْدُ بِالغَلَسِ حَتَّى مَاتَ صلعم لَمْ يَعُدْ إِلَى أَنْ يُسْفِرَ)) صححَّه ابنُ حِبَّانَ، وقالَ الخَطَّابِيُّ: صحيح الإسناد.
          ثالثها: معنى (يَشْهَدُ) هنا: يحضر ومنه قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] أي حضر.
          رابعها: النِّساء مِنَ الجمع الَّذي لا واحد له مِنْ لفظه، إذ الواحد امرأةٌ، وله نظائرٌ كثيرةٌ.
          خامسها: (مُتَلَفِّعَاتٍ) _بالعين المهملة بعد الفاء_ أي ملتحفاتٍ، ورُوِيَ بالفاء المكرَّرة بدل العين، والأكثر على خلافه كما قاله ابنُ التِّيْنِ قُبيل الجُمُعَةِ، ومعناهما متقاربٌ، إلَّا أنَّ التَّلِفُّع يُسْتَعْمَلُ مع تغطية الرَّأس، بل قالَ ابنُ حَبِيْبٍ: لا يكون إلَّا بالتَّغطية، وعن الأَصْمَعِيِّ: أنَّ التَّلفُّع أن يشتمل به حتَّى يجلِّل به جسده، وهذا اشتمال الصَّمَّاء عند العرب؛ لأنَّه لم يرفع جانبًا منه، فيكون فيه فرجةٌ، وهو عند الفقهاء مثل ما وصفنا مِنَ الاضطباع إلَّا أنَّه في ثوبٍ واحدٍ.
          سادسها: المُرُوطُ جمع مِرْطٍ _بكسر الميم_ أكسيَّةٌ مُعْلَمةٌ تكون مِنْ خزٍّ، وتكون مِنْ صوفٍ، وتكون مِنْ كتَّانٍ، وقيل: الإزار. وقيل: لا يكون إلَّا درعًا، وهو مِنْ خزٍّ أخضَرَ، ولا يُسَمَّى المِرْطُ إلَّا الأخضرَ، ولا يلبسه إلَّا النِّساءُ.
          سابعها: الغَلَسُ اختلاط ضياء الفجر بظلمة اللَّيل، والغَبَشُ قريبٌ منه، لكنِ الغَلَسُ آخرُ اللَّيل، والغَبَشُ قد يكون في أوَّله وفي آخره.
          ثامنها: قولها: (مَا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الغَلَسِ) أي أنساءٌ هنَّ أم رجالٌ؟، إنَّما يظهر للرَّائي الأشباح خاصَّةً، وأبعد مَنْ قال: ما تُعرف أعيانهنَّ.
          تاسعها: فيه دلالةٌ لمذهب الجمهور أنَّ التَّغليس بالصُّبح أفضل، وبه قال مالكٌ والشَّافعيُّ وأحمدُ، وقال أبو حنيفةَ: الإسفار بها أفضل لحديث ((أَسْفِرُوا بِالفَجْرِ، فَإِنَّهُ أَعْظَمُ للأَجْرِ))، وعنه أجوبةٌ وإن صححَّه التِّرْمِذِيُّ ذكرتها في شرحي للعمدة.
          منها: أنَّه محمولٌ على تحقُّق الفجر أو على اللَّيالي المقمرة، ووَهِمَ الطَّحَاوِيُّ حيث ادَّعى أنَّه ناسخٌ لحديث التَّغليس، وعن أحمدَ فيما حكاه ابنُ قُدَامَةَ: أنَّه إذا اجتمع الجيران فالتَّغليس أفضل، وإن تأخَّروا فالتَّأخير أفضل، قال الطَّحَاوِيُّ: إن كان مِنْ عزمه التَّطويل شرع بالتَّغليس، ويخرج منها بالإسفار، ولا يشرع بالإسفار، وزعم أنَّه قول أبي حنيفةَ وأبي يُوسُفَ ومُحَمَّدٍ.
          عاشرها: فيه دلالةٌ على خروج النِّساء، وهو جائزٌ بشرط أمن الفتنة عليهنَّ أو بهنَّ، وكرهه بعضهم للشَّواب، وشرح الحديث مبسوطٌ جدًّا في: شرحي للعمدة فراجعه منه.