التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب التصاوير

          ░88▒ بَابُ التَّصَاوِيرِ.
          5949- ذكر فيه حديث ابن عبَّاسٍ ☻، عن أبي طَلْحَة ☺ قال: قالَ النَّبِيُّ صلعم: (لاَ تَدْخُلُ المَلاَئِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلاَ تَصَاوِيرُ).
          وقال اللَّيث: حَدَّثَنِي يُونُسُ، عن ابن شِهَابٍ، أَخْبرَني عُبَيْدُ اللهِ، أنَّه سمع ابن عبَّاسٍ: سمعتُ أبا طَلْحَة: سمعتُ النَّبِيَّ صلعم.
          الشرح: الحديث الأوَّل رواه عن (آدم، حَدَّثَنا ابن أبي ذِئْبٍ، عن الزُّهْرِيِّ، عن عُبَيْدِ اللهِ بن عبد الله بن عُتْبةَ، عن ابن عبَّاسٍ، عن أبي طَلْحَة)، ثمَّ ذكر تعليق اللَّيث، وكذا قال خَلَفٌ في «أطرافه» قال البُخَارِيُّ في اللِّبَاس: (حَدَّثَنا آدَمُ، حَدَّثَنا ابن أبي ذِئْبٍ... وقال اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يُونُس). وفي المغازي: حَدَّثَنا إبراهيم بن موسى، حَدَّثَنا هِشَامٌ، عن مَعْمَرٍ كِلاهما عن الزُّهْرِيِّ به.
          وادَّعى ابن وضَّاح ثُمَّ الدَّاوُدِيُّ وجماعةٌ مِن العلماء أنَّ الملائكة في هذا الحديث ملائكة الوحي مِثل جبريلَ وإسرافيلَ، فأمَّا الحَفَظة فيدخلون في كلِّ بيتٍ ولا يُفَارقان الإنسان على كلِّ حالٍ إلَّا عند الخَلَاء والجِمَاع كما ورد في الحديث.
          وعبَّر بعضهم: المراد: ملائكةٌ يطوفون بالرَّحمة والاستغفار دون الحَفَظة. وقيل: أراد: لا تدخلهُ الملائكة كدخولهم لو لم يكن في البيت صُورةٌ، نحو قوله ◙: ((لا يزني الزَّاني حين يزني وهو مؤمِنٌ)). وقيل: أراد: لا يدخلهُ أحدٌ غير الحَفَظة.
          قال الخطَّابيُّ: وإنَّما لم تدخل الملائكة بيتاً فيه كلبٌ أو صورةٌ ممَّا يحرُمُ اقتناؤه مِن الكلاب والصُّور، فأمَّا ما ليس بحرامٍ مِن كلبِ صيدٍ أو زرْعٍ أو ماشيةٍ فليس داخلاً في هذا.
          والصُّورة: كلُّ ما يُصوَّر مِن الحيوان سواءٌ في ذلك المنصوبة القائمة التي لها أشخاصٌ، وما لا شخص له مِن المنقوشة في الجُدُر والمصوَّرة فيها، وفي الفُرُش والأَنْمَاط، وقد رخَّص بعض العِلْماء فيما كان فيها في الأنماط التي تُوطأ وتُداس بالأرْجُل.
          وقال النَّوويُّ: الأظهر أنَّه عامٌّ في كلِّ كلبٍ وكلِّ صُورةٍ وأنَّهم يمتنعون مِن الجميع لإطلاق الأحاديث، وسبب امتناعهم مِن دخول بيتٍ فيه كلبٌ كَثْرةُ أكلهِ للنَّجاسة وبعضهُ يُسمَّى شيطاناً، والملائكة ضدُّ الشَّياطين ولقُبح رائحتهُ، والملائكة يَكرهون الرَّائحة الخبيثة، ولأنَّ الإنسان منهيٌّ عن اتِّخَاذها فعُوقب مُتَّخِذها بحرمانه دخول الملائكة بيتَهُ وصلاتها فيه واستغفارها.
          وروى ابن السُّنِّيِّ مِن حديثِ مُجَاهِدٍ، عن أبي هُرَيْرَةَ ☺ قال: ((استأذنَ جبريلُ على رسول الله صلعم فقال: ادخل قال: وكيف أدخلُ وفي بيتك سِترٌ فيه تصاويرُ؟ فإمَّا أن تقطع رأسها، أو تُجعل بساطاً يُوطأ، فإنَّا معشرَ الملائكة لا ندخل بيتاً فيه تَصَاويرُ)). وأخرجه أبو داودَ، ((وقال جبريلُ: أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلتُ إلَّا أنَّه كان على الباب تماثيلُ، وكان في البيت قِرَامٌ فيه تماثيلُ، وكان في البيت كلْبٌ، فمُرْ برأس التِّمثال الذي في باب البيتِ فليُقطعْ فيصير كهيئة الشجرة، ومُرْ بالسِّتر فيُقطع فتُجعل منه وِسَادتان مَنْبُوذتان يُوطآن، ومُرْ بالكلبِ فليُخرج، وكان لحسنٍ أو حسينٍ فأمرَ به فأُخرج).
          فَصْلٌ: قال أصحابنا وغيرهم: يحرمُ تصوير صورة الحيوان حرامٌ شديدُ التحريم وهو مِن الكبائر، وسواءٌ صنعَهُ لِمَا يُمتهن أو لغيره فحرامٌ بكلِّ حالٍ لأنَّ فيه مُضَاهاةً لخَلْق الله تعالى، وسواءٌ أكان في ثوبٍ أو بِسَاطٍ أو دِيْنارٍ أو دِرْهَمٍ وفَلْسٍ وإناءٍ وحائطٍ، وأمَّا ما ليس فيه صورةُ حيوانٍ كالشجر والرِّحال وشبهها فليس بحرامٍ، هذا كلُّه حكم المصوَّر.
          فأمَّا اتَّخاذ المصوَّر فيه حيوانٌ، فإن كان معلَّقاً على حائطٍ، أو ثوباً ملبوساً أو عمامةً، أو نحو ذلك ممَّا لا يُعدُّ ممتهناً فهو حَرَامٌ، وإن كان في / بِساطٍ يُداس أو مِخَدَّةٍ أو وِسَادةٍ ممَّا يُمتَهن فليس بحرامٍ، ولا فرْقَ في هذا كلِّه بين ما له ظلٌ أو ما لا ظلَّ له. هذا تلخيص مذهبنا.
          وبمعناه قال جماهير العِلْماء، ومذهب مالكٍ والثَّوْرِيِّ وأبي حنيفة وغيرهم.
          وقال بعض السَّلف: إنما يُنهى عمَّا كان له ظلٌّ ولا بأس بما ليس له ظلٌّ، وهذا مذهبٌ باطلٌ فإنَّ السِّتر الذي أنكر عليه الصَّلَاة والسلام الصُّورة فيه لا يشكُّ أحدٌ أنَّه مذمومٌ وليس لصُّورته ظلٌّ مع ما في الأحاديث المطلقَةِ في كلِّ صُورةٍ.
          وقال الزُّهْرِيُّ: النَّهي في الصُّورة على العُمُوم وكذا استعمال ما هي فيه، ودخول البيت الذي هي فيه سواءٌ أكانت رَقْماً في ثوبٍ أو غير رَقْمٍ، وسواءٌ كانت في حائطٍ أو ثوبٍ أو بساطٍ ممتَهنٍ أو غير ممتَهنٍ، عملاً بظاهر الأحاديث.
          وقال آخرون: يجوز منها ما كان رَقْماً في ثوبٍ سواءٌ امتُهن أم لا، وسواءٌ عُلِّق في حائطٍ، وكرهوا ما كان له ظلٌّ أو كان مصوَّرًا في الحيطان وشَبهها، وأجمعوا على منْعِ ما كان له ظِلٌّ ووجوب تغييره.
          قال القاضي: إلَّا ما ورد في لَعِب البناتِ، وكان مالكٌ يكره شراء ذلك لبنته، وادَّعى بعضهم أنَّ إباحة اللَّعِب بالبنات منسوخٌ بهذه الأحاديث.
          قال الطَّبَرِيُّ: فإن قيل: أفحرامٌ دخول البيت الذي فيه التَّماثيل والصُّور؟
          قيل: هو مكروهٌ، أعني: ما له رُوحٌ ويُنصب ولا يُمتهن، وأمَّا ما كان مِن ذلك عَلَماً في ثوبٍ أو رَقْماً فيه، وكان ممَّا يُوطأ أو يُجلس عليه فلا بأسَ به، وما كان ممَّا يَنْصِبه فإنْ كان مِن صورةٍ لا رُوح فيها فلا بأس به، وإلَّا فلا أستحسنُه.
          ثمَّ ساق مِن حديثِ عائِشَة ♦ قالت: كان لنا سِتْرٌ فيه تِمْثَالُ طيرٍ مُستقبلَ البيت، فقال ◙: ((حَوِّليه، فإنِّي كلَّما دخلتُ فرأيته ذكرت الدُّنْيَا)) قالت: وكان لنا قَطِيفةٌ لها عَلَم حريرٍ وكنَّا نَلْبَسُها.
          فلم يَقْطعه ولم يأمر عائِشَة بفساد تمثالِ الطَّير الذي كان في السِّتْر، ولكنَّه أمر بتنحيتِهِ عن موضعه الذي كان معلَّقاً فيه مِن أجل كراهيته لرُؤيته إيَّاه لِمَا يُذكِّرُ مِن الدُّنْيَا وزينتها.
          وفي قوله: ((فَإِنِّيْ كُلَّمَا رَأَيْتُهُ ذَكَرْتُ الدُّنْيَا)) دليلٌ بيِّنٌ أنَّه كان يدخلُ البيت الذي فيه فيراه ولا ينهى عائِشَة عن تعليقِهِ، وذلك يبيِّن صِحَّة ما قلناه مِن أنَّ ذلك إذا كان رَقْماً في ثوبٍ أو عَلماً فيه، فإنَّه يُخالِف معنى ما كان منه مِثالاً ممثَّلاً قائماً بنفسِهِ.
          وروى ابن أبي شَيْبَة أنَّ الحَسَن قال: أوَلم يكن أصحاب رسول الله صلعم يدخلون الحاناتِ وفيها تَصَاويرُ؟.
          وعن أبي الضُّحى قال: دخلتُ مع مَسْرُوقٍ بيتًا فيه تماثيلُ فنظرَ إلى تمثالٍ منها فقال: ما هذا؟ قالوا: تمثال مريمَ. وقال مغيرةُ: كان في بيت إبراهيم تابوتٌ فيه تماثيلُ.
          وفي رواية حَمَّادٍ عنه: لا بأس بالتِّمْثال في حِلْيَة السَّيف، ولا بأس بها في سماء البيت، إنَّما يُكره منها ما نصب نُصُباً يعني: الصُّورة.