التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب إرداف الرجل خلف الرجل

          ░101▒ بَابُ إِرْدَافِ الرَّجُلِ خَلْفَ الرَّجُلِ.
          5967- ذكر فيه حديث مُعَاذٍ: (بَيْنَا أَنَا رَدِيفُ النَّبِيِّ صلعم لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلَّا أَخِرَةُ الرَّحْلِ، فَقَالَ: يَا مُعَاذُ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: يَا مُعَاذُ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: يَا مُعَاذُ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ العِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوهُ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: حَقُّ العِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لاَ يُعَذِّبَهُمْ).
          هذا الحديث كذا هو مترجمٌ له في أصلٍ بخطِّ الدِّمْيَاطِيِّ، ولم يترجِم له ابن بطَّالٍ بل قال: باب. ثمَّ ذكره.
          وفيه: إرداف الإمام والشريف لمن هو دُونَه وركوبه معه، وذلك مِن التواضع أيضاً وترك التَّكبُّر، وهذا الحديث محلُّه الإرداف، فلو ذكره فيه مع حديث أُسامةَ كان أَوْلى، وستكون لنا عودَةٌ إليه في السَّلام والاستئذان في باب مَن أجاب بِلَبَّيكَ وَسَعْدَيك [خ¦6267].
          وقوله: (مَا حَقُّ العِبَادِ عَلَى اللَّهِ؟) يحتمل أن يكون أراد حقَّاً شرعيًّا لا واجباً عقلاً كما ادَّعته المعتزلة، وكأنَّه لَمَّا وعدَ به تعالى ووعْدهُ الصِّدق صار حقَّاً مِن هذه الجهة، وأن يكون خرج مخرجَ المقابلة للفظ الأوَّل لأنَّه قال في أوَّله: (مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى العِبَادِ؟).
          قال المازَرِيُّ: ولا شكَّ أنَّ لله على عبادِهِ حقَّاً فأتبعَ اللَّفظ الثاني الأوَّل كقوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عِمْرَان:54]، وفي روايةٍ: ((فأخبرَ بها مُعَاذٌ عند موتهِ تأثُّماً)).
          قال الهَرَويُّ: تأثَّم الرجل إذا فعَلَ فِعْلاً يخرجُ به مِن الإثم، وكذلك تحنَّث: ألقى الحِنْثَ عن نفسِهِ، وتحرَّج: ألقى الحَرَجَ عن نفسهِ. وسلف في أوائل هذا الشرح عدَّةُ ألفاظٍ أُخر.
          قال المازريُّ: والأظهر عندي أنَّه لم يَرِد في هذا الحديث هذا المعنى لأنَّ في سياقه ما يدلُّ على خِلافه.
          فَصْلٌ: هذا الحديث ذكره البُخَارِيُّ في باب: مَن جاهد نفسَهُ، وذلك أنَّ جِهاد المرء نفسه هو الجهاد، رُوي أنَّه ◙ قال _وقد انصرف مَن غزوةٍ_: ((انصرفنا مِن الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر قالوا: يا رسول الله، وما الجهادُ الأكبرُ؟ قال: مُجَاهِدةُ النَّفْس)).
          وقد يكون جهادُ النَّفس منعَها الشَّهَوات المباحة توفيراً لها في الآخرة لكيلا يدخل في قوله: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف:20].
          ورُوِّيْنا في «الحِلْيَة» عن سلمٍ الخواصِّ قال: ((أوحى اللهُ إلى داودَ: لا تَقْرَب الشَّهواتِ فإنِّي خَلَقْتُها لضُعَفاء خَلْقي، والقلبُ المحجوبُ بالشَّهواتِ حَجَبتُ صوته عنَّي)).
          فَصْلٌ: قوله: (رَدِيفُ) كذا في الأُصُول، وجاء (رِدْف) بكسر الراء وإسكان الدَّال، والرِّدْف والرَّدِيف: هو الرَّاكبُ خَلْف الرَّاكب، وأصله مِن رُكُوبه على الرِّدف وهو العَجُز.
          قال ابن سِيدَه: وخصَّ به بعضهم عَجِيزة المرأة. ورِدْف كلِّ شيءٍ: مؤخِّره، والرِّدف: ما تَبِع الشيءَ، والجمع من ذلك كلِّه أَرْدَافٌ.
          وقال القزَّاز في «جامعه»: الرِّدْف: الذي يرُكَبُ، قال: وهو رِدْفك ورَدِيْفُك، وأنكرَ بعضهم الرَّدِيف، وكلُّ شيءٍ جاءَ بعدكَ فقد رَدِفك، ويقول في القوم نزلَ بهم أمْرٌ قد رَدِفَ لهم أعظمُ منه، والرداف موضعُ مركب الرَّدِيف، وهذا بِرْذَوْنٌ لا يُرْدِفُ، ولا يُرادِفُ، وأنكر بعضهم: يُرْدِفُ، وقال: إنَّما يُقال: لا يُرادِفُ. وقال: إنَّما المرادِفُ الذي يُرْدِفُ غيرَه خَلْفه، وحُكي: رَدِفْتُ الرجل وأَرْدَفْتُهُ إذا رَكبتُ وراءه، وإذا جئتُ بعْدَهُ، ومنه قوله تعالى: {مُرْدِفِينَ} [الأنفال:9]، والعرب تقول: جِئتُ مردِفاً لفُلانٍ، أي: جئتُ بعدَهُ، وجاء القوم مُرادِفين.
          والرَّوادف: جمع الرَّدِيف، وجاء القوم رِدَافاً، أي: بعضُهم في إثر بعْضٍ، وأَرْدَاف الملوك في الجاهليَّة: هُم الذين كانوا يَخْلُفُون الملوك.
          وقال الجَوْهرِيُّ: أَرْدَفْتُهُ أنا: إذا أرَكْبتَهُ معك، وذلك الموضعُ الذي يركبهُ رِدَافٌ، وعند الهَرَويِّ: رَدِفْتُ الرجل أَرْدِفُهُ: إذا ركبتَ خلفَهُ، وأَرْدَفْتُهُ: إذا أركبتَهُ خلفَكَ، وفي «لحن العامَّةِ» لثابتٍ، عن أبي عُبَيدةَ: دَابَّةٌ لا تُرْدِف وتُرَادف، قال: والأجودُ: ترادف، وكذا هو في «فصيح ثَعْلبٍ» وغيرِه.
          قال أبو القاسم الحَرِيريُّ: وجه الكلام: لا تُرَادف؛ لأنَّ مبنى المفاعلة على الاشتراك في الفعل فهو بهذا الكلام أليقُ وبالمعنى المراد به أعلقُ، والعرب تقول: تَرَادَفتِ الأشياء إذا تَتَابَعت، يُقال: رَدِفتُ الشيء، أي: رَكِبتُ خلْفَه، ورادفته. ويُقال: جَمَلٌ مُرَادِفٌ، أي: عليه رَدِيفٌ.
          فَصْلٌ: جمع ابن مَنْدَه الأردافُ في جُزءٍ انتهى به إلى نحو الثلاثين منهم أولاد العَبَّاس وعبد الله بن جَعْفَرٍ، وأبو هُرَيْرَةَ وقيسُ بن سَعْدِ بن عُبَادةَ، وصَفِيَّةُ وأمُّ حَبيبة الجُهَنيَّة.
          فَصْلٌ: قوله: (لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلَّا أَخِرَةُ الرَّحْلِ) المراد المبالغة في شدَّة قُربه إليه.
          وقوله: (وَسَعْدَيْكَ) أي: ساعدتُ طاعتَكَ مُساعدةً بعد مُساعدةِ.
          وأمَّا تكرير قوله: (يَا مُعَاذُ) فلتأكيد الاهتمام بما يُخْبِرُ به.