التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب القسمة وتعليق القنو في المسجد

          ░42▒ بَابُ القِسْمَةِ وَتَعْلِيقِ القِنْوِ فِي المَسْجِدِ
          421- (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ _يَعْنِي ابنَ طَهْمَانَ_ عَنْ عَبْدِ العَزِيزِ بنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ صلعم بِمَالٍ مِنَ البَحْرَيْنِ...) الحديثَ.
          والكلام عليه مِنْ وجوهٍ:
          أحدها: القِنْوُ _بكسر القاف ثمَّ نونٌ ساكنةٌ_ عِذْقُ النَّخْلَةِ، وهو العُرْجُونُ بما فيه مِنَ الرُّطَبِ، والجمع أقناءٌ وقِنْوانٌ منصرفٌ مثل صِنْوٍ وصِنْوانٍ، وفي بعض نسخ البخاريِّ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: القِنْوُ العِذْقُ وَالِاثْنَانِ قِنْوَانِ مِثْلَ صِنْوٍ وَصِنْوَانٍ.
          قال ابنُ سِيْدَهْ: القِنْوُ والقِنَا: الكِبَاسة، والقَنَا _بالفتح_ لغةٌ فيه عن أبي حنيفةَ، والجمع مِنْ كلِّ ذلك أقناءٌ وقِنْوانٌ وقِنْيَانٌ، وفي «الجامع» في القِنْوانِ لغتان كسر القاف وضمِّها، وكلُّ العرب تقول: قِنْوٌ وقُنُوٌ في الواحد.
          ثانيها: هذا الحديث ذكره البخاريِّ هنا تعليقًا، وكذا في الجزية [خ¦3165] والجهاد [خ¦3049]، وقال الإِسْمَاعِيْلِيُّ: ذكره أبو عبدِ اللهِ بلا إسنادٍ فقالَ: (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ) وهو (ابنَ طَهْمَانَ) فيما أحسب، وكذا قاله خَلَفٌ أنَّه ابنُ طَهْمَانَ، وأبو نُعَيْمٍ الحافظُ، ثمَّ ساقه أبو نُعَيْمٍ مصرَّحًا به أيضًا، وروى البخاريُّ في كتاب الحجِّ والنِّكاح عن أحمدَ بنِ حفصٍ بنِ راشدٍ عن أبيه عن إبراهيمَ بنِ طَهْمَانَ.
          وقال المِزِيُّ في «أطرافه»: عبدُ العزيزِ في هذا الحديث عند البخاريِّ غير منسوبٍ، وذكره أبو مَسْعُودٍ وخَلَفٌ الوَاسِطِيُّ في ترجمة عبدِ العزيزِ بنِ صُهَيْبٍ عن أَنَسٍ، وكذلك رواه عُمَرُ بنُ مُحَمَّدٍ البُجَيْرِيُّ في «صحيحه» مِنْ رواية إبراهيمَ بنِ طَهْمَانَ عن ابنِ صُهَيْبٍ عن أَنَسٍ قال: وقيل: إنَّه عبدُ العزيزِ بنُ رَفِيْعٍ.
          وقد روى أبو عَوَانَةَ في «صحيحه» حديثًا مِنْ رواية ابنِ طَهْمَانَ عن عبدِ العزيزِ بنِ رَفِيْعٍ عن أَنَسٍ: ((تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السُّحُورِ بَرَكَةٌ))، وروى أبو داودَ والنَّسَائِيُّ حديثًا مِنْ رواية ابنِ طَهْمَانَ عن ابنِ رَفِيْعٍ، عن ابنِ عُمَيْرٍ عن عائشةَ: ((لَا يَحِلُّ دَمُ اِمْرِئٍ مُسْلِمٍ)) فيحتمل أن يكون هذا هو، وقد أسلفنا أوَّلًا التَّصريح به، وهو ثابتٌ في عدَّة نسخٍ.
          ثالثها: لم يذكر البخاريُّ في الحديث القِنْوَ الَّذي بوَّب له، قال ابنُ التِّيْنِ: أُنْسِيَهُ، وقال ابنُ بَطَّالٍ: أغفله، ثمَّ قال: وتعليق القِنْوِ في المسجد أمرٌ مشهورٌ، وقد يُقَالُ: إنَّه أخذه مِنْ وضع المال في المسجد بجامعٍ أنَّ كلًّا منهما وضع للأخذ، وقد ذكر ابنُ قُتَيْبَةَ في «غريبه»: أنَّه ◙ خرج فرأى أقناءً معلَّقةً في المسجد، ومِنْ عادة البخاريِّ الإحالة على أصل الحديث.
          وذكر ثابتٌ في: «غريبه»: أنَّه ◙ أمر مِنْ كلِّ حائطٍ بقِنْوٍ يعلَّق في المسجد ليأكل منه مَنْ لا شيء له، قال: وكانَ عليها على عهدِ رسولِ اللهِ صلعم مُعَاذُ بنُ جَبَلٍ، قال ابنُ القَاسِمِ: سُئِلَ مالكٌ عن الأقناءِ في المسجد وشبه ذلك؟ فقال: لا بأس به، وسُئِلَ عن الماء الَّذي يُسْقَى في المسجد أترى أن يشرب منه؟ قال: نعم، إنَّما جُعِلَ للعطش، ولم يُرَدْ به أهل المسكنة، فلا أرى أن يترك شربه، ولم يزل هذا مِنْ أمر النَّاس، قال: وقد سقى سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ فقيل له: في المسجد؟ فقال: لا، ولكن في منزله الَّذي كان فيه، قال ابن بَطَّالٍ: ولا تنافي بين ما ذكره ثابتٌ ومالكٌ؛ لسعة حال النَّاس في زمن مالكٍ، فيستوي فيه الغنيُّ والفقير، ألا ترى أنَّه شبَّهه بالماء الَّذي يُجْعَلُ للعطشان دون المساكين.
          رابعها: قوله: (أُتِيَ بِمَالٍ مِنَ البَحْرَيْنِ) هو تثنية بحرٍ، وهي بلدةٌ مشهورةٌ بين البَصْرَةِ وعُمانَ وهي هجرٌ، وأهلها عبدُ القَيْسِ بنُ أَفْصَى بنِ دَعْمِيِّ بنِ جَدِيْلَةَ بنِ أَسَدِ بنِ رَبِيْعَةَ بنِ نِزَارِ بنِ مَعْدِ بنِ عَدْنَانَ ولهم وفادةٌ، قال عِيَاضٌ: قيل: بينها وبين البَصْرَةِ أربعةٌ وثمانون فرسخًا، قال البَكْرِيُّ: / ولمَّا صالح أهله رسول الله صلعم أمَّر عليهم العَلَاءَ بنَ الحَضْرَمِيِّ، وبعث أَبَا عُبَيْدَةَ فأتى بجزيتها فقدم بمالٍ مِنَ البحرين، وزعم أبو الفَرَجِ الأَصْبَهَانِيُّ في «تاريخه»: أنَّها وبيئةٌ وأنَّ ساكنيها معظمهم مطحولون وأنشد:
مَنْ يَسْكُنُ البَحْرَيْنِ يَعْظُمْ طِحَالُهُ                     ويُغْبَطْ بِمَا في جَوْفِهِ وهُوَ سَاغِبُ
          وزعم ابنُ سَعْدٍ: أنَّه ◙ لمَّا انصرف مِنَ الجِعْرَانَة، يعني بعد قسم غنائم حُنَيْنٍ أرسل العلاءَ بنَ الحَضْرَمِيِّ إلى المُنْذِرِ بنِ سَاوَى العَبْدِيِّ _وهو بالبحرين_ يدعوه إلى الإسلام، فكتب إلى رسولِ اللهِ صلعم بإسلامه وتصديقه.
          خامسها: قوله: (فَقَالَ: «انْثُرُوهُ فِي المَسْجِدِ») أي: اطرحوه، ففيه: وضع ما النَّاس مشتركون فيه في المسجد مِنْ صدقةٍ أو غيرها؛ لأنَّ المسجد لا يُحْجَبُ أحدٌ مِنْ ذوي الحاجة مِنْ دخوله والنَّاس فيه سواءٌ، وكذلك أمور جماعة المسلمين يجب أن تعمل في المسجد، نقله ابنُ بَطَّالٍ عن المُهَلَّبِ.
          سادسها:
          قوله: (فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلعم إِلَى الصَّلَاةِ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ) وجه عدم التفاته إليه استقلالًا للدُّنيا فأقبل على الباقي وترك الفاني.
          سابعها:
          قول: (فَمَا كَانَ يَرَى أَحَدًا إِلَّا أَعْطَاهُ)، فيه دلالةٌ على كثرة إعطائه وعلوِّ كرمه وزهده، والمولى إذا علم مِنْ أتباعه حاجةً سارع إليها، ولا يدَّخِر شيئًا، فالمنَّة لله ولرسوله.
          ثامنها: قوله: (وَفَادَيْتُ عَقِيلًا) يعني: ابنَ أبي طالبٍ يوم بَدْرٍ.
          تاسعها: قوله: (ثُمَّ ذَهَبَ يُقِلُّهُ فَلَمْ يَسْتَطِعْ)، (يُقِلُّهُ) بضمِّ أوَّله، قال ابنُ التِّيْنِ: كذا رواه، أي: يحمله، إنَّما لم يأمر أحدًا بإعانة العبَّاسِ، ولم يعنه هو بنفسه زجرًا له عن الاستكثار مِنَ المال، وأن لا يأخذ إلَّا قدر حاجته، أو لينبِّهه على أنَّ أحدًا لا يحمل عن أحدٍ شيئًا، وقد كان العَبَّاسُ قويًّا جدًّا كان يقلُّ البعير إذا جلس، والكاهل ما بين الكتفين.
          عاشرها: فيه: أنَّ القسمَ إلى الإمامِ على قدرِ اجتهادِه، والعطاء لأحدِ الأصنافِ الَّذين ذكرهم الله في كتابه دون غيرهم لأنَّه أعطى العَبَّاسَ لمَّا شكى إليه مِنَ الغُرم الَّذي فدحه ولم يسوِّه في القسمة مع الأصناف الثَّمانيَّة، ولو قسم ذلك على التَّساوي لَمَا أعطى العَبَّاسَ مِنْ غير مكيالٍ ولا ميزانٍ، وإنَّما أعطاه بقدر استقلاله مِنَ الأرض، ولم يعطِ لأحدٍ غيره مثل ذلك، وفيه: أنَّ السُّلطان يرتفع عن الأشياء الممتهنة حيث لم يحمل على العَبَّاسِ، وأن لا يكلِّف غيره إلى ذلك، وإن كان فيه نفعًا للخاصَّة، إذ فيه ضررٌ على العامَّة.