التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الاغتسال إذا أسلم

          ░76▒ بَابُ الِاغْتِسَالِ إِذَا أَسْلَمَ
          462- ذَكَرَ فيهِ حديثَ أبي هُرَيرةَ: (بَعَثَ النَّبِيُّ صلعم خَيْلًا قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ: ثُمَامَةُ بنُ أُثَالٍ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي المَسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلعم فَقَالَ: أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ، فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ المَسْجِدِ، فَاغْتَسَلَ، ثمَّ دَخَلَ المَسْجِدَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ). /
          الكلام عليه مِنْ أوجهٍ:
          أحدها: هذا الحديث أخرجه قريبًا أيضًا [خ¦469]، وفي الإشخاص [خ¦2422] [خ¦2423] ومطوَّلًا في وفد بني حنيفةَ مِنَ المغازي [خ¦4372]، وأخرجه مسلمٌ في المغازي، وطرَّقه الدَّارَقُطْنِيُّ في «علله»، وقال: طريقة البخاريِّ هي الصَّواب.
          ووقعَ في كتابِ ابنِ المُنَيِّرِ أنَّ البخاريَّ أخرجَه في البيعِ والشِّراءِ في المسجدِ، وتبعه شيخنا في «شرحه»، وهو عجيبٌ فليس فيه إلَّا حديثَ بَرِيْرَةَ كما سلفَ، ثمَّ قالَ: ووجهُ المطابقةِ أنَّ الَّذي تَخَيَّلَ المنع إنَّما أخذَه مِنْ ظاهرٍ: ((إِنَّ هَذِهِ المَسَاجِدَ إِنَّمَا بُنِيَتْ للصَّلَاةِ وَذِكْرِ اللهِ))، فبيَّن البخاريُّ تخصيصَ هذا العموم بإجازة فعل غير الصَّلاة في المسجد، وهو ربط ثُمَامَةَ؛ لأنَّه لمقصودٍ صحيحٍ، فالبيع كذلك.
          وهذا أعجب مِنَ الأوَّل، وليته على تقدير وجدانه فيه، وأنَّى له ذلك، استنبط ذلك مِنْ قوله في وفد بني حنيفةَ: إن تُنعم تُنعم على شاكرٍ، وإن كنت تُريد المال فسل فهذه مساومةٌ وبيعٌ في النَّفس والمال.
          ثانيها: هذا الحديث رُوِي أيضًا مِنْ حديث ابنِ عَبَّاسٍ أخرجه ابنُ مَنْدَهْ في «معرفة الصَّحابة» مِنْ حديث عَلْبَاءَ بنِ أَحمَرَ عن عِكْرِمَةَ عن ابنِ عَبَّاسٍ أنَّ ثُمَامَةَ بنَ أُثَالٍ الحَنَفِيَّ: أتى النَّبيَّ صلعم أسيرًا فخلَّى سبيله، فلحق بمكَّة فحال بين أهل مكَّة والميرة مِنَ اليَمَامَةِ، فجاء أبو سُفْيَانَ إلى رَسُولِ اللهِ صلعم فقَالَ: أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ بُعِثْتَ بالرَّحْمَةِ؟ قال: ((بَلَى))، قالَ: فقد قتلتَ الآباءَ بالسَّيف والأبناءَ بالجوعِ، فأنزل الله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالعَذَابِ} الآية [المؤمنون:76].
          ثالثها: (ثُمَامَةُ) _بالثَّاء المثلَّثة المضمومة_ ابنُ أُثَالٍ _بضمِّ الهمزة ثمَّ ثاءٌ مثلَّثةٌ مفتوحةٌ وبعد الألف لامٌ_ مصروفٌ، ينتهي نسبه إلى عدنانَ، وهو سَيِّدُ أهل اليمامة، وكنَّاه ابنُ الطَّلَّاعِ أبا أُمَامَةَ وسمَّاه أَثَاثَةَ، قال: ويُقَالُ: ثُمَامَةَ، وإسلامه قبل الفتح.
          رابعها: أخذ ابنُ المُنْذِرِ مِنْ هذا الحديث جواز مكث الجُنُب المسلم في المسجد، وأنَّه أولى مِن المشرك، لأنَّه ليس بنجسٍ بخلاف المشرك، وروى ابنُ جُرَيْجٍ عن عُثْمَانَ بنِ أبي سُلَيْمَانَ أنَّ مُشركي قُرِيْشٍ حين أتوا رَسُولَ اللهِ صلعم في نداء مَنْ أسلم منهم ببَدْرٍ كانوا يبيتون في مسجد الرَّسُولِ منهم جُبَيْرُ بنُ مُطْعِمٍ فكان يسمع قراءته، وسيأتي حديثه عند البخاريِّ.
          خامسها: في ربطه بالسَّارية جواز ربط الأسير وحبسه وإدخال الكافر المسجد، ومذهبنا جوازه بإذن المسلم سواءٌ كان الكافر كتابيًّا أو غيره، واستثنى الشَّافعيُّ مِنْ ذلك مسجد مكَّة وحرمه، وذكر ابنُ التِّيْنِ عن مُجَاهِدٍ وابنِ مُحَيْرِيْزٍ جواز دخول أهل الكتاب فيه.
          وقال عُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ وقَتَادَةُ ومالكٌ: لا يجوز، ونقله القُرْطُبِيُّ عن المُزَنِيِّ أيضًا.
          وقال أبو حنيفةَ: يجوز للكتابيِّ دون غيره، وكان حجَّته ما رواه أحمدُ في «مسنده» مِنْ حديث جابرٍ مرفوعًا: ((لَا يَدْخُلُ مَسْجِدَنَا هَذَا بَعْدَ عَامِنَا هَذَا مُشْرِكٌ إلَّا أَهْلُ العَهْدِ وَخَدَمِهِمْ)).
          وحجَّة الشَّافعيِّ حديث ثُمَامَةَ، وبأنَّ ذات المشرك ليست نجسةً، ومالكٌ أخذ بظاهر الآية، وأنَّه خاصٌّ بالحرم، ومقتضاه تُنَزَّهُ المساجد عنهم كما تُنَزَّهُ عن سائر الأنجاس، وعنده أنَّه نجسٌ لِمَا يُخالطه منها إذ كان لا ينفك عنها ولا يتحرَّز عنها، وبقوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النُّور:36]، ودخول الكافر فيها منافٍ لذلك، وبقوله ◙: ((إِنَّ هَذِهِ المَسَاجِدَ لَا يَصْلِحُ فِيْهَا شَيْءٌ مِنَ البَوْلِ والقَذَرِ))، والكافر لا يخلو عن ذلك، وبالحديث السَّائر: ((لَا أُحِلُّالمَسْجِدَ لحَائِضٍ وَلَا جُنُبٍ))، والكافر جُنُبٌ.
          واعتذروا عن حديثِ ثُمَامَةَ بأوجهٍ:
          منها: أنَّ ذلك كان متقدِّمًا على الآية _وفيه نظرٌ_ فإنَّه في سنة ستٍّ، والآية كانت سنة تسعٍ.
          ومنها: أنَّه ◙ كان قد علم بإسلامه.
          ومنها: أنَّها قصَّةٌ في عينٍ قالَ القُرْطُبِيُّ: ويمكن أن يُقَالَ: إنَّه ◙ إنَّما ربط ثُمَامَةَ في المسجد؛ لينظر حسن صلاة المسلمين واجتماعهم عليها وحسن آدابهم في جلوسهم في المسجد فيأنس بذلك، وكذلك كان.
          ويوضِّحه حديث عُثْمَانَ بنِ أبي العاصي في «صحيح ابنِ خُزَيْمَةَ»: أنَّ وفد ثقيفٍ لمَّا قدموا على رسول الله صلعم أنزلهم المسجد ليكون أرقَّ لقلوبهم.
          وقال جُبَيْرٌ فيما ذكره أحمدُ: دخلتُ المسجدَ والنَّبيُّ صلعم يُصَلِّي المغربَ فقرأَ بالطُّورِ، فكأنَّما صَدَعَ قَلْبِي حِينَ سَمِعْتُ القُرْآنَ، قال: ويمكن أن يُقَالَ أيضًا: إنَّهم لم يكن لهم موضع ربطٍ يُربَطُ فيه إلَّا المسجد.
          سادسها: قوله (فَقَالَ: أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ) سبب إطلاقه أنَّه قال له ثلاثة أيَّامٍ: ((مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟)) _كما يأتي في المغازي_ [خ¦4372] قال: عندي يا مُحَمَّدُ خيرٌ، إن تقتلْ تقتلْ ذا دَمٍ، وإن تُنعمْ تُنعمْ على شَاكِرٍ، وإن كنتَ تُرِيدُ المالَ فسلْ تُعطَ منه ما شئتَ، فعند ذلك أمر بإطلاقه، ففيه: جوازُ المَنِّ على الأسير، وهو مذهبنا ومذهب الجمهور، وادَّعى ابنُ الجوزيِّ أنَّه لم يُسلم تحت الأسر لعزَّة نفسه، وكأنَّ ◙ أحسَّ منه بذلك فقال: ((أَطْلِقُوهُ)) فلمَّا أُطْلِقَ أسلم، ورواية ابنِ خُزَيْمَةَ وابنِ حِبَّانَ في صحيحهما بزيادة: إذ فيهما فمرَّ ◙ يومًا فأسلم فحلَّه وبَعَثَ به إلى حائط أبي طَلْحَةَ، فأمره أن يغتسل، فاغتسل وصلَّى ركعتين، فقال ◙: ((لَقَدْ حَسُنَ إِسْلَامُ أَخِيْكُمْ))، ورواه ابنُ الجوزيِّ أيضًا كذلك.
          سابعها: قوله: (فَانْطَلَقَ إِلَى نَجْلٍ) كذا الرِّواية هنا، وفي مسلمٍ وغيرهما بالنُّون والخاء المعجمة، أي: ((انطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ فِيْهِ مَاءٌ))، وزعم ابنُ دٌرَيدٍ أنَّه بالجيم، وهو الماء القليل المنبعث، وقيل: الجاري.
          وعن عائشةَ ♦ كان بطحانُ وهو _وادٍ بالمدينة_ يجري نجلًا، أي نَزًّا، فيمكن أن يكون مضى لذلك المكان، وفي روايةٍ: أنَّه ذهب إلى المصانع فغسل ثيابه، واغتسل، ولا شكَّ أنَّ الكافر إذا أراد الإسلام بادر به، ولا يؤخِّره للاغتسال، ولا يحلُّ لأحدٍ أن يأذن له في تأخيره، بل يُبادر به ثمَّ يغتسل، ورواية البخاريِّ أنَّه تشهَّد بعد الغسل محمولةٌ على أنَّه أظهر ذلك، وقد أسلفنا أنَّه أسلم قبله.
          ومذهبنا أنَّ اغتساله واجبٌ إن كان عليه جنابةٌ في شركه سواءٌ اغتسل منها أم لا، وأبعد بعض أصحابنا، فقال: إن كان اغتسل أجزأه، وإلَّا وجب.
          وأبعد منه قول بعض أصحابنا وبعض المالكيِّة: أنَّه لا غسل عليه، ويسقط حكم الجنابة بالإسلام كما تسقط الذُّنوب، وهو منقوضٌ بالوضوء، فإنَّه لازمٌ إجماعًا، هذا كلُّه إذا أجنب في كفره، وإلَّا فهو مستحبٌّ، وقاله مالكٌ أيضًا.
          قال القُرْطُبِيُّ: وهذا الحديث دالُّ على أنَّ الغسل في حقِّ الكافر كان مشروعًا عندهم معروفًا، ألا ترى أنَّه لم يحتج في ذلك إلى مَنْ أمره به ولا مَنْ نبَّهه عليه.
          قُلْتُ: قد سلف صريحًا أنَّه أمره به، قال: والمشهور مِنْ قول مالكٍ أنَّه إنَّما يغتسل لكونه جُنُبًا، قال: ومِنْ أصحابنا مَنْ قال يغتسل للنَّظافة، واستحبَّه ابنُ القَاسِمِ، / ولمالكٍ قولٌ: إنَّه لا يعرف الغسل.
          وقال أحمدُ وأبو ثَوْرٍ: يلزمه الغسل لهذا الحديث، ولحديث قَيْسِ بنِ أبي عَاصِمٍ في التِّرْمِذِيِّ مُحَسَّنًا، وصحَّحه ابنُ خُزَيْمَةَ، وعند أبي حنيفةَ أنَّ الغسل للإسلام مستحبٌّ، قال مُحَمَّدٌ في «السِّير الكبير»: ينبغي للرَّجل إذا أسلم أن يغتسل للجنابة، وعلَّل بأنَّ المشركين لا يغتسلون للجنابة، ولا يدرون كيفيَّته، قيل: أراد أنَّ مِنَ المشركين مَنْ لا يدين الاغتسال مِنَ الجنابة، ومنهم مَنْ يدينه كقريشٍ وبني هَاشِمٍ، فإنَّهم توارثوه عن إِسْمَاعِيْلَ ◙، إلَّا أنَّهم كانوا لا يدرون كيفيَّته، وهذا في حقِّ مَنْ لم يُجنب، وقد اختُلِفَ في خطابهم بالفروعِ أيضًا.