التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب المسجد يكون في الطريق من غير ضرر بالناس

          ░86▒ بَابُ المَسْجِد يَكُونُ في الطَّرِيقِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ بِالنَّاسِ.
          وبِهِ قَالَ الحَسَنُ وَأَيُّوبُ وَمَالِكٌ.
          476- ثمَّ ساق حديث عائشةَ ♦ قَالَتْ: (لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ إلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إلَّا يَأْتِينا فيهِ رَسُولُ الله صلعم طَرَفَي النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً، ثُمَّ بَدَا لأبِي بَكْرٍ فابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ، فَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ القُرْآنَ...) الحديث.
          وهذا الحديث ساقه هنا مختصرًا، وساقه بكماله في الهجرة، وساق بعضه في غزوة الرَّجيع مِن حديث هشامٍ عن عُروة عن عائشةَ. والمراد بأبويها: الصِّدِّيق وأمُّ رُومَان. ومعنى (يَدِينَانِ الدِّينَ) أي: دين الإسلام.
          وقوله: (ثُمَّ بَدَا لأبِي بَكْرٍ فابْتَنَى مَسْجِدًا) لاشكَّ أنَّ الصِّدِّيق _كما ستعلمُه في الهجرة_ [خ¦3905] لمَّا أُوذيَ خرج مِن مكَّة حتَّى بلغَ بَرْكَ الغِمَاد فردَّه ابن الدَّغِنَة، ورجع معه إلى مكَّةَ، وأجاره بشرط أن يصلِّي في بيته، ولا يعلن بالقراءة، ثمَّ بعد ذلك بدا للصِّدِّيق وابتنى هذا المسجد بفِناء داره، فسيَّر المشركون إلى ابن الدَّغِنَة، فجاء الصِّدِّيقَ فقال له: إمَّا أن تصلِّي في بيتك وإلَّا فرُدَّ جِواري، فقال الصِّدِّيق: فإنِّي أرضى بجوار الله، وأردُّ إليكِ جوارك، وهذا مِن ندى الصِّدِّيق وفضله، فإنَّه قصد بذلك إظهار الدِّين.
          وأجاز مالكٌ بناء المسجد بفناء الدَّار إذا كان لا يضرُّ بالسَّالكين؛ لأنَّ نفعه / كالاستطراق، وإليه ذهب البخاريُّ في ترجمته. قال ابن شعبان في «الزَّاهي»: وينبغي تجنُّب الصَّلاة في المساجد المبنيَّة حيث لا يجوز بناؤها مِن الطُّرقات ونحوها؛ لأنَّها وُضِعت في غير حقِّها فمَن صلَّى فيها متأوِّلًا أنَّه يصلِّي في الطَّريق أجزأ، قال: ولو كان مسجدٌ في متُّسعٍ وأراد الإمام الزيادة فيه ما لا يضرُّ بالسَّالكين لم يُمنع عند مالكٍ ومنعه رَبيعةُ، وصحَّحه ابن بطَّال لأنَّه غير عائدٍ إلى جميعهم، وقد ترتفق به الحائضُ والنُّفساء ومَن لا يجِبُ عليه مِن الأطفال ومَن يسلكه مِن أهل الذِّمَّة.
          فائدةٌ: ساق البخاريُّ قطعةً مِنه مِن حديث الزُّهريِّ عن عُروَةَ مرسلةً، وهي مسندةٌ في بعض نسخ «المغازي» لابن عُقبةَ فيما رُوِّيناه في كتاب البيهقيِّ عن أبيه. وفي البخاريِّ: ((رجعَ عامَّةُ مَن كانَ بأرضِ الحبشةِ)) كذا وقع فيه، والصَّواب ما رواه الحاكم في «إكليله» من حديث ابن شهابٍ، عن عُرْوَةَ: ((رجعَ إلى المدينةِ بعضُ مَن كانَ هاجرَ إلى أرضِ الحبشةِ منَ المسلمين)) ويؤيِّده أنَّه هو ذكر قُدوم جَعفرٍ وأصحابه كان بعد خَيبَرَ.
          فائدةٌ ثانيةٌ: في ألفاظٍ وقعت في هذا الحديث في الهجرة تعجَّلناها هنا منها: (بَرْكِ الغِمَادِ) بكسر الباء وفتحها وإسكان الرَّاء، في أقاصي هَجَرَ، و(الغِمَادُ) بضمِّ الغين وكسرها، قال ابن دُرَيدٍ: وهو بقعةٌ في جهنَّمَ.
          و(الدَّغِنَة) بفتح أوَّله وكسر ثانيه وتخفيف النُّون، وبضمِّهما وتشديد النُّون، رُوي بهما في «الصَّحيح» ورُوِّيناه بالضمِّ مع تخفيف النُّون في المغازي، وأصله مِن الغيم الممطر، وقيل: لأنَّه كان في لسانه استرخاءٌ لا يملكه، واسمه مالكٌ فيما ذكره السُّهَيليُّ، قال: والدُّغُنَّة اسم امرأةٍ عُرف بها، ويُقال له أيضًا: ابن الدَّثِنَة وهي الكثيرة اللَّحم المسترخيةُ، وهو سيِّدُ القَارَةِكما ذُكر في الحديث.
          ومنها: قول ابن الدُّغُنَّة في الصِّدِّيق: (إِنَّكَ تُكْسِبُ المَعْدُوْمَ) أي: تكسب غيرك ما هو معدومٌ عنده. قال ابن دِحْيَة في «مولده»: وفتح التَّاء أصحُّ.
          ومنها: قوله: (أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ، سَبْخَةً ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لاَبَتَيْنِ _وهمَّا: الحرَّتان_). قد فسَّر اللَّابةَ، وهي: أرض يركبها حجارةٌ سودٌ، ومنه قيل للأسوَد: لُوبيٌّ ونُوبيٌّ، وفي «الإكليل» من حديث جريرٍ مرفوعًا: ((إنَّ الله تعالى أوحى إليَّ: أيَّ هؤلاء الثَّلاث نزلتَ فهي دارُ هجرتِك: المدينةَ، أو البحرَين، أو قِنَّسْرِينَ)) فاختار المدينة. وورد في حديث موضوعٍ كما قاله ابن عبد البرِّ: ((إنَّها أحبُّ البلادِ إلى الله)).
          ومنها: قوله: (وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ وَرَقَ السَّمُرِ _وهو الخَبَط_ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) كذا وقع هنا (السَّمُر وهو الخبَط) وفيه نظر، فقد فرَّق بينهما أبو حنيفةَ في «نباته»، وأبو زيادٍ وقال: السَّمُر أم غَيلان، وغيرهما.
          ومنها قولها: (فِيْ نَحْرِ الظَّهِيْرَةِ) أي: أوَّل الزَّوال.
          ومنها قولها: (فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِدَاءٌ لَهُ أَبِي وَأُمِّي) أي: أفديه بهما، بالمدِّ والقصر وفتح الفاء وكسرها.
          ومنها: (جَبَلُ ثَوْرٍ) وهو بالمدينة، وأنكر مَن أنكره.
          ومنها: (الجهاز) وهو بفتح الجيم وكسرها، ومنهم مَن أنكر الكسر. و(السُّفرة): سُمِّيت باسم ما يُحمل فيها للمسافر. و(الجِرَابُ) بكسر الجيم أفصح مِن فتحها، بل لَحَن مَن فتح.
          ومنها: قولها في حقِّ عبد الله بن أبي بكرٍ: (ثَقِفٌ لَقِنٌ)، أي: فهمٌ حافظٌ، وهو بكسر القاف فيهما وسكونها. و(النِّطَاقُ) بكسر النُّون: ما يُشدُّ به الوسط، وسُمِّيت أسماءُ ذات النِّطاقين؛ لأنَّه كان لها نطاقان واحدٌ على واحدٍ، وقيل: تلبس أحدهما، وتحمل في الآخر الزَّاد لرسول الله صلعم وهو في الغار.
          ومنها: قولها: (وَهُوَ لَبَنُ مِنْحَتِهِمَا وَرَضِيفِهِمَا) الرَّضيف: اللَّبن المرضوف، أي: طرحت فيه الرَّضفة وهي الحجارة المحمَّاة بالشَّمس أو النَّار لينعقدَ وتذهبَ وَخامتُه.
          ومنها قوله: (رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ) هو بكسر الدَّال، مِن كِنانة، وزعم أبو اليَقْظان أنَّه الدُّوْل، بضمِّ الدَّال وسكون الواو، ووَهِمَ مَن قال: إنَّ الدُّوْل امرأةٌ مِن كِنانةَ، بل ذاك بالهمز.
          و(أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّئِلِيِّ) بكسر الهمزة، والقياس فتحها، وابن حَبيبٍ وغيره يقول في كنانة بن خزيمة: الدِّيليِّ _بإسكان الياء_ ابن بكرٍ، وقد قيل: في ابن أُرَيْقِطٍ اللَّيثيِّ، وليثٌ هو بكرُ بن عبد مَناة أيضًا، فيحتمل نسبته إلى ليثٍ؛ لأنَّها أشهر نسبةً مِن الدُّئِل، وهو مشتقٌّ مِن اسم دُوَيبَّة.
          ومنها: قول سُراقة عن فرسه: (فَرَفَعْتُهَا تُقَرِّبُ بِيْ): هو ضربٌ مِن سيرها، وفيه غير ذلك ممَّا يطول وتعلمه في موضعه إن شاء الله ذلك وقدَّره.