التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب إعفاء اللحى

          ░65▒ بَابُ إِعْفَاءِ اللِّحَى.
          {عَفَوا}: كَثُروا وكَثُرت أموالهم.
          5893- ثمَّ ذكر حديث ابن عُمَر ☻ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم: (انْهَكُوا الشَّوَارِبَ، وَأَعْفُوا اللِّحَى).
          الشرح: معنى (انْهَكُوا): بالغوا في الأخْذِ منها مِن غير استئصالٍ، وهو ثُلَاثيٌّ مِن نَهَك يَنْهَك. ومعناه مثل (أَحْفُوا)، وفي الحديث: ((أشمِّي ولا تُنهكِي)) أي: لا تُبَالغي.
          قال صاحب «الأفعال» يُقال: نَهِكَتْهُ الحُمَّى بالكسر نهكاً: أثَّرت فيه، كذلك العِبادة. والتأثير غير الاستئصال.
          وقوله: (وَأَعْفُوا) قال الجَوْهرِيُّ: عَفَا الشَّعَر والنَّبْت وغيرهما: كَثُر.
          وذكر الآية: ({حَتَّى عَفَوْا} [الأعراف:95] كَثُروا) قال: وعَفَوتُهُ أنا وأَعْفَيْتُهُ أيضاً لغتان إذا فعلتُ ذلك به. فعلى هذا يُقرأ: (وَأَعْفُوا) موصولاً ومقطوعاً، وبالقَطْع قرأناه.
          و(اللِّحَى): جمع لِحْيَةٍ بكسر اللام مقصورٌ. قال الجَوْهرِيُّ: وبضمِّ اللام يريد مَن لُحى مثل ذِرْوَةٍ وذُرىً.
          فَصْلٌ: وعِلَّةُ توفير اللِّحية أنَّ فيه جمالاً للوجه وزينةً للرِّجَال، وجاء في بعض الخبر: إنَّ الله تعالى زيَّن بني آدم باللِّحى. ولأنَّ الغرضَ بذلك مخالفةُ الأعاجم، وهذا ما لم يخرج بطولها عن الحدِّ المعتاد فيفضي بصاحبها إلى أن يُسخر به.
          وسلف أنَّ معنى: (أَحْفُوا الشَّوَارِبَ) قصُّها، وأنَّ حَلْقها منهِيٌّ عنه، هذا مذهبُ أهل المدينة وأكثر العِلْماء، وهو مَرْويٌّ عن جمهور الصَّحابة. وقال أبو حنيفة: هو مُسْتحبُّ.
          ونقله ابن التِّين عن الشَّافِعِيِّ أيضاً فأغربَ قال: ودليلنا قوله ◙: ((ليس مِنَّا مَن حَلَق))، ولأنَّ فيه جمالاً للوجوه وزينةً، وفي حلقهِ مُثْلَة.
          قال الطَّبَرِيُّ: فإن قلتَ: ما وجه قوله: (أَعْفُوا اللِّحَى) وقد علمتَ أنَّ الإعفاء الإكثار، وأنَّ مِن النَّاس مَن إنْ ترك شَعَر لحيته اتَّباعاً منه لظاهر هذا الخبر تَفَاحَش طُولاً وعرضاً، وَسَمُج حتَّى صار للنَّاس حديثاً وَمَثلاً.
          قيل: قد ثبتت الحُجَّة عن رسول الله صلعم على خُصوص هذا الخبر، وأنَّ مِن اللِّحية ما هو محظورٌ إحفاؤه، وواجبٌ قصُّهُ على اختلافٍ مِن السَّلف في قَدر ذلك وحدِّه؛ فقال بعضهم: حدُّ ذلك أن يزدادَ على قَدْر القبضة طولاً، وأن ينتشر عرْضاً فيقْبُحَ ذلك، فإذا زادت / على قَدْر القبضة كان الأوَّلى جزُّ ما زاد على ذلك مِن غير تحريمٍ منهم ترك الزِيَادة.
          ورُوي عن عُمَرَ ☺ أنَّه رأى رجلاً قد تركَ لحيتَهُ حتَّى كثُرت فاتَّخذ يجذبها ثمَّ قال: ائتوني بجَلْمين، ثمَّ أمر رجلاً فجزَّ ما تحتَ يده ثمَّ قال: اذهب فأصلح شَعرك أو أفسده، يتركُ أحدكم نفسَهُ حتَّى كأنَّه سبعٌ مِن السِّباع، وكان أبو هُرَيْرَةَ يقبضُ على لحيتهِ فيأخذُ ما فَضِل، وعن ابن عُمَر مثله.
          وقال آخرون: يأخذُ مِن طُولها وعرضها ما لم يفحش أخذه، ولم يحدُّوا في ذلك حدًّا، غير أنَّ معنى ذلك عندي: ما لم يخرج مِن عُرف النَّاس وهذا قدَّمناه، ورُوي عن الحَسَن أنَّه كان لا يرى بأساً أن يأخذ مِن طولِ لحيته وعرْضِها ما لم يُفْحش الأخذ منها، وكان إذا ذبح أُضْحِيَّتَهُ يوم النَّحْر أخذ منها شيئاً.
          وقال عَطَاءٌ: لا بأس أن يأخذ مِن لحيتهِ الشيء القليل مِن طُولها ومِن عَرْضها إذا كثُرت، وغلب كراهية الشُّهرة كالملبسِ.
          والصَّواب أنَّ قوله: (أَعْفُوا اللِّحَى) على عُمومه إلَّا ما خُصَّ مِن ذلك وقد رُوي عنه حديثٌ في إسناده نظرٌ أنَّ ذلك على الخُصوص، وأنَّ مِن اللِّحى ما الحقُّ فيه ترْكُ إعفائه، وذلك ما تجاوز طُوله وعرضه عن المعروف مِن خَلْق النَّاس وخرج عن الغالب فيهم.
          أَلَا تَرَى ما روى مروانُ بن مُعَاوُيَة، عن سعيدِ بن أبي راشِدٍ المكِّيِّ، عن أبي جَعْفَرٍ مُحَمَّد بن عليٍّ قال: ((كان ◙ يأخذ اللِّحية ممَّا طلعَ عن الكفَّ))، وهذا الحديث وإن كان في إسناده نظرٌ فهو جميلٌ مِن الأمر، وحسَنٌ مِن الفعل.