التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب إذا صلى في ثوب له أعلام ونظر إلى علمها

          ░14▒ بَابُ إِذَا صَلَّى فِي ثَوْبٍ لَهُ أَعْلاَمٌ وَنَظَرَ إِلَى أَعْلَامِهَا
          373- سَاقَ بإسنادِهِ مِنْ حديثِ ابنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ: (أَنَّهُ ╕ صَلَّى فِي خَمِيصَةٍ لَهَا أَعْلاَمٌ، فَنَظَرَ إِلَى أَعْلاَمِهَا نَظْرَةً، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: اذْهَبُوا بِخَمِيصَتِي هَذِهِ إِلَى أَبِي جَهْمٍ وَأْتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّةِ أَبِي جَهْمٍ، فَإِنَّهَا أَلْهَتْنِي آنِفًا عَنْ صَلَاتِي).
          ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ هِشَامُ بنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَ النَّبِيُّ صلعم: (كُنْتُ أَنْظُرُ إِلَى عَلَمِهَا، وَأَنَا فِي الصَّلاَةِ فَأَخَافُ أَنْ تَفْتِنَنِي).
          والكلام على ذلك مِنْ أوجهٍ:
          أحدها: هذا الحديث _أعني الأوَّل_ ذكره قريبًا في الالتفات [خ¦752] واللِّباس أيضًا [خ¦5817]، وأخرجه مسلمٌ وأبو داودَ والنَّسَائِيُّ وابنُ مَاجَهْ أيضًا.
          والتَّعليق الثَّاني أخرجه مسلمٌ عن أبي بَكْرِ بنِ أبي شَيْبَةَ عن وكيعٍ عن هِشَامٍ، وأبو داودَ عن عُبَيْدِ اللهِ بنِ مُعَاذٍ عن أبيه عن عبدِ الرَّحمَنِ بنِ أبي الزِّنَادِ عنه، ورواه أبو مَعْمَرٍ فقال: عَمْرَةُ عن عائشةَ، قال الإِسْمَاعِيْلِيُّ: ولعلَّه غلطٌ منه، والصَّحيح عُرْوَةُ، ولم يذكر أبو مَسْعُودٍ هذا التَّعليق، وذكره خَلَفٌ.
          ثانيها: الخَمِيْصَةُ _بفتح الخاء المعجمة_ كساءٌ رقيقٌ مربعٌ له عَلَمان أو أعلامٌ، ويكون مِنْ خزٍّ أو صوفٍ، وقيل: لا يُسَمَّى بذلك إلَّا أن تكون سوداءَ مُعْلَمَةً، سُمِّيَتْ بذلك للينها ورقَّتها وصغر حجمها إذا طُوِيَتْ مأخوذٌ مِنَ الخَمَصِ وهو ضُمُورُ البَطْنِ.
          ثالثها: أبو جَهْمٍ اسمه عَامِرٌ، وقيل: عُبَيْدُ بنُ حُذَيْفَةَ القُرَشِيُّ العَدَوِيُّ، أسلَمَ يوم الفتح، وكان معظَّمًا في قُرَيْشٍ وعالمًا بالنَّسَبِ، شهد بنيان الكعبة مرَّتين، وبسببه كان حرب زُجاجةٍ، مات في آخر خلافة مُعَاوِيَةَ وهو غير أبي جُهَيْمٍ المصغَّر المذكور في المرور.
          رابعها: الأَنْبِجَانِيَّةُ _بفتح الهمزة وكسرها وبفتح الباء الموحَّدة وكسرها وبتشديد الياء المثنَّاة تحت وتخفيفها_ قيل: إنَّه نسبةٌ إلى موضعٍ يُقَالُ له: أَنْبِجَانُ، وقيل غير ذلك، وهو كِسَاءٌ غليظٌ لا عَلَمَ له، فإن كان فهو الخَمِيْصَةُ.
          وقوله: (وَأْتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّةِ أَبِي جَهْمٍ) رُوِيَ بتشديد الياء المثنَّاة تحت، والتَّأنيث على الإضافة، وعلى التَّذكير أيضًا كما جاء في الرِّواية الأخرى: كِسَاءٌ له أَنْبِجَانِيًّا.
          خامسها: معنى: (أَلْهَتْنِي) شغلت قلبي عن كمال الحضور والتَّدبُّر، وفي «المُوَطَأِ»: ((فَإِنَّهَا كَادَتْ تَفْتِنِّي)).
          وفيه: أنَّ الخَمِيْصَةَ أهداها له أبو جَهْمٍ، وقيل: بل هو الَّذي أهداها أوَّلًا له، حكاه ابنُ الأَثِيْرِ. /
          وقوله: (تَفْتِنَنِي) قال ابنُ التِّيْنِ: رُوِّينَاهُ بفتحِ التَّاءِ على أنَّه ثلاثيٌّ، وبالإدغام مثل قوله تعالى: {مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} [الكهف:95] ويصحُّ أن يكون بضمِّ التَّاء، يُقَالُ: فتنته وأفتنته، وأنكر الأَصْمَعِيُّ الثَّاني، ومعنى (آنِفًا) السَّاعةَ، وفي أبي داودَ: ((شَغَلَنِي أَعْلَامُ هَذِهِ، وأَخَذَ كُرْدِيًّا كَانَ لأَبِي جَهْمٍ، فَقِيْلَ: يَا رَسُولَ اللهِ! الخَمِيْصَةُ كَانَتْ خَيْرًا مِنَ الكُرْدِيِّ))، وعند أبي مُوسَى المَدِيْنِيِّ: ((رُدُّوهَا عَلَيْهِ، وخُذُوا أَنْبَجَانِيَّتَهُ)) لئلَّا يُؤثِّر ردُّ الهديَّة في قلبه، وهذا أولى مِنْ تأويل بعضهم أنَّ فعل هذا إذلالًا؛ لعلمه بأنَّه يؤثِرُ هذا ويفرح به، ولا يلزم مِنْ ذلك أن أبا جَهْمٍ كان يصلِّي فيها كما في حُلَّةِ عُطَارِدٍ، ولا يُقَالُ: إذا ألهت سيِّد الخلق مع عصمته فكيف لا تُلهِي أبا جَهْمٍ، على أنَّه قد نُقِلَ أن أبا جَهْمٍ كان أعمًى فالإلهاء مفقودٌ عنده، ولعلَّه علم أنَّه لا يصلِّي بها أيضًا، ويحتملُ أن يكون هذا خاصًّا بالشَّارع كما قال: ((كُلْ، فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لَا تُنَاجِي)) حكاه ابنُ التِّيْنِ.
          سادسها: في فوائده:
          الأولى: جواز لبس الثَّوب ذي العَلَمِ، وجواز الصَّلاة فيه.
          الثَّانيةُ: اشتغالُ الفكرِ اليسير في الصَّلاة غير قادحٍ فيها، وهو إجماعٌ، وإن حُكِيَ عن بعض السَّلف والزُّهَّاد ما لا يصحُّ عمَّنْ يعتمد به في الإجماع.
          الثَّالثةُ: طلب الخشوع في الصَّلاة والإقبال عليها، ونفي كلِّ ما يُشغِلُ القلب ويُلهِي عنه؛ ولهذا قال أصحابنا: يُسْتَحَبُّ له أن ينظر إلى موضع سجوده، ولا يتجاوزه.
          الرَّابعةُ: المبادرة إلى ترك كلِّ ما يُلهي ويُشغل القلب عن الطَّاعة والإعراض عن زينة الدُّنيا والفتنة بها.
          الخامسةُ: منع النَّظر وجمعه عمَّا لا حاجة بالشَّخص إليه في الصَّلاة وغيرها، وقد كان السَّلف لا يخطئ أحدهم موضع قدمه إذا مشى.
          السَّادسةُ: تكنية الإمام والعالم لِمَنْ هو دونه.
          وفيه غير ذلك ممَّا أوضحته في «شرح العمدة» فليُرَاجَعْ منه، وذكر ابنُ الجَوْزِيِّ في الحديث سؤالين:
          أحدهما: كيف يخاف الإفتتان بعلم مَنْ لم يلتفت إلى الأكوان بليله: {مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى} [النَّجم:71]، وأجاب بأنَّه كان في تلك اللَّيلة خارجًا عن طباعه، فأشبه ذلك نظره مِنْ ورائه، فأمَّا إذا رُدَّ إلى طبعه البشريِّ فإنَّه يُؤَثِّرُ فيه ما يُؤَثِّرُ في البشرِ.
          الثَّاني: المراقبة في الصَّلاة شغلت خلقًا مِنْ أتباعه، حتَّى إنَّه وقع السَّقف إلى جانب مسلمِ بنِ يَسَارٍ ولم يعلم؟! وأجاب بأنَّ أولئك كانوا يُؤْخَذُونَ عن طباعهم فيغيبون عن وجودهم، وكان الشَّارع يسلك طريق الخواص وغيرهم، فإذا سلك طريق الخواص غير الكلِّ فقال: ((لَسْتُ كَأَحَدِكُمْ)) وإذا سلك طريق غيرهم قال: ((إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ)) فرُدَّ إلى حالة الطَّبع فنزع الخميصة ليُسْتَنَّ به في ترك كلِّ شاغلٍ.
          وذكر ابنُ بَطَّالٍ وغيره عن سُفْيَانَ بنِ عُيَيْنَةَ أنَّه ◙ إنَّما ردَّ الخَمِيْصَةَ لأنَّها كانت سبب شغله، كما قال: ((اخرُجُوا عَنْ هَذَا الوَادِي الَّذِي أَصَابَكُمْ فِيْهِ الغَفْلَةُ، فَإِنَّهُ وَادٍ بِهِ شَيْطَانٌ)) قال: ولم يكن الشَّارع ليبعث إلى غيره بشيءٍ يكرهه لنفسه، ألا ترى قوله لعائشةَ في الضَّبِ: ((إِنَّا لَا نَتَصَدَقُ بِمَا لَا نَأْكُلُ))، وكان أقوى خلق الله على دفع الوسوسة، ولكن كرهها لدفع الوسوسة كما قال لعائشةَ: ((أَمِيْطِي عَنَّا قِرَامَكِ، فَإنَّهُ لَا تَزَالُ تَصَاوِيرُهُ تَعْرِضُ لِي فِي صَلَاتِي)) قال: وفي ردِّه الخَمِيصة تنبيهٌ منه وإعلامٌ أنَّه يجب على أبي جَهْمٍ مِنِ اجتنابه في الصَّلاة مثل ما عليه؛ لأنَّ أبا جَهْمٍ أحرى أن يعرض له مِنَ الشُّغل بها أكثر ممَّا خشيَ الشَّارع، ولم يُرِدْ بردِّها عليه منعه مِنْ ملكها ولباسه في غيرها، وإنَّما معناها كمعنى الحُلَّة الَّتي أهداها لعُمَرَ وحرَّم عليه لباسها، وأباح له الانتفاع بها وبيعها، قال: وفيه دليلٌ على أنَّ الواهب والمهدِي إذا رُدَّتْ عليه عطيَّته مِنْ غير أن يكون هو الرَّاجع فيها فله أن يقبلها؛ إذ لا عار عليه في قبولها، وذكر غيره أنَّه إنَّما كرهها لِمَا فيها مِنَ الحرير.