التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ما كانَ النبي يتجوز من اللباس والبسط

          ░31▒ بابُ مَا كَانَ النَّبِيُّ صلعم يَتَجَوَّز مِن اللِّبَاس والبُسْطِ:
          5843- ذكر فيه حديث ابن عبَّاسٍ ☻ قال: (لَبِثْتُ سَنَةً وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ ☺ عَنِ المَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَظَاهَرَتَا عَلَى رسول الله صلعم..) وقد سلف في النِّكاح واضحاً في باب موعظة الرجل ابنتَهُ [خ¦5191]، وفي آخره: (فَدَخَلْتُ، فَإِذَا النَّبِيُّ صلعم عَلَى حَصِيرٍ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، وَتَحْتَ رَأْسِهِ مِرْفَقَةٌ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ، وَإِذَا أُهُبٌ مُعَلَّقَةٌ وَقَرَظٌ).
          5844- وحديث هندَ بنتِ الحارثِ عن أمِّ سَلَمَةَ قالت: اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صلعم مِن اللَّيْلِ وهو يقول: (لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنَ الفِتنةِ، مَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الخَزَائِنِ، مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الحُجُرَاتِ، كَمْ مِنْ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ يَوْمَ القِيَامَةِ) قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَكَانَتْ هِنْدٌ لَهَا أَزْرَارٌ فِي كُمَّيْهَا بَيْنَ أَصَابِعِهَا. وسلف أيضاً [خ¦115].
          والمِرْفَقَة كالوِسَادةِ وأصله مِن المِرْفَق كأنَّه استعمل في مِرْفَقَته واتَّكأ عليها.
          وكان ◙ ينامُ على الحصير حتَّى تُؤثِّرَ في جَنْبه، ويتَّخذ مِن الثِّياب ما يشبه تواضعَه وزهدَه في الدُّنْيَا توفيراً لحظِّه في الآخرة، وقد خيَّره الله بين أن يكون نبيَّاً ملِكاً، وبين أن يكون نبيًّا عبداً فاختار الثاني إيثاراً للآخرة على الدُّنْيَا وتزهيداً لأُمَّته فيها، ليقتدوا به في أخذ البُلغة مِن الدُّنْيَا إذ هي أسلمُ مِن الفِتنة التي تُخشى على مَن فُتحت عليه زهرة الدُّنْيَا، أَلَا تَرَى قوله: (مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنَ الفِتنةِ، مَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الخَزَائِنِ) وقَرَنَ ◙ الفِتنة بنزول الخزائن، فدلَّ أنَّ الكَفَاف في الأمور _أعني الدُّنْيَا_ خيرٌ مِن الإكثار وأسلَمُ مِن العِثار.
          فإن قلت: حديث أمِّ سَلَمَةَ لا يوافق معنى الترجمة، قيل: بلى، وذلك أنَّه ◙ حذَّر أهلَه وجميع المؤمناتِ مِن لباسِ رقيقِ الثِّياب الواصفة لأجسامهِنَّ؛ لقوله: (كَمْ مِنْ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ يَوْمَ القِيَامَةِ).
          وفُهم منه أنَّ عقوبة لابسة ذلك أن تُعرَّى يوم القيامة على رؤوس الأشهاد وقام الدَّليل مِن ذلك أنَّه ◙ حضَّ أزواجه على استعمال خَشِن الثِّياب الساترة لهنَّ حذراً أن يَعْرَيْنَ في الآخرة، أَلَا تَرَى قول الزُّهْرِيِّ: (وَكَانَتْ هِنْدٌ..) إلى آخره، وإنَّما فَعَلَت ذلك لئلَّا يبدو مِن سَعَة كُمِّها شيءٌ مِن جسدها فيكون _وإن كانت ثيابها غير واصفةٍ لجسدها_ داخلةٌ في معنى كاسيةٍ عاريةٍ، فلم يتَّخِذ الشارع ولا أزواجه مِن اللِّبَاس إلَّا الساترَ لهنَّ غير الواصف وهو كان فعل السَّلف، وهو موافقٌ للترجمة.
          فَصْلٌ: والأُهُب: جمع إِهَابٍ، عن سيبويه. قال الجَوْهرِيُّ: الإِهَابُ الجِلْد ما لم يُدبغ، والجمع: أَهَبٌ على غير قياسٍ مثل: أَدَمٍ وأَفَقٍ وعَمَدٍ، قال: وقد قالوا: أُهُب بالضمِّ وهو قياسٌ. وقال القزَّاز في «جامعه»: الإهابُ الجِلْد مَدْبوغاً وغير مدبوغٍ.
          قال: وفي الحديث: وفي البيت أهبًا عَطِنةً فسمَّاها أُهُبًا، وهي قد عَطِنت.
          وفيه إذا دُبغ الإهابُ فقط طَهُر، فسمَّاه إِهَاباً قبل الدِّباغ، والقَرظ بفتح القاف والراء: ورَقُ السَّلم يُدْبغ به الأُدْم.
          والأراكُ المذكور في أوَّلهِ شجر الحمض، الواحدة: أَرَاكَةٌ.
          والوَصِيف: الخادمُ غلاماً كان أو جاريةً، كما قاله الجَوْهرِيُّ، يُقال: وَصُفَ الغلام إذا بلَغَ الخِدمة، فهو وَصِيفٌ بيِّن الوَصَافة. قال ثعلبٌ: / وربَّما قالوا للجارية: وَصِيفة.
          وقوله: (وَتَقَدَّمْتُ إِلَيْهَا فِي أَذَاهُ) قال ابن التِّين: هو بالياء عند أبي الحَسَن على أنَّه ممدودٌ. وصوابه قَصْره، وكذلك عند أبي ذرٍّ.
          والمشرُبَة: الغُرفة. والأدَم _بفتح الدَّال_ جمع أَدِيمٍ مثل: أَفِيق وأَفَق.
          فَصْلٌ: قوله: (مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنَ الفِتنةِ) يريد ماذا قُدِّر أن يكون بها.
          وقوله: (مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الحُجُرَاتِ) قال سُحنُون: أي أيقظوا النِّساء كي يسمعنَ الموعظة، وقيل: كي يُصلِّين عند نزول الآفاتِ وخوف الفِتن، كقوله في الكُسُوف: ((فإذا رأيتموها فافزعوا إلى الصَّلَاة)).
          وقوله: (كَمْ مِنْ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ يَوْمَ القِيَامَةِ)، قيل: كاسياتٌ مِن نِعَم الله تعالى لا يَشكرْنَ الله تعالى فهنَّ عارياتٌ مِن جزاء الشكر يوم القيامة، وقيل: يلبسْنَ ثياباً رِقَاقاً تصِفُ ما تحتها فهنَّ كاسياتٌ في الظَّاهر عارياتٌ في الحقيقة، ومعنى (عَاريةٍ): أي مِن الأجر.
          وقال الدَّاوُدِيُّ: (كاسياتٌ) يَلْبِسنَ ما لا يَحِلُّ، و(عارياتٌ): تُحشر عُرْيَانةً فإن رُحمت كُسِيت وإلَّا بَقِيت عُرْيَانةً في النَّار.