التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب التقنع

          ░16▒ (بَابُ التَّقَنُّعِ. /
          قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ☻: خَرَجَ النَّبِيُّ صلعم وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ دَسْمَاءُ، وَقَالَ أَنَسٌ ☺: عَصَبَ النَّبِيُّ صلعم عَلَى رَأْسِهِ حَاشِيَةَ بُرْدٍ).
          5807- ثُمَّ ساقَ حديثَ عائِشَة ♦، قالَتْ: (هَاجَرَ إِلَى الحَبَشَةِ رِجَالٌ، وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا...) الحديث في الهِجرة، وقد سلف فيها [خ¦3905]، وفي البُيوع في باب مَن اشترى متاعًا [خ¦2138]، والإجارة [خ¦2263] ويأتي في الأدب [خ¦6079].
          وموضع الحاجة منه: (فَقَالَ قَائِلٌ لِأَبِي بَكْرٍ: هَذَا رَسُولُ اللهِ صلعم مُقْبِلًا متقنِّعًا فِي هَذِهِ السَّاعَةِ)، والتقنُّعُ للرجل عند الحاجة مباحٌ، وقال ابن وَهْب: سألتُ مالكًا عن التقنُّع بالثوب فقال: أمَّا الرجل الذي يجِدُ الحرَّ والبردَ أو الأمرَ الذي له فيه عُذْرٌ فلا بأس به، وأمَّا لغير ذلك فلا، ولقد كان أبو النَّضْر يلزم ذلك لبردٍ يجدُه وما بذلك بأسٌ.
          وذكر ابنُ أبي زيدٍ عن مالكٍ قال: رأتْ سُكَينةُ أو فاطمةُ بنت الحسين بعضَ ولدها مُقنِّعًا رأسَه فقالت: اكشفْ عن رأسك فإنَّ القِنَاع رِيبةٌ بالليل ومذلَّةٌ بالنهار، وما أعلمُه حرامًا وأكرهه لغير عُذْرٍ، ولكن ليس مِن لباس خِيَار النَّاس.
          وقال الأَبْهَرِيُّ: إذا تقنَّع لدفْعِ مَضرَّةٍ فمباحٌ ولغيره مكروهٌ لأنَّه مِن فِعْل أهل الرِّيَب، ويُكره أن يفعل شيئًا يظنُّ به الرِّيْبة، وليس ذلك مِن فِعل مَن مضى.
          فصْلٌ: سلف تفسير الدَّسْمَاءِ في باب أما بعد مِن أبوابِ الجُمُعة.
          وقوله: (عَصَّبَ عَلَى رَأْسِهِ حاشيَةَ بُرْدٍ) (عَصَّبَ) بتشديد الصادِّ، قال الجَوْهَرِيُّ: حاشيةُ البُرْدِ جانبُه. وقال القزَّاز: حَاشِيتا الثَّوبِ ناحيتاه اللَّتان في طرفِهما الهُدْبُ. واعترض الإسْمَاعِيلِيُّ فقال: ما ذكرَه مِن العِصَابة لا مدخلَ له في التقنُّع فإنَّه تغطيةَ الرأس، وهو شدُّه الخِرْقةَ على ما أحاطَ بالرأس كلِّه.
          وقوله: (عَلَى رِسْلِكَ) هو بكسر الراء، أي اتَّئِدْ فيه، كما يُقال: على هِيْنَتِكَ، و(السَّمُرِ) بضمِّ الميم مِن شجر الطَّلْحِ، وهي شجر العِضَاه ذاتُ شوكٍ.
          وقوله: (مُتَقَنِّعًا) لعلَّه لأجلِ الحرِّ، وقولُ أبي بَكْرٍ: (فَدًا لَهُ أَبِي وَأُمِّي) إن كسرتَ الفاء مددتَ، وإن فتحتَ قصرتَ، قال ابن التِّين: وهو الذي قرأنا هنا.
          فصْلٌ: قوله: (وَاللهِ إِنْ جَاءَ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا لِأَمْرٍ) وفي نسخةٍ: <إِلَّا أَمْرٌ>، وذكرَه ابنُ بطَّالٍ بلفظ: (لِأَمْرٍ)، ثُمَّ قالَ: (إِنْ) ههنا مؤكَّدةٌ، واللام في قوله: (لأَمْرٍ) لام التأكيد، كقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيمَ:46] في قراءة مَن فتح اللام، وهو الكِسَائيُّ، وقوله: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ} [القلم:51]، وقوله: {وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف:102]، هذا قول سِيبَوَيه والبَصْريِّين، وأمَّا الكوفيُّون فيجعل (إِنْ) هَاهُنا نافيةٌ بمعنى ما، والمعنى: إلَّا، والتقدير عندهم: ما جاء به إلَّا أمرٌ، وما وجدنا أكثرَهم إلَّا فاسقين، وما يكاد الذين كفروا إلَّا لَيُزْلِقونَكَ.
          فهذه دعوى يُحتاج فيها إلى حُجَّةٍ قاطعةٍ، وإخراج الكلام عن موضعه لا يصحُّ إلا إذا أبطلَ معنى نسقِه وموضوعِه، وقد صحَّ المعنى في نَسَقِهِ، وقوله قبله: (عَلَفَ رَاحِلَتين)، قال صاحب «الأفعال»: يُقال: عَلَفْتُ الدَّابَّة وأَعْلَفْتُها، واللُّغة الأولى أفصح.
          فصْلٌ: والسُّفْرَةُ بالضمِّ طعامٌ يُصْنع للمسافر، ومنه سُمِّيت السُّفْرةُ، والْجِرَابُ بكسر الجيم أفصحُ مِن فتحها، قال الجَوْهَرِيُّ: والعامَّةُ تفتحه وحكاها غيره.
          وقوله: (فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا) فيه جواز عَطِيَّة ذاتِ الزَّوج بغير إذنِه، قال الجَوْهَرِيُّ: والنِّطَاق: شُقَّةٌ تلبسُهَا المرأة وتشدُّ وَسَطها، ثمَّ تُرْسِل الأعلى على الأسفل إلى الرُّكْبة، والأسفل يَنْجَرُّ على الأرض، وليس لها حُجْزَةٌ ولا نَيْفَقٌ ولا ساقانِ. وقال الهَرَوِيُّ نحوه، وزاد: وبه سُمِّيت أسماءُ ذاتُ النِّطَاقين لأنَّها كانت تطارِقُ نِطَاقًا على نِطَاقٍ. قال ابن التِّين: وهذا مخالِفٌ لِمَا في الكتاب. قلتُ: لا مخالفةَ فتأمَّله، ثُمَّ نقل عن الشيخ أبي مُحَمَّدٍ: ويُقال: شقَّت نِصف نِطَاقها للسُّفْرةِ وانْتَطَقَت بِنِصْفهِ. وقال الدَّاوُدِيُّ: النِّطَاقُ الْمِئْزَرُ، وقال ابن فارسٍ: هو إزارٌ فيه تِكَّةٌ تلبسُهُ النِّسَاء.
          وفيه: اتِّخَاذُ الفضلاء الزَّادَ في أسفارهم وردُّ قول مَن أنكر ذلك مِن الصُّوفيَّةِ وزعمَ أنَّ مَن صحَّ توكُّلُه ينزِلُ عليه طعامٌ مِن السَّماء إذا احتاج، ولا أحدَ أصحَّ توكُّلًا مِن الشارع والصِّدِّيق.
          فصْلٌ: قوله: (لَقِنٌ ثَقِفٌ) فاللَّقِنُ الفَهِمُ بكسر القاف، يُقال: لَقِنَ الشيءَ لَقَنًا ولقانة عَقْلًا وَذَكاءً، وقال ابن فارسٍ: سريعُ الفَهْم، وكذا قاله الجَوْهَرِيُّ، ويجوز سكونُها، وقال الهَرَوِيُّ: هو الحَسَنُ التلقِّي لِمَا يسمعه، و(ثَقِفٌ) بكسر القاف، قال ابن التِّين: كذا قرأناه. قال الجَوْهَرِيُّ: تقول: ثقُف الرجل إذا صار حاذقًا خفيفًا فهو ثَقْفٌ، مثل ضَخُم فهو ضَخْم. وكذا هو في بعض الروايات بسكون القاف، قال الجَوْهَرِيُّ: وثقِف أيضًا مثل تَعِب تعبًا لغةٌ في ثَقُف، أي صار حاذقًا فَطِنًا فهو ثَقِف ثَقُف مثل حَذِر وحَذُر.
          وعبارة ابن بطَّالٍ لَمَّا ذكر اللَّقِنَ قال: والثَّقْفُ مثلهُ، يُقال: ثَقِفْتُ الحديثَ أسرعتُ فَهْمَهُ، وثَقِفْتُ الشيءَ أَخَذْتُهُ، ومنه قوله تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة:191 / وأكثرُ كلام العرب: ثَقْفٌ لَقْفٌ، وثَقِفٌ لَقِفٌ، أي راوٍ شاعرٌ رامٍ، وهذا اتباعٌ عن الخليل.
          فصْلٌ: قوله: (يَبِيتُ عِنْدَهُمَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أبي بَكْرٍ) وذكر الهَرَوِيُّ أنَّ اسمَ ولد أبي بَكْرٍ هذا عبد الرَّحْمَن، وهو غريبٌ.
          فصْلٌ: والرِّسْلُ بكسر الراء اللَّبن، ونَعَقَ يَنْعِق بالغنم إذا صاحَ بها، عن الخليل.
          فصْلٌ: في استخفائهم في الغار عندما أراد المشركون المكرَ بنبيِّهِ وقتْلِهِ كما وصفَه الله بقوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ...} الآية [الأنفال:30] إلى أن سَكَن الطَّلَب، ثُمَّ هاجر بالإذن لتكون سنَّةً لأُمَّته، وإلَّا لو سأله أن يُعميَ الخلْقَ عنه أو يخسِفَ بهم لكان هيِّنًا عليه، وكذا هِجرتُهما خوفًا على مُهْجَتهما ردٌّ على مَن قالَ: مَن رأى منكرًا يغيِّرهُ وإن أدَّى إلى هلاكِ نفسه، وإلَّا كان مُضيِّعًا فرضًا.
          وفيه أيضًا: فسادُ قول مَن منع أن يتحيَّز بيتَهُ أو يتحيَّز إلى حِصْنٍ إذا خشي على نفسه، وقال: قد بَرِئ مِن التوكُّل مَن فعَلَ هذا؛ لأنَّ الضرَّ والنفعَ بيد اللهِ، واللهُ أمرَ نبيَّهُ بدخول الغار والاختفاء فيه مِن شِرَار خلْقهِ وكان سيِّدَ المتوكِّلين، وبانَ أيضًا فسادُ قولِ مَن زعم أنَّ مَن خاف شيئًا سوى الله لم يُوقِن بالقَدَر، وذلك أنَّ الصِّدِّيقَ قال للشارع: لو أنَّ أحدَهم رفعَ قدمَه لأبصرَنا حَذَرًا أن يكون ذلك مِن بعضهم فيلحقهما الضَّرر، وبذلك أخبر الله في قوله: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ...} الآية [التوبة:40]، فلم يصفه ولا رسوله بذلك مِن قوله بضعْفِ اليقين بل كان من اليقين لقضاء الله وقَدَره في المحلِّ الأعلى، وكان ذلك منه مثل ما كان مِن مُوسَى إذْ أوجسَ في نفسه خِيْفةً: {قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} [طه:68].
          فصْلٌ: فيه الدليل الواضحُ على ما خَصَّ اللهُ به صدِّيقَ نبيِّهِ مِن الفُضَيْلة والكرامة ورفيع المنزلة عنده؛ لاختياره إيَّاه دون باقي الأُمَّة لموضع سرِّه وأخفى أموره التي كان يُخفيها عن سائر أصحابه ولصُحْبته في سفره، إذ لم يَعلم أحدٌ بكونه في الغار أيَّامَ مَكَثَ فيه غيره وحاشيته مِن ولدٍ له ومولًى وأجيرٍ، ولا صحبةَ في طريقه غيره خَصِيصٌ له بذلك دون قرابة رَسُول اللهِ صلعم، فتبيَّن بذلك منزلته عنده، ودلَّ به على اختياره إيَّاه لأمانتِه عليه.
          فصْلٌ: وفيه المعنى الذي استحقَّ به اسم الصِّدِّيق بحبسِ نفسه عليه بقوله له: ((إنِّي لَأَرجُو أَنْ يُؤذَن لِي فِي الهِجْرةِ))، فبادر إلى صدقِهِ _ولم يُرتِّبْ عملًا بحالته معه_ وتحرِّيه الصِّدَقَ عليه، وتكلُّف النَّفَقة على الرَّاحِلتين وأعدَّ إحداهُما له، وبذَلَ ماله كما بذَلَ نفسه في الهِجْرة معه، ولذلك قال ◙: ((ليسَ أَحَدٌ أمنَّ عليَّ في نفسِهِ ومالِهِ منه)).
          فصْلٌ: وفيه أنَّ المرءَ ينبغي له أن يتحفَّظ بسرِّه ولا يُطلِع عليه إلَّا مَن تَطِيب نفسُه عليه، لقوله للصدِّيق: (أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ) ليخبرَه بخروجه مُخليًا به، فلمَّا قال له الصَّدِّيق: (إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ)، وعَلِم أنَّ شفقتَهم عليه كشفقةِ أهلِه، أطلعَهُ حينئذٍ على سرِّه، وأنَّه قد أُذن له في الخروج، فبدرَ الصدِّيق وقال: (الصُّحْبَةَ)، قبل أن يسألَهُ ذلك، وهذا مِن أبلغ المشاركة وأعظم الوفاء له.
          فصْلٌ: وقوله للصِّدِّيق: ((مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا)) أي بالحِفْظ والكَلَاءة، ولم يُرِد أنَّه يعلم مكانهما فقط، كما قال تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ...} الآية [المجادلة:7]، ويدلُّ أنَّه أراد أن اللهَ ثالثهما بالحفظ قولُه: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} [التوبة:40]، أي يَكْلَؤنا ويحفظنا، ولو أراد: يعلمنا، لم يكن فيه له ولا لصاحبه فُضَيْلةٌ على أحدٍ مِن النَّاس، لأنَّ اللهَ شاهِدُ كلِّ نجوى وعالمٌ بها، وإنَّما كان فضيلةً له ولصاحبه حين كان اللهُ ثالثهما بأنْ صرَفَ عنهما طلبَ المشركين وأعمى أبصارَهم، وسيأتي في التَّمَنِّي معنى قولِه: لَو أَنَّ أحدَهم رفع قدمَه لأبصرَنا، في باب ما يجوز مِن اللَّو، إن شاء الله تعالى.