التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب لبس الحرير وافتراشه للرجال وقدر ما يجوز منه

          ░25▒ (بَابُ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَافْتِرَاشِهِ لِلرِّجَالِ، وَقَدْرِ مَا يَجُوزُ مِنْهُ).
          ذكر فيه أحاديث:
          5828- أحدُها: حديث قَتَادَةَ، عن أَبي / عُثْمَان النَّهْدِيِّ قال: (أَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ ☺ وَنَحْنُ مَعَ عُتْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ بِأَذْرَبِيجَانَ: أَنَّ رَسُول اللهِ صلعم نَهَى عَنِ الْحَرِيرِ إِلَّا هَكَذَا، وَأَشَارَ بِإِصْبَعَيْهِ اللَّتَيْنِ تَلِيَانِ الْإِبْهَامَ، قَالَ: فِيمَا عَلِمْنَا أَنَّهُ يَعْنِي بِهِ الْأَعْلَامَ).
          5829- ثُمَّ ساقَ مِن حديثِ عاصِمٍ، وهو ابن سُلَيْمَان الأحولُ، أبو عبد الرَّحْمَن البَصْريُّ: (عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ: كَتَبَ إِلَيْنَا عُمَرُ وَنَحْنُ بِأَذْرَبِيجَانَ أَنَّ النَّبِيَّ صلعم نَهَى عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ إِلَّا هَكَذَا، وَوَصَفَ لَنَا النَّبِيُّ صلعم بإِصْبَعَيْهِ، وَرَفَعَ زُهَيْرٌ الْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةَ).
          (وَأَشَارَ أَبُو عُثْمَانَ بِإِصْبَعَيْهِ المُسَبِّحَةِ والوُسْطَى).
          5830- ثُمَّ ساقَ مِن حديثِ التَّيْمِيِّ وهو سُلَيْمَان بن طَرْخَانَ: (عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ: كُنَّا مَعَ عُتْبَةَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم قَالَ: لَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ أحدٌ فِي الدُّنْيَا إِلَّا لَمْ يُلْبَسْ فِي الْآخِرَةِ مِنْهُ).
          ثُمَّ ساقَ مِن حديثِ مُعْتَمِرٍ عن أبيه، عن أبي عُثْمَان: (وَأَشَارَ أَبُو عُثْمَان بِإِصْبَعَيْهِ الْمُسَبِّحَةِ وَالْوُسْطَى).
          5831- الحديث الثاني: حديث ابن أبي ليلى، قال: (كَانَ حُذَيْفَةُ بِالْمَدَايِنِ فَاسْتَسْقَى، فَأَتَاهُ دِهْقَانٌ بِمَاءٍ فِي إِنَاءٍ مِنْ فِضَّةٍ فَرَمَاهُ بِهِ وَقَالَ: إِنِّي لَمْ أَرْمِهِ إِلَّا أَنِّي نَهَيْتُهُ فَلَمْ يَنْتَهِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: الذَّهَبُ وَالفِضَّةُ وَالْحَرِيرُ وَالدِّيبَاجُ هِيَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ).
          5832- الحديث الثالث: حديث شُعْبَةَ عن عَبْدِ العَزيزِ بْنُ صُهَيْبٍ: (سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالٍِ ☺، قَالَ شُعْبَة: فَقُلْتُ: أَعَنِ النَّبِيِّ صلعم؟ فَقَالَ شَدِيدًا: عَنِ النَّبِيِّ صلعم، فَقَالَ: مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ).
          5834- الحديث الرابع: حديث شُعْبَة أيضًا: (عَنْ أَبِي ذِبْيَانَ خَلِيفَةَ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ: سَمِعْتُ عُمَرَ ☺ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صلعم: مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَة. وَقَالَ لَنَا أَبُو مَعْمَرٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ يَزِيدَ، قَالَتْ مُعَاذَةُ: أَخْبَرَتْنِي أُمُّ عَمْرٍو بِنْتُ عَبْدِ الله، قَالَتْ: سَمِعْتُ عَبْدَ الله بْنَ الزُّبَيْرِ، سَمِعَ عُمَرَ، سَمِعَ النَّبِيَّ صلعم نَحْوَهُ).
          5835- الحديث الخامس: حديث عِمْرَانَ بْنِ حِطَّانَ، قَالَ: (سَأَلْتُ عَائِشَةَ ♦ عَنِ الْحَرِيرِ، فَقَالَتْ: ائْتِ ابْنَ عَبَّاسٍ فَلتسْألَهُ، فَسَأَلْتُهُ فقَالَ: سَلِ ابْنَ عُمَرَ، فَسَأَلْتُ ابن عُمرَ، فَقَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو حَفْصٍ، يَعْنِي عُمَرَ بْنَ الخطَّاب ☺: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم قَالَ: إنَّمَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ. فَقُلْتُ: صَدَقَ وَمَا كَذَبَ أَبُو حَفْصٍ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلعم.
          وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَجَاءٍ: حَدَّثَنَا حَرْبٌ، عَنْ يَحْيَى: حَدَّثَنِي عِمْرَانُ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ).
          الشرح: قوله: (عَنْ أَبِي ذِبْيَانَ) كذا رُوي عن الفَرْبَرِيِّ بذالٍ مُعجمةٍ ونونٍ في آخره، وهو الصَّواب، قال الأَصِيليُّ في كُتُبِ بعضِ أصحابنا عن أبي زيْدٍ: <عَنْ أَبِي ذِيْبارٍ> بالرَّاء، وكذا ذكرَه البُخَارِيُّ في «تاريخه»، والذي عند مُسْلمٍ وابن الجَارُودِ والدَّارَقُطْنِيِّ بالنُّون، وقاله أيضًا أحمدُ بن حَنْبَلَ، ولعلَّ الذي في «تاريخ البُخَارِيِّ» تصحيفٌ مِن الكاتب لأنَّه لم يُعْقِّبه البُخَارِيُّ بحرف المعجم، وكان في نُسخة مُحَمَّد بن راشِدٍ بخطِّه وروايته عن أبي عليٍّ بن السَّكَن: <عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ> بالظاء المعجمة، وهو خطأٌ فاحشٌ إنَّما هو بذالٍ معجمةٍ.
          وقوله: (عَنْ يَزِيْدَ: قَالَتْ مُعَاذةُ) هو يزيدُ بن أبي يزيدَ سِنَانٍ، أبو الأَزْهَرِ الضُّبَعِيُّ مولاهم القسَّام، يُعدُّ في البصريِّين، ويُقال للقسَّام بالفارسيَّةِ: رِشْك، كان يَقْسِم الدُّور ومسَحُ مكَّةَ قبل أيَّام الموسم فبلغ كذا ومسَحَ أيَّام الموسم فإذا قد زاد كذا وكذا، مات سنةَ ثلاثين ومئةٍ.
          وقوله: (حَدَّثَنَا حَرْبٌ) هو ابن شدَّادٍ أبو الخطَّابِ اليَشْكُرِيُّ البَصْرِيُّ القطَّان، مات سنة إحدى وسِتِّين ومئةٍ، روى له الجماعة إلَّا ابن ماجه، وحديث حُذَيفة أخرجهُ مُسْلمٌ أيضًا، وأخرج مِن حديثِ عُمَر ☺: نهى نبيُّ الله صلعم عن لُبْس الحرير إلَّا موضعَ إصبعين أو ثلاثٍ أو أربعٍ، ولأبي داود: ثلاثة أو أربعة، ولابن أبي شَيْبَةَ: أنَّه كان يَنْهى عن الحرير والدِّيْبَاجِ، وفي حديث زرٍّ عنه موقوفًا: لا تلبسوا مِنَ الحرير إلَّا إصبعين أو ثلاثةٍ، وفي روايةٍ: قال عُمَر: لا يصلُح مِن الحريرِ إلَّا ما كان في تَكْفِيفٍ أو تَزْرِيرٍ. وزَعَمَ الدَّارَقُطْنِيُّ أنَّ جماعةً وقفوا هذا اللَّفظ، وفي لفظٍ: لم يُرَخِّص في الدِّيْباجِ إلَّا موضعَ أربعِ أصابعَ، قال الدَّارَقُطْنِيُّ: فَنَحَا به نحو الرَّفْعِ، وضعَّف رواية مَن روى: ((ولا تلبَسُوا الدِّيْبَاجَ ولا الحريرَ فإنَّها لهم في الدُّنْيَا ولكم في الآخرة))، وصحَّحه مِن رواية حُذَيفة.
          ولَمَّا ذكر ابنُ أبي حاتِمٍ في «عِلله» عن أبي زُرْعة حديثَ قَتَادَةَ عن أبي عُثْمَانَ عن عُثْمَان بن عفَّانَ: أنَّه كتبَ إلى عاملِ الكوفة: أنَّ رَسُول اللهِ صلعم نهى عن الحرير إلَّا قَدْر إصبعين وثلاثةٍ، قال: هذا خطأٌ، إنَّما هو قَتَادَة عن أبي عُثْمَان، عن عُمَرَ.
          وقوله: (وَقَالَ لَنَا أَبُو مَعْمَرٍ...) إلى آخره، أخرجه الإسْمَاعِيلِيُّ عن الحَسَن: حدَّثنا يَعْقُوبُ بن سُفْيَانَ، حدَّثنا أبو مَعْمَرٍ فذكره.
          وقوله إثر حديث عِمْرَان بن حِطَّان: (وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَجَاءٍ) يشبهُ أن يكون أخذَه عنه مذاكرةً، وروى أحمدُ وأبو داودَ بإسنادٍ صحيحٍ عن ابنِ عبَّاسٍ ☻ أنَّه قال: إنَّما نهى النَّبِيُّ صلعم عن الثوبِ المُصْمَتِ مِن الحرير، أمَّا العَلَم وسَدَاء الثوب فلا بأس به، واستدركَه الحاكمُ صحيحًا على شرط الشيخين بلفظ: إنَّما نهى رَسُول اللهِ صلعم عن المُصْمَتِ إذا كان حريرًا. ولابن حَزْمٍ مِن طريقٍ فيها ضعفٌ عن الحكم بن عُمَيرٍ _وله صُحْبةٌ_ قال: رخَّص رَسُول اللهِ صلعم في لُبْسِ الحرير عند القتال. ويأتي حديثُ أنسٍ الذي فيه الرُّخْصة للزُّبير وعبد الرَّحْمَن فيه للحكَّة.
          فصْلٌ: اختلف العلماء في معنى هذه الأخبار كما قال الطَّبَرِيُّ، فقال بعضهم بِعُمُوم الأخبار السالفة، منها: ((إنَّما يَلْبَسُ الحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ فِي الآخِرَةِ))، وقال: الحرير كلُّه حرامٌ قليلُهُ وكثيرُهُ، مُصْمَتًا كان أو غير مُصْمَتٍ، في الحرب وغيرها، على الرِّجَال والنِّسَاء؛ لأنَّ التَّحريمَ بذلك قد جاء عامًّا فليس لأحدٍ أن يخصَّ منه شيئًا لأنَّه لم يصحَّ بخصوصه خبرٌ. وقال آخرون: مِثلُ هذه الأخبار الواردة بالنَّهي عن لُبْسِهِ أخبارٌ منسوخةٌ، وقد رخَّص فيه الشارع بعد النَّهي عن لُبسِه وأَذِن لأُمَّته فيه. وقال آخرون ممَن قالَ بتحليل لُبْسه: ليست منسوخةً، ولكنَّها بمعنى الكراهة لا بمعنى التَّحريم. وقال آخرون: بل هي وإن كانت واردةً بالنَّهي عن لُبْسه فإنَّ المرادَ الخُصُوصَ للرجال فقط دون النِّسَاء، وما عني به الرِّجَال مِن ذلك فإنَّما هو ما كان منه حريرًا مُصْمَتًا، فأمَّا ما اختلف سَدَاهُ ولُحْمته أو كان عَلَمًا في ثوبٍ فهو مباحٌ. وقال آخرون ممَّن قالَ بخصوص هذه الأخبار: إنَّما عُني بالنَّهي عن لُبسه في غير لقاء العدُوِّ، فأمَّا له فلا باس به مباهاةً وفخرًا.
          حُجَّة مَن عمَّم: ما رواه مُجَاهِدٌ عن ابن عُمرَ قال: اجتنبوا مِن الثِّياب ما خالطَه الحرير، وروى عطاءٌ عن عبد الله مولى أسماءَ قال: أرسلتْ أسماءُ إلى ابن عُمرَ: أنه بلغني أنَّك تُحرِّم العَلَم في الثوب، فقال: إنَّ عُمَر حدَّثني أنَّه سمع رَسُولَ اللهِ صلعم يقول: ((مَن لَبِسَ الحريرَ في الدُّنْيَا لم يلبَسْه في الآخرةِ))، وأخاف أن يكون العَلَم في الثوب مِن لُبس الحريرِ. وقال أبو عُمَرٍو الشَّيْبانيُّ: رأى عليُّ بن أبي طالبٍ على رجلٍ جُبَّةَ طَيَالِسةٍ قد جعلَ على صدره دِيْباجًا، فقال: ما هذا النَّتن تحت لِحيَتِك؟ قال: لا رآه عليَّ بعدَها. وعن أبي هُرَيْرَةَ ☺: أنَّه رأى على رجلٍ لِبْنَة حريرٍ في قميصه، فقال: لو كانت بَرَصًا لكان خيرًا له. وعن عَبد الله بن مرَّةَ قال: رأى حُذَيفة على رجلٍ طَيْلَسَانًا فيه أزرارُ دِيْباجٍ، فقال: تتقلَّدُ قلائد الشَّيطان في عُنُقك. وعن الحَسَن البَصْرِيِّ أنَّه كان يكره قليلَ الحرير وكثيرَه للرجال والنِّسَاء، حتَّى الأعلامَ في الثياب، وكره ابنُ سِيْرينَ العَلَمَ في الثوب، وقال: الدليل على عموم التَّحريم قوله ◙: ((مَن لَبِسَه في الدُّنْيَا لم يلبَسْه في الآخرة)).
          حُجَّة مَن قالَ بالفرق بين الرِّجَال والنِّسَاء ورخَّص في الأَعلامِ، وهو قول الجمهور:
          رُوي عن حُذَيفة أنَّه رأى صِبيانًا عليهم قُمُصُ الحرير فنزَعَها عنهم وتَرَكَها على الجَوَارِ، وعن ابن عُمرَ أنَّه قال: يُكرَه الحرير للرجال ولا يُكره للنِّساء. وعن عَطَاءٍ مثلهُ، وروى أحمدُ والنَّسَائيُّ والتِّرْمِذِيُّ مِن حديثِ أبي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ عبد الله بن قَيْسٍ ☺: أنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم قال: ((أُحِلَّ الذَّهَبُ والحَريرُ لإناثِ أُمَّتِي وحُرِّم على ذكورِها))، قال التِّرْمِذِيُّ: حديث حَسَنٌ صحيحٌ. وخالف ابنُ حبَّان في «صحيحه» فقال: لا يصحُّ. وصحَّ أنَّه ◙ أعطى عليًّا حُلَّةً وقال: ((شقِّقْها خُمُرًا بين نسائِكَ))، أخرجه الشيخان مِن حديثِه، وفي رواية: ((بينَ الفَوَاطِم))، رواها مُسلمٌ، زاد ابن أبي الدُّنْيَا: فَشَقَّقَها أربعةَ أَخْمِرةٍ: خِمَارًا لزوجته فاطمة، وآخرَ لأُمِّه، وآخر لابنة حَمْزَةَ، ونسي الراوي الرابعة.
          وكان ابنُ عبَّاسٍ لا يرى بأسًا بالأعلام، وقال عَطَاءٌ: إذا كان العَلَم إصبعين أو ثلاثةً مجموعةً فلا بأس به، وكان عمر بن عبد العزيز يلبسُ الثوبَ سَدَاه كَتَّان ولُحْمته حريرٌ، وأجازه ابن أبي ليلى، وقال أبو حنيفة: لا بأس بالخزِّ وإن كان سَدَاهُ إِبْرَيْسَم، وكذلك لا بأس بالخَزِّ وإن كان مُبطَّنًا بثوب حريرٍ لأنَّ الظاهر الخزُّ وليس الظاهر الحرير، ولا بأس بحشو القَزِّ.
          وقال الشَّافِعِيُّ: إن لبس رجلٌ قَبَاءً محشُوًّا قزًّا فلا باسَ به لأنَّ الحشو باطِنٌ، وإنَّما كُره إظهارُ القَزِّ للرجال، كان النَّخَعِيُّ يكره الثوبَ سَدَاهُ حريرٌ، وقال طَاوُسٌ: دَعْهُ لمَن هو أحرص عليه، وسُئل الأَوْزَاعيُّ عن السِّيْجَانِ الوَاسِطيَّة التي سَدَاها قزٌّ، فقال: لا خيرَ فيها.
          قال غير الطَّبَرِيِّ: وكان مالكٌ يُعجبه ورعُ ابن عُمرَ فلذلك كره لباس الحرير، قالَ مالكٌ: وإنَّما كَرِه الخزَّ لأنَّ سَدَاهُ حريرٌ.
          حُجَّة مَن ادَّعى النَّسخَ بإذنه للزُّبير في ذلك، وأنَّ لباسَ الحرير جائِزٌ في الحرب وغيره، روى مَعْمَرٌ عن ثابتٍ، عن أنسٍ قال: لقي عُمرُ عبدَ الرَّحْمَن بنَ عوفٍ فجعل ينهاه عن لباس الحرير، فجعل عبدُ الرَّحْمَنِ يضحكُ، وقال: لو أطعتنا لَبِستَهُ معنا.
          روى شُعْبَةُ عن أبي بَكْرِ بن حَفْصٍ عن عبد الله بن عامِرِ بن رَبِيْعَة قال: شهدتُ عُمَرَ بن الخطَّاب وعبد الرَّحْمَن بن عوفٍ وعليه قميصُ حريرٍ، فقال: يا عبد الرَّحْمَن، لا تلبسِ الحريرَ والدِّيباجَ فإنَّه ذُكر لي أنَّ مَن لَبِسه في الدُّنْيَا لم يلبسه في الآخرة، فقال عبد الرَّحْمَن: والله إنِّي لأرجو أن ألبسَهُ في الدُّنْيَا والآخرة.
          وروى ابن أبي ذئبٍ، عن شعبة مولى ابن عبَّاسٍ قال: دخل المِسْوَر بن مَخْرَمةَ على ابن عبَّاسٍ يعودُهُ وعلى / ابنِ عبَّاسٍ ثوبُ إسْتَبرقَ، وبين يديه كانونٌ عليه تماثيلُ، فقال: ما هذا اللِّباس عليك؟ قال: ما شعرتُ به، وما أظنُّ رَسُول اللهِ صلعم نهى عنه إلَّا للتكبُّر والتجبُّر، ولسنا كذلك، قال: فما هذه التَّماثيل؟ فقال: أَمَا تراها قد أحرقناها بالنَّار؟! فلمَّا خرجَ المِسْوَرُ قال ابنُ عبَّاسٍ: ألقوا هذا الثوب، واكسِروا هذه التَّمَاثيل، وألقوا هذا الكَانُون. وعن جُبَير بن حيَّةَ أنَّه اشترى جاريةً عليها قَبَاءٌ مِن ديباجٍ منسوجٍ بذهبٍ فكان يَلبسُه، وكأنَّ أصحابه عابوا عليه ذلك، فقال: إنَّه يُدْفِئني وألبسُه في الحرِّ. وصوَّب الطَّبَرِيُّ أنَّ حديثَ عُمَر على الخُصُوص.
          فصْلٌ: وقوله: (إنَّما هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ) يعني مِن الحرير المُصْمَت مِن الرِّجَال في غير حال المرض والجَرَبِ لغير ضرورةٍ تكبُّرًا أو اختيالًا في الدُّنْيَا لم يلبسه في الآخرة، ولباسُ ذلك كذلك لباسُ مَن لا خَلَاقَ له، وإنَّما قلنا: عنى به مِن الحرير المُصْمَت لقيام الحُجَّة بالنقل الذي يمتنع منه الكَذِب أنَّه لا بأس بلبس الخزِّ، والخزَّ لا شكَّ سَدَاه حريرٌ ولُحْمَته وَبَرٌ، فإذا كانت الحُجَّة ثابتةً بحِلِّه، فسبيلُ كلِّ ما اختلف سَدَاه ولُحْمته سبيل الخزِّ أنَّه لا بأس بلُبسه في كل حالٍ للرجال والنِّسَاء، وإنَّما قلنا: عنى به ما كان ثوبًا دونَ ما كان عَلَمًا في ثوبٍ لصِحَّة الخبر عن رَسُول اللهِ صلعم استثنى قَدْر إصبعين أو ثلاثةٍ أو أربعٍ.
          أمَّا حال الضَّرورة للبسه فلصِحَّة الخبر أيضًا فيه عن رَسُول اللهِ صلعم أنَّه أرخصَ للزُّبير وابن عوفٍ فيه لحكِّةٍ كانت بهما، وألحقنا بها كلَّ علَّة تُرجى بلبسِه خِفَّتُها، وكذا لدفْعِ السِّلاح مِن بابٍ أَوْلَى، وفرَّقنا بين الرِّجَال والنِّسَاء لصِحَّة خبر أبي مُوسَى السَّالف، فبانَ أنَّ الأخبارَ لا تضادَّ فيها ولا نسخَ.
          وقد سلف في الجهاد اختلافُ العلماء في لبس الحرير في الحرب، واختلفوا كما قال الطَّبَرِيُّ في قوله: (إنَّمَا يَلْبَسُها مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ فِي الآخِرَةِ) فقيل: ما له في الآخرة مِن جهةٍ، وقيل: مِن قَوَامٍ، وقيل: مِن دِينٍ، ومَن لَبِسه لباسَ اختيالٍ وتكبُّرٍ دون ضرورةٍ تدعو إليه فهو الذي لا خلاقَ له فيها، وقال غير الطَّبَرِيِّ: إنَّه مِن لِبَاس المشركين في الدُّنْيَا فينبغي أن لا يلبسه المؤمنون.
          فصْلٌ: يحِلُّ عندنا ما طُرِّز أو طُرِّف بحريرٍ بقدر العادة، وذكر الزَّاهدِيُّ مِن الحنفيَّة أنَّ العِمَامةَ إذا كانت طُرَّتها قَدْرَ أربع أصابعَ مِن إِبْرَيْسَم بأصابعَ عُمَرَ بنِ الخطَّاب، وذلك قيس شبرنا يُرخَّص فيه، والأصابع لا مضمومةٌ كلَّ الضمِّ ولا منشورةٌ كلَّ النَّشر، وقيل: أربعُ أصابعَ كما هي على هيئتها لا أصابع السَّلف، وقيل: أربعُ أصابعَ منشورة، وقال بعضهم: التحرُّز عن مقدار المنشورة أَوْلى، والعَلَم في العِمَامة في مواضعَ، قال بعضهم: تُجمع، وقيل: لا تُجمع، ولا بأس بالعَلَم المنسوج بالذَّهَب للنِّساء، وأمَّا الرِّجَال فقَدْرُ أربع أصابعَ وما فوقه يُكره، فإن كان نظره الدَّائم إلى الثَّلْج يضرُّه فلا بأس أن يَسدِلَ على عينيهِ خِمَارًا أسودَ مِن إِبْرَيْسَمٍ. قال: ففي العين الرَّمدة أَوْلى، وقيل: لا يجوز.
          وعن أبي حنيفة: لا بأس بالعَلَم مِن الفِضَّة في العِمَامة قَدْرَ أربع أصابِعَ، ويُكره مِن الذَّهَب. وقيل: لا يُكره، والذَّهَب المنسوج في العَلَم كذلك، وعن مُحَمَّدٍ: لا يجوز، ويجوز لُبْس الثوبِ والقَلَنْسُوَةِ المنسوجة.
          فصْلٌ: آذْرِبيجانُ في حديثِ عُمَرَ بفتح الهمزة الممدودة، وقال ابن التِّين: قرأناه بكسرِها، وفي بعض الكتب ضُبط بفتحها، ورأيت في كتاب عصريِّنا في «غريب الرَّافعِيِّ»: أنَّها بفتح الهمزة والراء وسكون الذَّال، قال: ومنهم مَن مدَّ الهمزة وضمَّ الذال وسَكَّنَ الراء. قال ابن فارسٍ: والنِّسبة إليها أَذَرِيٌّ.
          وقوله: (وَأَشَارَ بِإِصْبَعَيْهِ) يعني الأعلامَ.
          وقال أبو عبد الملك: إنَّما نهى الشارعُ عن الحرير المُصْمَتِ إلَّا ما كان منه مِقْدار إصبعين أو ثلاثةٍ أو أربعةٍ، وادَّعى أنَّ البُخَارِيَّ خرَّجه، وهو دالٌّ على الطَّوقِ منه، واللِّبْنَة ما كان دون أربعِ أصابِعَ حَلالٌ. وفي «جامع مختصر الشيخ أبي مُحَمَّدٍ»: قيل لمالكٍ: مَلَاحِفُ أعلامُها حريرٌ قَدْرَ إصبعين؟ قال: لا أحبُّه، وما أراه حرامًا. وفي روايةٍ أخرى: لا بأس بالخطِّ الرَّقِيق. وكره مالكٌ في المستخرجة لبسه للغزو، وأجاب عن حديث الزُّبَيْر وابن عوفٍ بأنَّه مخصوصٌ بهما، وأجاز عبد الملك لُبْسَه للجهاد عند القتال والصَّلاة فيه حينئذٍ.
          فصْلٌ: قال ابن التِّين: اخْتُلِف في إجازة الخزِّ فأُجيزَ وكُرِه، وهو الذي سَدَاهُ حريرٌ، وقال ابن حَبِيبٍ: لم يُختلف في إجازة لبسِه، وقد لَبِسَه خمسة عشر صحابيًا وخمسة عشر تابعيًا، وأمَّا الخزُّ الذي مُزج مِن الحرير بكَتَّانٍ أو صُوفٍ، فَلُبْسُه للرجال في الصَّلاة وغيرها مكروهٌ للاختلاف بين السَّلف؛ أجازَه ابنُ عبَّاسٍ وكرهَه ابنُ عُمرَ، قال مُطَرِّفٌ: ورأيت على مالكٍ سَاجَ إبْرَيْسَمٍ كَسَاه إيَّاه هَارُونُ، وكان يُفتي هو وأصحابُه بكراهته ولم يكن عنده كالخزِّ المحضِ. قال ابن حَبِيبٍ: وليس بين ثيابِ الخَزِّ والثياب التي قيامُها حريرٌ فرْقٌ إلَّا الاتِّباع.
          فصْلٌ: وقوله: (لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الآخِرَةِ) هو على ما تقدَّم إمَّا أن ينساه أو تُزال شهوته مِن نفسه أو يكون ذلك في وقتٍ دون وقتٍ.
          فصْلٌ: (عِمْرَانَ بْنِ حِطَّانَ) هو بكسر الحاء، سَدُوسِيٌّ مِن أفراد البُخَارِيِّ تابعِيٌّ، وكان رجلًا خارجيًّا مَدَحَ ابنَ مُلْجِمٍ قاتَلَه اللهُ، قال ابنُ التِّين: (حِطَّان) قرأناه بكسر الحاء وضُبط في بعض النُّسخ بالفتح، قيلَ: وهو خَارِجِيٌّ، وإنَّما أدخله البُخَارِيُّ في المتابعة لا في الأُصُول.