التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الخضاب

          ░67▒ باب الخِضَابِ.
          5899- ذكر فيه حديث أبي هُرَيْرَةَ ☺ قال: قَالَ النَّبِيُّ صلعم: (إِنَّ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ).
          اختلف السَّلف في تغيير الشَّيب، وروى شُعْبَة عن الرُّكَيْنِ بْنِ الرَّبِيعِ قال: سمعتُ القاسم بن مُحَمَّدٍ يحدِّث، عن عبد الرَّحمن بن حَرْمَلَة، عن ابن مَسْعُود أنَّه ◙ كان يَكرهُ تغيير الشَّيب.
          وروى ابن إسحاقَ، عن عُمَرِو بن شُعَيْبٍ، عن أبيه، عن جدِّه أنَّه ◙ قال: ((مَن شاب شَيْبَةً في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة، إلَّا أن يَنْتِفها أو يَخْضِبَها)) فرأى بعضهم أنَّ أمره ◙ بصبغهِ أمرُ ندْبٍ، وأنَّ تغييره أَوْلى مِن تركهِ أبيضَ.
          وروى عن قيسِ بن أبي حازِمٍ قال: كان أبو بكْرٍ الصِّدِّيق يخرجُ إلينا وكأنَّ لحيتهُ ضِرَامُ العَرْفَج مِن الحِنَّاء والكَتَمِ.
          وعن أنسٍ أنَّ أبا بكْرٍ وعُمَر كان يَخْضِبان بالحِنَّاء والكَتَم، وكان الشَّعْبِيُّ وابن أبي مُلَيْكَة يَخْضِبان بذلك أيضاً.
          وعن عُمَرَ بن الخطَّاب أنَّه كان يأمر بالخِضَاب بالسَّواد ويقول: هو تسكينٌ للزَّوجة وأَهيبُ للعدُوِّ. وعن ابن أبي مُلَيْكَةَ أنَّ عُثْمَان يَخْضِب به. وعن عُقْبَة بن عامِرٍ والحَسَن والحسين أنَّهم كانوا يَخْضِبون به.
          ومِن التابعين: عليُّ بن عبد الله بن عبَّاسٍ وعُرْوَةُ بن الزُّبَير وابن سِيرينَ وأبو بُرْدةَ. وروى ابن وَهْبٍ عن مالكٍ قال: لم أسمع في صِبْغ الشَّعَر بالسَّواد بنهيٍ معلومٍ، وغيرُهُ أحبُّ إليَّ.
          وممَّن كان يصبُغُ بالصفرة: عليٌّ وابن عُمَر والمغيرةُ وجَرِيرُ البَجليُّ وأبو هُرَيْرَةَ وأنسٌ.
          ومِن التابعين: عَطَاءٌ وأبو وائلٍ والحَسَنُ وطَاوُسٌ وسَعِيدُ بن المُسَيِّب.
          واعتلَّ مغيِّرو الشَّيب مِن حديثِ أبي هُرَيْرَةَ وغيره بما رواه مَطَرٌ الورَّاقُ عن أبي رَجَاءٍ، عن جابرٍ قال: ((جيء بأبي قُحَافة ☺ إلى رسول الله صلعم ورأسهُ ولحيتهُ كأنَّهما ثَغَامةٌ بيضاءُ، فأمَرَ رسول الله صلعم أن يغيِّروه فَحَمَّرُوه)).
          والثَّغامة بمثلَّثةٍ مفتوحةٍ ثمَّ غينٍ معجمةٍ، قال أبو عُبَيدٍ: هو نبتٌ أبيض الزَّهر والثَّمر يُشبَّه بياضُ الشَّيب به. وقال ابن الأعرابيِّ: هي شجرةٌ بيضاءُ كأنَّها المِلْح.
          ورأى آخرون تركَهُ أبيضَ أَوْلى مِن تغيُّره وأنَّ الصَّحيح عنده نهيه عن تغيُّره وقالوا: تُوفِّي وقد بدا في عَنْفَقتهِ ورأسه الشَّيب ولم يُغيِّره بشيءٍ ولو كان تغييره الاختيار كان هو آثرَ الأفضل.
          قال أبو إسحاقَ الهَمْدَانيُّ: رأيت عليَّاً ☺ أبيض الرأس واللِّحية، وقاله الشَّعْبِيُّ.
          وكان أُبيُّ بن كعْبٍ أبيضَ اللِّحية. وعن أنسٍ ومالكِ بن أوسٍ وسَلَمَةَ بن الأكوعِ أنَّهم كانوا لا يغيِّرون الشَّيب. وعن أبي الطُّفَيل وأبي بُرْدةَ الأَسْلَمِيِّ مثله.
          وكان أبو مِجْلَزٍ وعِكْرِمَةُ وسعيدُ بن جُبَيْرٍ وعَطَاء بن السَّائب لا يَخْضِبون، واعتلُّوا بما روى أبو إسحاق عن أبي جُحَيْفَة قال: رأيت النَّبِيَّ صلعم عَنْفَقَتَهُ بيضاءُ.
          قال الطَّبَرِيُّ: والصَّواب عندنا أنَّ الآثار التي رُوِّيت عن رسول الله صلعم بتغييره والنَّهي عنه صِحاحٌ، ولكن بعضها عامٌّ وبعضها خاصٌّ بقوله: ((خالفوا اليَهُود وغيِّروا الشَّيب)) المراد منه الخُصوص أي: غيِّروا الشَّيب الذي هو نظير شيب أبي قُحَافة، فأمَّا من كان أشمطَ فهو الذي أمره رسول الله صلعم أن لا يُغيِّره، قال: ((ومَن شابَ شَيْبَةً..)) الحديث. لأنَّه لا يجوز أن يكون مِن رسول الله صلعم قولٌ متضادٌّ، ولا نسخَ فتعيَّن الجمع، فمن غيَّره مِن الصَّحابة فمحمولٌ على الأوَّل ومَن لم يغيِّره فالثاني مع أنَّ تغييره نَدْبٌ لا فرْضٌ، ولا أرى مغيِّر ذلك _وإن كان قليلاً_ حرجاً بتغيُّره إذ كان النَّهي عن ذلك نهي كراهَةٍ لا تحريماً، لإجماع سلف الأُمَّة وخَلَفِها على ذلك، وكذلك الأمر فيما أمر به على وجه النَّدْب ولو لم يكن كذلك كان تاركو التغيير قد أنكروا على المغيِّرين، أو أنكر المغيِّرون على تاركي التغيير، وبنحو معناه قال النَّوويُّ.
          فائدةٌ: (يَصْبغُ) بضمِّ الباء وفتحها حكاها في «المشارق».
          فَصْلٌ: رُوِّيْنا في كتاب «الخِضاب» تأليف ابن أبي عاصِمٍ مِن حديثِ هِشَامٍ، عن أبيه، عن الزُّبَير بن العوَّام قال رسول الله صلعم: ((غيِّروا الشَّيب ولا تَشبَّهوا باليَهُود)) قال: وفيه: عن مُحَمَّد بن عمرٍو، عن أبي سَلَمَةَ، عن رسول الله صلعم.
          ورواه الأَوْزَاعيُّ قال: ((اخضبوا فإنَّ اليَهُود والنَّصَارى لا يَخْضِبون)) ثمَّ أسندَ عن عُتْبةَ بن عبدٍ قال: كان رسول الله صلعم يأمرُ بتغيير الشَّعَر مخالفة الأعاجم.
          فَصْلٌ: قد أسلفنا الاختلاف في شيبهِ، وأنَّ أنساً أنكره وأنَّ أمَّ سَلَمَةَ أخرجته: ((أحمر)). وروى ابن سَعْدٍ قال ربيعةُ: ((رأيتُ شَعَراً مِن شعرهِ أحمرَ فسألت عنه فقالوا: احمرَّ مِن الطِّيب)).
          وهذا يُؤيِّد ما تأوَّلناه فيما مضى مع الحدس السَّالف. وعن عبد الرَّحمن الثماليِّ: كان ◙ يغيِّر لحيته بماء السِّدر، وعن عبد الرَّحمن ابن حَرْمَلَة عن عبد الله قال: ((كان رسول الله صلعم يكرهُ تغييرَهُ)).
          قال الطَّحاويُّ: وحديث ابن مَسْعُودٍ في العَشرة الأشياء التي كان رسول الله صلعم يكرهها ومنها تغيير الشَّيب، أحسنُ ما حَضَرنا فيه أنَّا رُوِّيْنا أنَّه ◙ قال: ((إنَّ اليَهُود والنَّصَارى لا يَصبُغُون فخالِفُوهم)) فَعَقَلنا / بذلك أنَّه كان في البدْءِ على مِثل ما كانوا عليه لِمَا رُوي عنه أنَّه كان فيما لم يُؤمَر فيه بشيءٍ يحبُّ موافقة أهل الكِتاب، فكان على ذلك حتَّى أحدثَ الله له في شريعته ما يُخَالِف ذلك مِن الخِضَاب فأمر به، وبخِلاف ما عليه أهل الكتاب مِن تركْهِ، وَعَقَلْنا بذلك أنَّ جميع ما رُوي عنه في الأمر باستعمال الخِضَاب متأخِّرٌ عن ذلك.
          فَصْلٌ: قال الإسْمَاعيلِيُّ في «صحيحه»: حديث الشَّعَر الذي أخرجته أمُّ سَلَمَةَ لم يبيِّن فيه أنَّه ◙ هو الذي خَضَب، ولعلَّه لوَّنَ بعده أو وُضِعَ في طيبٍ فيه صُفْرةٌ تعلَّقته، فإنَّ حديث أَنَسٍ أصحُّ، فإنَّ بعضهم حكى عن أنسٍ أنَّ شَعَره أحمرُ ولم يُخبِر عن أمِّ سَلَمَةَ أنَّه ◙ خَضَب.
          فَصْلٌ: ذكر غير واحدٍ أنَّ عُقْبَة بن عامِرٍ كان يَخْضِبُ بالسَّواد، فإذا اتَّصل قال:
نسوِّد أَعلَاها وَتَأبى أُصُولها
          وبه قال مالكٌ وجماعةٌ مِن أهل المدينة استدلالاً بحديث: ((غيِّروا الشَّيب)) وهو حديثٌ حسَنُ الإسناد _كما قاله أبو عُمَر_ وتغييره عامٌّ بالسَّواد أو بغيره، وأفرده ابن الجَوْزِيِّ بالتأليف وسنذكرُ قطعةً منه بعدُ.
          فَصْلٌ: روى ابن أبي عاصِمٍ مِن حديثِ الأَجْلَحِ، عن عبد الله بن بُرَيْدَة، عن أبي الأسود الدِّيليِّ، عن أبي ذرٍّ أنَّ رسول الله صلعم قال: ((إنَّ أحسنَ ما غيِّرتم به الشَّيب الحِنَّاء والكَتَم))، وفي روايةٍ: ((أفضل)). وعن ابن عبَّاسٍ ☻ وأنسٍ وعبدٍ الله بن بُرَيْدَة عن أبيه مثله.
          ومِن حديثِ الضَّحَّاك بن حُمْرةَ، عن غَيْلانَ بن جامِعٍ وإَيَادِ بن لَقِيطٍ، عن أبي رِمْثةَ قال: ((رأيتُ رسول الله صلعم وله شَعَرٌ مخضوبٌ بالحِنَّاء والكَتَم)).
          ومِن حديثِ ابن عبَّاسٍ ☻ أنَّه ◙ رأى رجلاً خَضَب بالحِنَّاء، فقال: ((ما أحسَنَ هذا وآخرَ خَضَب بالحِنَّاء والكَتَم فقال: هذا أحسنُ مِن هذا كلِّه)).
          ومِن حديثِ رَجَاءٍ، عن عائِذِ بن شُرَيحٍ قال: سمعتُ أنسَ بن مالكٍ، وشُعَيْبَ بن عَمْرٍو، ونَاجِيةَ بن عَمْرٍو يقولون: ((رأينا رسول الله يَخْضِبُ بالحِنَّاء والكَتَم)).
          ومِن حديثِ عبد الله بن العَلاءِ بن زَبْرٍ، عن القاسم، عن أبي أُمَامةَ ☺: ((خرجَ رسول الله صلعم على مَشْيخةٍ مِن الأنصار بيضٍ لِحَاهم، فقال: صفِّروا أو حمِّروا)).
          ومِن حديثِ بقيَّة عن أبي يُوسُفَ: سمعتُ حسَّانَ بن أبي جابِرٍ السُّلَميَّ قال: ((كنتُ مع رسول الله صلعم في الطَّواف، فرأى رجالاً مِن أصحابه قد صفَّروا فقال: مرحباً بالمُصَفِّرين)).
          وفي حديث مَطرٍ، عن أبي رَجَاءٍ، عن جابرٍ أنَّ النَّبِيَّ صلعم قال في أبي قُحَافة: ((اذهبوا به إلى بعض نِسائه يغيِّرُ شَيبه)) قال: فذهبوا به فحمَّروه، وكان ◙ أمرَهم بتجنُّب السَّواد.
          وفي حديث عبد الكريم، عن ابن جُبَيْرٍ، عن ابن عبَّاسٍ مرفوعاً: ((يكون في آخر الزَّمان قومٌ يَخْضِبون بالسَّواد لا يجدون رِيْح الجنَّة)) ومِن حديثِ أَنَسٍ بن مالكٍ مرفوعاً: ((غيِّروا ولا تغيِّروا بالسَّواد)) فيه ابن لَهِيعةَ. ومِن حديثِ المثنَّى بن الصَّبَّاح، عن عُمَرَو بن شُعَيْبٍ عن أبيه، عن جدِّه، عن رسول الله صلعم: ((مَن خضَبَ بالسَّواد لم يَنظر الله إليه)).
          وللطَّبَرانيِّ مِن حديثِ الوَضِين، عن جُنَادةَ، عن أبي الدَّرداء مرفوعاً: ((مَن خَضَب بالسَّواد سوَّد الله وجهه يوم القيامة)).
          وذكر ابن أبي عاصِمٍ بأسانيده أنَّ حَسَناً وحسيناً كانا يَخْضِبان به، وكذلك ابن شِهَابٍ، وقال: أحبُّه إلينا أحلكُه، وكذلك شُرَحْبِيلُ بْنَ السِّمْطِ، وقال عَنْبَسَةُ بن سَعِيْدٍ: إنَّما شَعَرك بمنزلةِ ثوبكَ فاصبُغُه بأيِّ لونٍ شئتَ، وأحبُّه إلينا أَحْلَكهُ.
          وكان إسماعيلُ بن أبي عبد الله يَخْضِب بالسَّواد، وقال ابن الأَجْلَح: رأيت ابن أبي ليلى والحجَّاج بن أَرْطَاة يَخْضِبان بالوَسْمَة، ثمَّ قال: إنْ قال قائلٌ: صِبْغ الرأسِ واللِّحية بالسَّواد غير جائزٍ بل مكروهٌ، واحتجَّ بالأخبار السالفة، قيل له: ليست حجَّةً في النَّهي ولا زجر عنه، وذلك أنَّه ◙ إنَّما أخبر عن قومٍ علامتهم الخِضَاب بالسَّواد، وليس _وإن كان الخِضَاب به علامةً لهم_ منهيٌّ منه عن الخِضَاب به، وقد أخبر صلعم أنَّ علامةَ الخوارجِ حَلْقُ الرؤوس، ولم يقل قائلٌ بالنَّهي عن حَلْقها كذلك.
          في قوله لأبي قُحَافة: (جَنِّبُوْهُ السَّوَادَ) فإنَّما أمر بذلك لِمَا رأى مِن هَيْئَتِه؛ لأنَّ الخِضَاب بالسَّواد إنَّما يكون لمن يليق به مِن نَضَارة الوجه، فأمَّا في صِفة أبي قُحَافة فهو شَينٌ لأنَّه غير ملائمٍ لمثلهٍ ولا مُشَاكلٍ، وقال الزُّهْرِيُّ: كنَّا نَخْضِب بالسَّواد إذ كان الوجه جديداً، فلمَّا نَغِص الوجه والأسنان تركناه.
          قلت: ولو ضعَّف أحاديث النَّهي كان أَوْلى. قال: وفي قوله: ((وَجَنِّبُوْهُ السَّوَادَ)) دليلٌ أنَّ العرب كانت تَخْضِب به وأنَّه مِن فِعْلهم، قلت: وأوَّل مِن صبَغَ به فيما ذكره الكلبيُّ عبدُ المُطَلِّب بن هاشمٍ.
          قال ابن أبي عاصٍمٍ: وفيما ثبت عنه أنَّه ◙ قال: ((اليَهُود والنَّصَارى لا يصبُغُون فخالِفُوهم)) إباحةٌ منه أن يُغيِّر الشيب بكلِّ ما شاء المغيِّر له إذ لم يتضمَّن قوله: (خَالِفُوْهُمْ) أن اصبغوا بكذا وكذا دون كذا وكذا، وقد ثبتَ عن الحَسَن والحسين _وهما هما وفيهما القُدوة_ الخبر ما قدَّمناه، وكذلك مُحَمَّد ابن الحنفيَّةِ.
          وفي قوله: ((إِنَّ أَحْسَنَ مَا غَيِّرتُم بِهِ الشَّيْبُ الْحِنَّاءُ وَالْكَتَمُ)) دليلٌ على أنَّ تغيير الشَّيب بكلِّ ما غُيِّر به حسَنٌ.
          فَصْلٌ: قال: فإن قلت: اختلافُ الأخبار في خِضَاب رسول الله صلعم وبما اختضبَ به، وفي إخبارِ مَن أخبر مِن أصحابه أنَّه لم يَخْتَضِب.
          وفي روايةِ مَن روى تيسير شيبهِ ومواضع الشَّيب منه ما يُوجِب التوقُّف عن القَطْع بها وقد أثبتوا الشَّيب، فالشيب ثابتٌ والخِضَاب غير ثابتٍ حتَّى يَتَّفِقوا منه على مثل ما اتَّفقوا على الشَّيب، فحُكي عن بعضهم أنَّه كان سبعَ عشرةَ شعرةً بيضاءَ، وقال آخرون: عشرون.
          قلت: وذكر العلَّامةُ أبو القاسم في كتاب «الشَّيب» عن أنسٍ خمس عشرة، وعند ابن سَعْدٍ: سبع عشرة أو ثماني عشرة، وفي حديث الهيثم بن دَهْرٍ: ثلاثون شعرةً / عدداً، وفي حديث جابرٍ بن سَمُرةَ: ((ما كان في رأسه ولحيته مِن الشَّيب إلَّا شَعَراتٌ في مَفْرِق رأسه إذا ادَّهنَ واراهن الدُّهْن))، وكلٌّ قد اتَّفق على أنَّه كان شيبٌ، وقال أبو بكْرٍ وأبو جُحَيْفَة: ((نراك يا رسولَ الله قد شِبتَ قال: وما لي لا أَشِيبُ)). وذكر القِصَّة. قلت: هذا المحكيُّ _إنَّما كان في النوم_ كما بيَّنه الدَّارَقُطْنِيُّ وغيره.
          وقال ابن أبي عاصِمٍ: فهذا ما اعتلَّ به مِن وصفنا قولهُ الموهِن في الأخبار المروية في ذلك بزعمِهِ أنَّها متاضدَّةٌ متنافيةٌ إذ الحِنَّاء والكَتَم ضدُّ الحُمْرة، والحُمْرة ضدُّ الصُّفْرة. فأمَّا خبر أنسٍ أنَّه لم يَخْضِب فقد عارضَهُ ما روى عائِذُ بن شُرَيحٍ عن أنسٍ أنَّه ◙ خَضَب ومع ذلك فليس قول أنسٍ أنَّه ◙ لم يَخْضِب بحجَّةٍ على مَن قال: إنَّه خَضَب، لأنَّ هذا مُثبتٌ ومشاهدٌ لِمَا رأى وذلك نافٍ، والنافي لا يكون حجَّةً على المثبَتِ. وأمَّا خبر ابن عُمَر ☻ أنَّه ◙ خَضَب بالصُّفْرة فالمحفوظ عن ابن عُمَر أنَّه كان يَخْضِب، ولا حُجَّة في ذلك الخبر. إنَّما رواه شريكٌ عن عُبَيْدِ اللهِ عن نافِعٍ، عنه.
          وهذا خبرٌ قد اتَّفق أهل العِلْم منه على معنى ليس هذا موضعُ ذِكره، وليس فيما اختلف مِن خِضَابه بالحِنَّاء والكَتَم، والحِنَّاء دون الكَتَم، وبالصُّفْرة تضادٌّ، وذلك أنَّه جائزٌ أن يَخْتَضِب بالصُّفرة في وقتٍ فيحكي الرائي له ما رأى، وفي وقتٍ آخرَ خَضَب بالحِنَّاء والكَتَم فحكى الرائي ذلك.
          وغير مُستنكرٍ لخِضَاب الحِنَّاء إذا أتت عليه مدَّةٌ أن تزول عنه شدَّة الصِّبغ حتَّى تصيرَ إلى الحُمْرة. فمن رآه في هذه الحالة حكى حُمْرةً، وغير مُستنكرٍ إذا خَضَب بحِنَّاء رقيقاً أن يقول قائلٌ: هذه صُفْرةٌ، ويقول آخر: هذه حُمْرةٌ فلا تضادَّ إذًا.
          فَصْلٌ: روى أبو القاسم موسى بن عيسى بن مَهْدِيٍّ في كتاب «الشَّيب» الراوي عن الكُدَيميِّ وشبهه أنَّ إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه أوَّل مَن شابَ، وذلك أنَّه كان يشبهُ ابنه إسحاقَ، فكان النَّاس يقولون له: يا أبا يَعقُوب فعلنا كذا وكذا، فَدَعا الله أن يفرِّق بين شبههما ففرَّق بالشَّيب. وقيل: إنَّه لَمَّا شابَ قال: يا ربِّ ما هذا؟ قال: وَقَارٌ، فقال: ربِّ زِدني فأصبحَ وقد امتلأ شيباً.
          وعن أبي أُمَامةَ: بَيْنَا إبراهيم صلعم يصلِّي الضُّحى إذ خرجت كفٌّ مِن السَّماء بين أصبعين مِن أصابعه شَعَرةٌ بيضاءُ فجعلت تدنو حتَّى أُلقيت في رأسه، وقالت: اشتعِل وقاراً، قال: فاشتعلَ رأسه منها شيباً، وكان أوَّلَ مَن شاب.
          وعن عبد الله بن عُبَيدة قال: لَمَّا رأى إبراهيم الشَّيب قال: مرحباً بالحلم والعِلْم، الحمد لله الذي أخرجني مِن الشَّباب سالماً. وفي حديث ابن جُرَيْجٍ عن نافِعٍ، عن ابن عُمَر مرفوعاً: ((مَن شاب شَيْبَةً في الإسلام كانت له نُوراً يوم القيامة)).
          وفي حديث عَمْرو بن شُعَيْبٍ، عن أبيه، عن جدِّه رواية: ((الشَّيب نُور الإسلام)).
          وعن عُمَرَو بن عَنْبَسةَ يرفعُه: ((مَن شاب شَيْبَةً في الإسلام فهي له نورٌ يوم القيامة)).
          ولفظ عبد الرَّحمن بن عمرٍو عن رسول الله صلعم مثله، ومِن حديثِ نَوحِ بن ذَكْوانَ، عن أخيه أيُّوب، عن الحَسَن، عن أنسٍ ☺ يرفعُه: ((إنَّ الله تعالى يقول: إنِّي لأستحيي مِن عبدي أو أَمَتي يَشيبانِ في الإسلام ثمَّ أُعَذِّبهما بعد ذلك)).
          ومِن حديثِ أبي الهيثم بن التَّيْهَان مرفوعاً: ((مَن شاب شَيْبَةً في سبيل الله كانت له نُوراً يوم القيامة)). وعن عامرٍ السُّلميِّ مرفوعاً مثله، وكذا عن أبي أُمَامةَ وفيه فرجُ بن فَضَالةَ.
          فَرْعٌ: يَنْعَطِف على ما مضى الخِضَاب بالسَّواد يحرُمُ على الأصحِّ لا كراهة تنزيهٍ. وقال عِيَاضٌ: ترك الخِضَابِ أفضْلُ. وقال بعضهم: الخِضَابُ أفضلُ.
          قال الطَّحاويُّ: ولا تناقُضَ بل الأمرُ به لمن كان شيبه كأبي قُحَافة، والنَّهي لمن له شَمَطٌ فقط. والأمر في ذلك ليس للوجوب إجماعاً وليس فيها ناسِخٌ ولا منسوخٌ.
          قال عِيَاضٌ: وقال غيره هو على حالين، فمن كان في موضعِ عادةِ أهلهِ الصِّبغ أو تركه فخروجه عن العادة مكروهٌ، والثاني يختلف باختلاف نظافة الشَّيب، فمن كانت شيبتُهُ نقيَّةً أحسنَ منها مصبوغةً فالترك أَوْلى وبالعكس.