التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب فضل استقبال القبلة

          ░28▒ بَابُ فَضْلِ اسْتِقْبَالِ القِبْلَةِ
          يَسْتَقْبِلُ بِأَطْرَافِ رِجْلَيْهِ القِبْلَةِ قَالَهُ أَبُو حُمَيْدٍ: عَنِ النَّبِيِّ صلعم.
          هذا التَّعليق ثابتٌ في بعض النُّسخ، وقد أسنده البخاريُّ بعد.
          391- ثمَّ ذكرَ البخاريُّ في الباب حديثَ أَنَسٍ مِنْ طريقٍ مسندًا ومِنْ آخر معلَّقًا. أسنده مِنْ حديث عَمْرِو بنِ عَبَّاسٍ، حَدَّثَنَا ابنُ مَهْدِيِّ، حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بنُ سَعْدٍ، عَنْ مَيْمُونِ بنِ سِيَاهٍ _بسينٍ مهملةٍ ثمَّ مثنَّاةٍ تحتُ_ عَنْ أَنَسِ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَذَلِكَ المُسْلِمُ الَّذي لَهُ ذِمَّةُ اللهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ، فَلَا تُخْفِرُوا اللهَ فِي ذِمَّتِهِ.
          392- ثمَّ أخرجَهُ معلَّقًا فقالَ: وقَالَ ابنُ المُبَارَكِ: عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسٍ _مرفوعًا_: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَإِذَا قَالُوهَا وَصَلَّوْا صَلاَتَنَا وَاسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا وَذَبَحُوا ذَبِيحَتَنَا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ).
          كذا ذكره معلَّقًا عن ابنِ المُبَارَكِ، وفي بعض النُّسخ: حدَّثنا نُعَيْمٌ قالَ حدَّثنا ابنُ المُبَارَكِ، وذكره خَلَفٌ في «أطرافه» كما ذكرناه أوَّلًا، ثمَّ قال: وقال خَلَفُ بنُ شَاكِرٍ راوي «صحيح البخاريِّ» عنه قال نُعَيْمُ بنُ حَمَّادٍ: قال ابنُ المُبَارَكِ، واستخرجه أبو نُعَيْمٍ مِنْ حديث أحمدَ بنِ الحَجَّاجِ وأحمدَ بنِ حنبلٍ كلاهما عن ابنِ المُبَارَكِ.
          ثمَّ قالَ: رواه البخاريُّ، فقالَ: وقالَ ابنُ المُبَارَكِ، ولم يذكر مَنْ دونه، وأراد نُعَيْمَ بنَ حَمَّادٍ عنه.
          وأخرجه أبو داودَ في الجهاد، والتِّرْمِذِيُّ في الإيمان عن سَعِيدِ بنِ يَعْقُوبَ عن ابنِ المُبَارَكِ، والنَّسَائِيُّ في المحاربة عن مُحَمَّدِ بنِ حاتمٍ عن حِبَّانَ عن ابنِ المُبَارَكِ.
          393- ثمَّ أخرجه البخاريُّ ثالثًا مُعَلَّقًا موقوفًا فقالَ: وَقَالَ عَلِيُّ بنُ عَبْدِ اللهِ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بنُ الحَارِثِ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، قَالَ: سَأَلَ مَيْمُونُ بنُ سِيَاهٍ أَنَسًا قَالَ: يَا أَبَا حَمْزَةَ، مَا يُحَرِّمُ دَمَ العَبْدِ وَمَالَهُ؟ فَقَالَ: (مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَصَلَّى صَلَاتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا، فَهُوَ المُسْلِمُ، لَهُ مَا لِلْمُسْلِمِ، وَعَلَيْهِ مَا عَلَى المُسْلِمِ).
          ثمَّ قالَ: وقَالَ ابنُ أَبِي مَرْيَمَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بنُ أَيُّوبَ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ حَدَّثَنَا أَنَسُ بنُ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صلعم.
          فأمَّا ما علَّقه عن عليِّ بنِ المَدِيْنِيِّ شيخه فأسنده النَّسائيُّ عن أبي مُوسَى مُحَمَّدِ بنِ المُثَنَّى عن مُحَمَّدِ بنِ عبدِ اللهِ الأَنْصَارِيِّ عن حُمَيْدٍ قالَ: ((سَأَلَ مَيْمُونُ بنُ سِيَاهٍ أَنَسًا))، فذكره موقوفًا كما ذكره البخاريُّ.
          قالَ الإِسْمَاعِيْلِيُّ: والحديث حديث مَيْمُونٍ، وإنَّما سمعه حُمَيْدٌ منه، ولا يُحْتَجُّ بيحيى بنِ أَيُّوبَ في قوله: عن حُمَيْدٍ حدَّثنا أَنَسٌ، قالَ: ويدلُّ على ذلك ما أخبرنا يَحْيَى بنُ مُحَمَّدٍ البَخْتَرِيُّ حدَّثنا عُبَيْدُ اللهِ بنُ مُعَاذٍ حدَّثنا أبي حدَّثنا حُمَيْدٌ عن مَيْمُونٍ: ((سَأَلْتُ أَنَسًا مَا يُحَرِّمُ دَمَ المُسْلِمِ وَمَالَهُ؟)) الحديثَ.
          قال: وما ذكره البخاريُّ عن عليٍّ عن خالدٍ فهو يثبت ما جاء به مُعَاذُ بنُ مُعَاذٍ؛ لأنَّ مَيْمُونَ بنَ سِيَاهٍ هو الَّذي سأل وحُمَيْدٌ منه سمع، وأمَّا ما علَّقه عن ابنِ أبي مريمَ ففيه فائدةٌ، وهي تصريح حُمَيْدٍ بسماعه إيَّاه مِنْ أَنَسٍ، لكن قد علمت طعن الإِسْمَاعِيْلِيِّ فيه.
          وقد وصله أبو نُعَيْمٍ مِنْ حديث يَحْيَى بنِ أَيُّوبَ: أخبرني حُمَيْدٌ سمع أَنَسًا فذكره، والطَّريقة الأولى المسندة الَّتي أخرجها البخاريُّ عن عَمْرِو بنِ عَبَّاسٍ أخرجها النَّسَائيُّ عن حَفْصِ بنِ عُمَرَ، قال الكَسَّارُ راوي النَّسَائِيِّ: سمعت عبدَ الصَّمَدِ البخاريَّ يقول: حَفْصُ بنُ عُمَرَ لا أعرفه إلَّا أن يكون سقط الواو مِنْ عَمْرٍو، فيكون حَفْصُ بنُ عَمْرٍو الرَّبَالِيُّ.
          قُلت: لكن حَفْصٌ هذا لم يرو عنه النَّسَائِيُّ، وروى عنه ابنُ مَاجَهْ فقط، قال ابنُ عَسَاكِرَ: هذا هو حَفْصُ بنُ عُمَرَ أبو عَمْرٍو المِهْرَقَانِيُّ الرَّازيُّ معروفٌ.
          إذا تقرَّر ذلك فالكلام عليه مِنْ أوجهٍ:
          أحدها: (مَيْمُونُ بنُ سِيَاهٍ) وَرِعٌ صدوقٌ، ضعَّفه ابنُ مَعِيْنٍ، (ومَنْصُورُ بنُ سَعْدٍ) هو البَصْرِيُّ صاحب اللُّؤلؤ، ثقةٌ، و(عَمْرُو بنُ عَبَّاسٍ) _بالباء الموحَّدة_ انفرد به البخاريُّ، مات سنة خمسٍ وثلاثين ومائتين، ولا أعرف حاله، وباقي رجال إسناده معروفون.
          ثانيها: قوله: (وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا) جاء في الإِسْمَاعِيْلِيِّ: (وَذَبَحُوا ذَبِيحَتَنَا)، وذلك أنَّ طوائف مِنَ الكتابيِّين والوثنيِّين يتحرَّجون مِنْ أكل ذبائح المسلمين.
          وقوله: (ذِمَّةُ اللهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ) أي ضمان الله وضمان رسوله.
          قال صاحب «المحكم»: الذِّمام الحقُّ، والذِّمَّة العهد والكفالة، وقال ابنُ عَرَفَةَ: الذِّمَّة الضَّمان، وبه سُمِّيَ أهل الذِّمَّة لدخلوهم في ضمان المسلمين، وقال الأَزْهَرِيُّ في قوله تعالى: {إِلًّا وَلَا ذِمَّةً} [التَّوبة:8] أي أمانًا.
          وقوله: / (فَلَا تُخْفِرُوا اللهَ) أي لا تخونوه، وهو رباعيٌّ؛ يُقَالُ: أخفرته إذا غدرت به، وخفرته إذا كنت له خفيرًا وضمنته، وفي «الفصيح»: خفرت الرَّجل إذا أجرته، وأخفرته إذا نقضت عهده، وقال كُرَاعٌ وابنُ القَطَّاعِ: أخفرته بعثت معه خفيرًا.
          وذكر ابنُ الأَثِيْرِ أنَّ المراد هنا أن لا تزيلوا خفارته، وقوله: (لَهُ مَا لِلْمُسْلِمِ، وَعَلَيْهِ مَا عَلَى المُسْلِمِ) أي يُسَلَّمُ عليه، ويُعَادُ إذا مَرِضَ ويشهد جنازته إن مات، إلى غير ذلك ممَّا يلزم المسلم للمسلم.
          ثالثها: حديث: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ) سلف الكلام عليه في باب: فإن تابوا وأقاموا الصَّلاة وآتوا الزَّكاة مِنْ كتاب الإيمان [خ¦25]، فراجعه منه، وهناك ذكر الشَّهادة الثَّانية لكن مِنْ حديث ابنِ عُمَرَ.
          قال الطَّبَرِيُّ: ووجه هذا الحديث أنَّه ◙ قاله لأهل الأوثان الَّذين كانوا لا يقرُّون بالتَّوحيد، {وَكَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصَّافَّات:35]، فدعاهم إلى الإقرار بالوحدانيَّة وخلع ما دونه مِنَ الأوثان، فمَنْ أقرَّ بذلك منهم كان في الظَّاهر داخلًا في الإسلام، والرِّواية الأخرى الَّتي فيها الشَّهادة الثَّانية جاءت لِمَنْ قال بالتَّوحيد، وإنكار نبوَّة نبيِّنا مُحَمَّدٍ صلعم؛ لأنَّ كفرهم كان جحدًا للتَّوحيد، ثمَّ يراجع الكلمة الأخرى، فإن أنكروا شيئًا مِنَ الفرائض عادوا حربيِّين، وفي هذا الجمع نظرٌ لأنَّ في حديثنا هذا: ((وَصَلَّوا صَلَاتَنَا)) وهي مشتملةٌ على الشَّهادتين.
          وقال الخَطَّابِيُّ: الحديث الأوَّل جاء في الكفِّ عمَّنْ أظهر شعار الإسلام، والثَّاني في ترك الكفِّ عمَّنْ لم يظهر شعائر الإسلام، حتَّى تُسْتَوْفَى منه هذه الشَّرائط بحسب اختلاف الأحوال والأوقات، لأنَّ أمور الدِّين وفرائضه شُرِعَتْ شيئًا بعد شيءٍ، فصار كلُّ واحدٍ منها في زمانه شرطًا يحقن الدَّم وحرمة المال.
          رابعها: هذا الحديث دالٌ على تعظيم شأن القِبْلَة وهي مِنْ فرائض الصَّلاة، والصَّلاة أعظم القربات وأجلُّ المثوبات، ومَنْ ترك القِبْلَة متعمِّدًا فلا صلاة له، ومَنْ لا صلاة له فلا دين له، ثمَّ استقبال القِبْلَة شرطٌ لصلاة القادر إلَّا في شدَّة الخوف وبعد السَّفر المرخَّص على ما بسطناه في كتب الفروع، فليراجع منه، ثمَّ مَنْ كان بمكَّةَ فالفرض في حقِّه إصابة العين قطعًا، ومَنْ بَعُدَ عنها لزمه ذلك بالظَّنِّ في أصحِّ قولي الشَّافعيِّ، وقال مرَّةٍ أنَّ فرضه الجهة.