التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب النعال السبتية وغيرها

          ░37▒ بابُ النِّعَالِ السِّبْتِيَّةِ.
          السِّبْت _بكسر السِّين_ جُلُوْدُ البَقَرِ المَدْبُوْغَةُ بالقَرَظِ تُتَّخذ منها النِّعَال، سُمِّيت بذلك لأنَّ شَعَرها سَبَت عنها أي: حُلق وأُزيل، وقيل: لأنَّها أُسبتت بالدِّباغ أي: لانَتْ. قال أبو سُلَيْمَانَ: قيل: إنَّما قيل لها ذلك لأنَّها سَبَت ما عليها مِن الشَّعر.
          قال ابن التِّين: فيحتمل على قوله أن تكون السين مفتوحةً، لأنَّ السَّبْت بالفتح الحَلْق.
          5850- ذكر حديث حَمَّاد بن زَيْدٍ، عن سَعِيدٍ أبي مَسْلَمَة قال: سَأَلْتُ أَنَسًا: أَكَانَ النَّبِيُّ صلعم / يُصَلِّي فِي نَعْلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ.
          وقد سلف في الصَّلَاة [خ¦386]، وأبو مَسْلَمَة سعيدُ بن يَزِيْد بن مَسْلَمَة الأزْدِيُّ الطَّاحِيُّ البَصْرِيُّ القصيرُ أخرجا له.
          5851- وحديث عُبَيد بن جُرَيْجٍ: أنَّه قال لعبد الله بن عُمَر: رَأَيْتُكَ تَصْنَعُ أَرْبَعًا لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِكَ يَصْنَعُهَا.. الحديثَ سلف [خ¦166].
          وفيه: (أَمَّا النِّعَال السِّبْتِيَّةُ فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلعم يَلْبَسُ النِّعَال الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَعَرٌ وَيَتَوَضَّأُ فِيهَا، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَلْبَسَهَا).
          5852- وحديث ابن عُمَر: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلعم أَنْ يَلْبَسَ المُحْرِمُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا بِزَعْفَرَانٍ أَوْ وَرْسٍ، وقَالَ: (مَنْ لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الكَعْبَيْنِ). وقد سلف أيضاً [خ¦134].
          والوَرْسُ: نباتٌ أصفرُ يُصبغ به.
          5853- وحديث ابن عبَّاسٍ ☻ قال: (قال النَّبِيُّ صلعم: مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِزَارٌ فَلْيَلْبَسِ السَّرَاوِيلَ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَعْلاَنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ).
          وقد سلف في الحجِّ أيضاً [خ¦1841]، ولا شكَّ أنَّ النِّعَال مِن لباسه ◙ وخِيَار السَّلف، قال مالكٌ: والانتعال مِن عمل العرب، وفي أبي داودَ مِن حديثِ جابرٍ ☺: ((كنَّا مع رسول الله صلعم في سَفَرٍ، فقال: أكثروا مِن النِّعَالِ فإنَّ الرجل لا يزال راكباً ما انْتَعَل)).
          وقال ابن وَهْبٍ: (النِّعَال السِّبْتِيَّةِ): التي لا شَعَر فيها، وقال الخليل والأصْمَعِيُّ: السَّبت، فذكرا ما قدَّمته أوَّل الباب، قال أبو عُبَيْدَة: إنَّما ذُكرت السِّبْتِيَّة لأنَّ أكثر الجاهليَّة كان يلبسُها غير مدبوغةٍ إلَّا أهل السَّعة منهم، وذهب قومٌ أنَّه لا يجوز لبسها في المقابر خاصَّةً لحديث بشير بن الخَصَاصِيَّةِ، قال: ((بينما أنا أمشي في المقابر وعليَّ نعلانِ إذا رجلٌ يُنادي مِن خَلْفي: يا صاحبَ السِّبْتِيَّتَيْنِ فالتفتُّ فإذا رسول الله صلعم فقال: إذا كنتَ في مِثل هذا الموضعِ فاخْلَع نعليكَ فخلعتهما)).
          فأخذ أحمد بظاهره ووثَّق رجاله، وقال باقي الجماعة: لا بأس بذلك احتجاجاً بلبسهِ ◙ لها وفيه الأُسوة الحَسَنة، ولو كان لباسهما في المقابر لا يجوز لبيَّن الشارع ذلك لأُمَّته، وقد يجوز أن يأمره بخلعهما لأذىً فيها ولغير ذلك، يوضِّحه قوله ◙: ((إنَّ العبد إذا وُضع في قبره وتولَّى عنه أصحابه إنَّه ليَسمع قرْعَ نعالهم)) قاله الطَّحاويُّ، قال: وثبتَ عن رسول الله صلعم أنَّه صَلَّى في نعليه، فلمَّا كان دخول المسجد بالنِّعَال غير مكروهٍ، وكانت الصَّلَاة بها غير مكروهةٍ، كان المشي بها بين القُبُور أحرى بعدمِها.
          فَصْلٌ: وأمَّا الصُّفرة، فقد رُوي عن ابن عُمَر ☻ أنَّه كان يصبُغُ بها لحيته. ورُوي عنه أنَّه كان يصبُغُ بها ثيابه. روى ابن إسحاقَ، عن سعيدٍ المَقْبُرِيِّ، عن عُبَيدِ بن جُرَيْجٍ أنَّه قال لابن عُمَر: رأيتك تُصَفِّر لحيتكَ، فقال: فإنَّ رسول الله صلعم كان يُصَفِّر بالوَرْس، فأنا أحبُّ أن أُصَفِّر به كما كان رسول الله صلعم يَصنعُ، وهو في الكتاب بلفظ: ((يصبُغُ بالصُّفْرة، فأنا أحبُّ أن أصبُغُ بها)).
          قال ابن التِّين: قيل: معناه: يُصفِّر لحيتَهُ، وقيل: ثيابه، وقال: مَن تأوَّله بصُفْرة الثِّياب قال: إنَّ مالكاً قال: لم يصبُغُ رسول الله صلعم.
          وروى عبد الرَّزَّاق، عن مَعْمَرٍ، عن أيُّوبَ، عن نافِعٍ أنَّ ابن عُمَر ☻ كان يأمر بشيءٍ مِن زَعْفَرانٍ وَمِشْقٍ فيصبُغُ به ثوبَه فيلبَسُهُ، قال عبد الرَّزَّاق: وربَّما رأيت مَعْمَراً يلبسُهُ.
          وروى ابن وَهْبٍ، أخبرني عُمَر بن مُحَمَّدٍ، عن زيد بن أسْلَمَ قال: كان رسول الله صلعم يصبُغُ ثيابه كلَّها بالزَّعْفَرانِ حتَّى العمامة.
          قال المُهَلَّب: والصُّفرة أبهجُ الألوان، كذلك قال ابن عبَّاسٍ: أحسنُ الألوان كلِّها الصُّفرة، وتلا قوله تعالى: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة:69].
          فَصْلٌ: قال الخطَّابيُّ: قد يمكن أن يُستدلَّ بلباسه ◙ النِّعَال السِّبْتِيَّةِ على أنَّ الدِّباغ لا تأثير له في شَعَر المَيْتة، فإنَّ الشَّعَر ينجُسُ بموت الحيوان، فكذلك اختار لِباس ما لا شَعَر عليه إذ كانت النِّعَال قد تكون مِن جُلُود المَيْتَات المدبوغة والمُذَكَّيات المذبوحة، ومذهب مالكٍ خِلاف هذا، وأنَّ الشَّعر لا تحلُّ فيه الرُّوح ولا ينجُسُ بالموت.
          فَصْلٌ: وقوله: (رَأَيْتُكَ لاَ تَمَسُّ مِنَ الأَرْكَانِ إِلَّا اليَمَانِيَيْنِ) يريد: الرَّكنَ الأسودَ واليَمَانيَ، وهذا مذهب الفقهاء، وكان ابن الزُّبَير يمسُّ سائر الأركان، والأوَّل هو القويُّ للاتِّباع.
          واليمانيَين بتخفيف الياء. قال الهَرَويُّ: يُقال: رجلٌ يَمَانٍ، والأصل يَمَانِي، فخفَّفوا ياء النَّسب، كقولهم تَهَامُون، والسَّعْدُون، والأَشْعَرُون.
          فَصْلٌ: قيل: التَّصفير السَّالف ليس بصباغٍ، وإنما الصِّباغ الذي يُغيِّر الشَّيب، نحو ما أمر به ◙ أبا قُحَافةَ حين أُتي به النَّبِيُّ صلعم ورأى رأسَه ولحيتَهُ كالثَّغَامَةِ فأمر بتغيير شَيبهِ وقال: ((جنِّبوه السَّواد)).
          وفي «الموطَّأ»: أنَّ عبد الرَّحمن بن عبد يَغُوثَ كان أبيضَ الشَّعر يحمِّرُ لحيته ورأسه، وقال: إن عائِشَة ♦ أَقْسَمَت عليَّ لأصبُغنَّ وأخبرتني أنَّ أبا بكْرٍ كان يصبُغُ.
          قال مالكٌ: ورسول الله صلعم لم يصبُغْ ولو صبغَ لأرسلتْ بذلك عائِشَةُ إلى عبد الرَّحمن، وكلُّ ذلك واسعٌ إن شاء صَبغَ أو ترك.
          وقال مالكٌ: في صِبْغِهِ بالسَّواد لم أسمع في ذلك شيئاً معلوماً وغيره مِن الصِّبْغ أحبُّ إليَّ، وبه قال الشَّافِعِيُّ.
          وقيل: يصبُغُ به، وقيل: لا يغيِّرُ شَعَره بسوادٍ ولا غيره، وقيل: إنَّ مَن كَثُر شيبُهُ كأبي قُحَافَةَ غيَّرَهُ، ومَن قلَّ لم يغيِّره، وهذا معنى الخبرين الواردَين في ذلك ولا يتضادَّان.
          فَصْلٌ: وقوله: (حَتَّى تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ) هو قول ابن حَبِيبٍ وأصحُّ قولي الشَّافِعِيِّ.
          ومذهب مالكٍ: يُهلُّ عند الاستواء قائمةً، وقيل: معنى: (حَتَّى تَنْبَعِثَ) أي: تنبعثَ مِن الأرض إلى القيام.