التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب بنيان المسجد

          ░62▒ بَابُ بُنْيَانِ المَسْجِدِ
          446- وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: (كَانَ سَقْفُ المَسْجِدِ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ) هذا التَّعليق يأتي مسندًا في باب: هل يصلِّي الإمام بمَنْ حضر؟ وهل يخطب يوم الجُمُعَةِ في المطر؟ [خ¦668].
          قال البخاريُّ: وَأَمَرَ عُمَرُ بِبِنَاءِ المَسْجِدِ وَقَالَ: (أَكِنَّ النَّاسَ مِنَ المَطَرِ، وَإِيَّاكَ أَنْ تُحَمِّرَ أَوْ تُصَفِّرَ فَتَفْتِنَ النَّاسَ).
          في ابنِ مَاجَهْ بإسناده ضعيفٌ نحو هذا عنه مرفوعًا: ((مَا سَاءَ عَمَلُ قَوْمٍ قَطُّ إلَّا زَخْرَفُوا مَسَاجِدَهُمْ)).
          وقوله: (أَكِنَّ) قال ابنُ التِّيْنِ: رُوِّيناه بضمِّ الهمزة، وكسر الكاف على أنَّه رباعيٌّ، وهو قول أبي زيدٍ، وأمَّا الكِسَائِيُّ فقال: هو ثلاثيٌّ، تقول: كننت الشَّيء سترته، وصنته مِنَ الشَّمس، وأكننْتُهُ في نفسي: أسررته، وقال أبو زيدٍ: كننته وأكننته بمعنًى في الكَنِّ، وفي النَّفس جميعًا.
          وقوله: (وَإِيَّاكَ أَنْ تُحَمِّرَ أَوْ تُصَفِّرَ فَتَفْتِنَ النَّاسَ)، قال: رُوِّيناه بضمِّ التَّاء على أنَّه رباعيٌّ مِنْ أفتن، وأنكر ذلك الأَصْمَعِيُّ وأجازه أبو عُبَيْدٍ، ويمكن أن يكون فَهِمَ هذا مِنْ ردِّ الشَّارع الخميصة إلى أبي جَهْمٍ، حيث نظر إلى أعلامها في الصَّلاة.
          قال البخاريُّ: (وَقَالَ أَنَسٌ: يَتَبَاهَوْنَ بِهَا ثمَّ لَا يَعْمُرُونَهَا إِلَّا قَلِيلًا).
          وهذا أخرجه ابنُ خُزَيْمَةَ في «صحيحه» مِنْ حديث أبي قِلَابَةَ عن أَنَسٍ مرفوعًا: ((يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَتَبَاهُونَ بِالمَسَاجِدِ ثمَّ لَا يَعْمُرُونَهَا إِلَّا قَلِيلًا، أَوْ قَالَ: يَعْمُرُونَهَا قَلِيْلًا)).
          وقال البخاريُّ: (وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: لَتُزَخْرِفُنَّهَا كَمَا زَخْرَفَتِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى).
          وهذا أخرجه أبو داودَ بإسنادٍ صحيحٍ عنه بعد أن روى عنه مرفوعًا: ((مَا أُمِرْتُ بِتَشْيِيدِ المَسَاجِدِ)).
          والزَّخرفةُ الزِّينة، أي: لتزيِّنَّها وتموِّهنَّها، وأصل الزُّخرف: الذَّهب، والنَّهي خوف شغل المصلِّي، أو لإخراج المال في غير وجهه أو لهما.
          446- ثمَّ سَاقَ البخاريُّ حديثَ نافعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللهِ أَخْبَرَهُ أَنَّ المَسْجِدَ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلعم مَبْنِيًّا بِاللَّبِنِ، وَسَقْفُهُ الجَرِيدُ، وَعُمُدُهُ خَشَبُ النَّخْلِ، فَلَمْ يَزِدْ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ شَيْئًا، وَزَادَ فِيهِ عُمَرُ: وَبَنَاهُ عَلَى بُنْيَانِهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلعم بِاللَّبِنِ وَالجَرِيدِ وَأَعَادَ عُمُدَهُ خَشَبًا، ثمَّ غَيَّرَهُ عُثْمَانُ فَزَادَ فِيهِ زِيَادَةً كَثِيرَةً: وَبَنَى جِدَارَهُ بِالحِجَارَةِ المَنْقُوشَةِ، / وَالقَصَّةِ وَجَعَلَ عُمُدَهُ مِنْ حِجَارَةٍ مَنْقُوشَةٍ وَسَقَفَهُ بِالسَّاجِ.
          قوله: (بِاللَّبِنِ) رُوِّيناه بفتح اللَّام وكسر الباء كما قال ابنُ التِّيْنِ، وقال ابنُ السِّكِّيْتِ: مِنَ العرب مَنْ يقول: لِبْنَةٌ ولِبَنٌ، مثل لِبْدَةٌ ولِبَدٌ، قال السُّهَيْلِيُّ: نخرت عمده في خلافة عُمَرَ فجدَّدها، فلمَّا كان عُثْمَانُ بناه بالحجارة كما سلف، وجعل قبلته مِنَ الحجارة.
          (وَالقَصَّةِ) _بالقاف والصَّاد المهملة_ الجصُّ، وقال الخَطَّابِيُّ: شيءٌ يشبهه، وليس به.
          و(السَّاجِ) نوعٌ مِنَ الخشب يُجَاء به مِنَ الهند، ثمَّ بناه عبدُ اللهِ بنُ الزُّبَيْرِ، ثمَّ الوليدُ بنُ عبدِ الملكِ، ثمَّ المَنْصُورُ، ثمَّ المَهْدِيُّ ووسَّعه، وزاد فيه سنة ستين ومائةٍ، ثمَّ زاد فيه المأمونُ سنة اثنتين ومائتين، وأتقن بنيانه، قال السُّهَيْلِيُّ: ولم يبلغنا أنَّ أحدًا غَيَّرَ منه شيئًا.
          قال ابنُ بَطَّالٍ: جاءت الآثار عن النَّبيِّ صلعم بكراهة تشييد المساجد وتزيينها، فروى حَبِيْبُ ابنُ الشَّهيدِ عن الحَسَنِ قالَ: لمَّا بُنِيَ المسجدُ قالوا: يا رسولَ اللهِ، كيفَ نبنيهِ؟ قالَ: ((لَيْسَ لِي رَغْبَةٌ عَنْ أَخِي مُوسَى، عَرِيْشٌ كَعَرِيْشِ مُوسَى)).
          وقال أُبَيُّ: إذا زوَّقتم مساجدكم، وحلَّيتم مصاحفكم فالدَّمار عليكم، وقد سلف حديث: ((مَا أُمِرْتُ بِتَشْيِيدِ المَسَاجِدِ))، وقال ابنُ عَبَّاسٍ: أُمِرْنَا أنْ نبني المساجد جُمًّا والمدائن شُرْفًا، وقال مُجَاهِدٌ: ((نُهِينَا أَنْ نُصَلِّيَ في مَسْجِدٍ مُشْرِفٍ)).
          وهذه الآثار مع ما ذكره البخاريُّ في الباب تدلُّ على أنَّ السُّنَّةَ في بنيان المساجد القصد، وترك الغُلُوِّ في تشييدها خشية الفتنة والمباهاة ببنيانها، ألا ترى أنَّ عُمَرَ قال للَّذي أمره ببناء المسجد: ((أَكِنَّ النَّاسَ مِنَ المَطَرِ، وَإِيَّاكَ أَنْ تُحَمِّرَ أَوْ تُصَفِّرَ فَتَفْتِنَ النَّاسَ))، وكان عُمَرُ قد فتح الله الدُّنيا في أيَّامه، ومكنَّه في المال، فلم يغيِّر المسجد عن بنيانه، ثمَّ كثر المال زمن عُثْمَانَ فلم يزد أن جعل مكان اللِّبن حجارةً وقَصَّةً، وسَقَفه بالسَّاج مكان الجريد، فلم يقصِّرا عن البلوغ في تشييده إلى أبلغ الغايات إلَّا عن علمٍ منهما عَنِ الشَّارعِ لكراهةِ ذلك، وليُقتدى بهما في الأخذ مِنَ الدنيا بالقصد والكفاية والزُّهد في معالي أمورها، وإيثار البلغة بها.
          روى بُرْدٌ أبو العَلَاءِ عن القَاسِمِ بنِ عبدِ الرَّحمنِ قال: جمعت الأنصار مالًا، فقالوا: يا رسول الله، ابنِ بهذا المسجدَ، فقال: ((إذًا يُعْجِبُ ذَلِكَ المُنَافِقِيْنَ))، فدلَّ على أنَّ المؤمنين لا يُعجبهم ذلك.