التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب المتفلجات للحسن

          ░82▒ بَابُ المُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ.
          5931- ذكر فيه حديث عبد الله: (لَعَنَ اللَّهُ الوَاشِمَاتِ وَالمُسْتَوْشِمَاتِ، وَالمُتَنَمِّصَاتِ وَالمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ، المُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ تَعَالَى، مَا لِي لاَ أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ النَّبِيُّ صلعم، وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ ╡: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}) [الحشر:7].
          وترجم له بعد: باب المُتَنَمِّصَات، وقد سلف تفسير ذلك في النِّكاح.
          فالوَاشِمَة هي التي تَشِمُ يديها وذلك أن تَغْرِز ظَهْر كفِّها أو غيره مِن جسدها بإبرةٍ حتَّى يُؤثر فيها، ثمَّ تحشوه كُحْلاً فيَخْضَرَّ وتَجعله كالنَّقْش في جسدها تتزيَّنُ بذلك، يُقال منه: وَشَمَت تَشِمُ فهي وَاشِمةٌ. والمُسْتَوْشِمة التي تَسألُ مَنْيفعل ذلك بها، وغَلِط الدَّاوُدِيُّ فقال: الوَاشِمَة هي المَفْعُولة والمُسْتَوْشِمَةَ الفَاعِلة. والنَّامصة: النَّاتفة، والنَّمْص: النَّتف.
          قال أبو حنيفةَ: ولذلك قيل للمِنْقَاش الذي يُنتف به المِنْمَاص، ويُقال: قد أنمَصَ البَقَلُ فهو يَنْمِص إذا ارتفعَ قليلاً حتَّى يمكن أن يُنتف بالأظفار.
          والمتفلِّجة هي المفرِّقة بين أسنانها المتلاصِقة الثَّنايا والرَّبَاعِيَّات بالنَّحت ليتباعدَ بعضها مِن بعضٍ، والفَلَج تَبَاعُدُ ما بين الشيئين، يُقال منه: رجلٌ أَفْلَجُ، وامرأةٌ فَلْجَاءُ.
          وقال ابن دُرَيدٍ: يُقال: رجلٌ أَفْلَجُ الأسنانِ وامرأةٌ فَلْجَاءُ الأسنان، لا بدَّ مِن ذِكْر الأسنان.
          وقال الدَّاوُدِيُّ: هو أن يبردَ ما بين الثَّنِيَّتيْنِ بمِبْرَدٍ حتَّى يَنْفَتِح ما بينهما فيصيرَ كالفَلَج.
          وقال أبو عُبَيدٍ: هي التي تُفْلِج أسنانها وتحدِّدها حتَّى يكون لها أُشُرٌ، والأُشُر: تحدُّدٌ ورقَّةٌ في أطراف أسنان الأحداث تشَبَّه الكبيرة بهم.
          وفيه: البيان عن الشارع أنَّه لا يجوز لامرأةٍ تغيُّر شيئاً مِن خَلْقها الذي خلقها الله عليه بزِيَادةٍ فيه أو نقصٍ منه التماسَ التحسُّن به لزوجٍ أو غيره، لأنَّ ذلك نقضٌ مِن خَلْقها إلى غير هيئته، وسواءٌ فَلَجت أسنانها المستوية الثَّنِيَّة ووَشَرْتها أو كان لها أسنانٌ طِوَالٌ فَقطعت أطرافها طلباً لتحسينٍ أو أسنانٍ زائدةٍ على المعروف مِن أسنان بني آدم فَقَلَعت الزَّوائد مِن ذلك لغير علَّةٍ سوى طلبِ التَّحسين والتجمُّل، فإنَّها في كلِّ ذلك مُقْدِمةٌ على ما نهى الله عنه على لسان نبيِّه إذا كانت عالمةً بالنَّهي عنه.
          وكذلك غير جائزٍ لامرأةٍ خُلقت لها لحيةٌ أو شارِبٌ أو عَنْفَقَةٌ أن تَحْلِق ذلك منها أو تقصَّه طلباً للتجمُّل كما نصَّ على ذلك الطَّبَرِيُّ، مُعلِّلاً بأنَّ ذلك كلُّه مِن باب التغيير لخلْقِ الله تعالى ومعنى النَّمْص الذي لعنَ رسول الله صلعم فاعِلَتُهُ.
          فإن قلت: فإنَّك تُجِيز للرجل أن يأخذَ مِن أطراف لحيته وعَوَارضِهِ إذا كَثُرت، ومِن الشارب وإطاره إذا أَوْفَى، فالمرأة أحقُّ أن يجوز لها إماطةُ ذلك مِن الرجل إذ الأغلب مِن النِّساء أنَّ ذلك فيهنَّ قليلٌ، وإنَّما ذلك مِن خَلْق الرجل فَجَعلت أخْذَ ذلك مِن النِّساء تغييراً لخلْقِ الله وجعلته مِن الرِّجال غير تغييرٍ.
          قلت: إنَّا لم نَحْظُر على المرأة إذا كانت ذات شاربٍ فَوفَى شاربها أن تأخذ مِن إطاره وأطرافه أو كانت ذات لحيةٍ طويلةٍ أن تأخذ منها، وإنَّما نهيناها عن نمْصِ ذلك وحَلْقه للعنة الشارع النَّامصة والمتنمِّصة، ولا شكَّ أنَّ نَمْصَها لحيةً أو شارباً _إن كان لها نظيرٌ_ نمصها شَعَراً بوجهها أو جَبِينها، وفي فرْقِ اللهِ على لسان رسوله ◙ / بينَ حُكمها في مَالَهَا مِن أخْذِ شَعَر رأسها وما ليس لها منه، وبين حُكم الرجل في ذلك أبينُ الدَّليل على افتراق حُكمهما في ذلك، وذلك أنَّه ◙ أَذِن للرِّجَال في قصِّ شَعَر رؤوسهم كلَّما شاؤوا، ونَدَبهم إلى حَلْقه إذا حلُّوا مِن إحرامهم، وحَظَر ذلك على المرأة في الحالين إلَّا أن تأخذ مِن أطرافه، فكذا افتراقهما في الإحفاء وقصِّ النَّواصِي وحَلْقها.
          وإنَّما أبحنا لها أن تأخذ مِن أطراف لحيتِها وإطار شاربها كما أبحنا لها أن تأخذ مِن أطراف شَعَر رأسها إذا طال لِمَا روى شُعْبَة عن أبي بكْرٍ بن حفصٍ، عن أبي سَلَمَةَ قال: ((كان أزواج النَّبِيِّ صلعم يأخذنَ مِن شُعُورهنَّ حتَّى يدعْنَهُ كهيئةِ الوَفْرَة)).
          وروى ابن جُرَيْجٍ عن صَفِيَّة بنت شَيْبَة، عن أمِّ عُثْمَان بنت سُفْيَانَ، عن ابن عبَّاسٍ ☻ قال: ((نَهَى رسول الله صلعم أن تَحْلِق المرأةُ رَأْسَها، وقال: الحَلْق مُثْلَةٌ)).
          وقال مُجَاهِدٌ: ((لَعَن رسول الله صلعم الحَالِقَة)).
          ونصَّ أصحابنا على أنَّ المرأة إذا خُلِقت لها لحيةٌ يُسَتحبُّ إزالتها.
          فإن قلت: فما وجه قولِ مَن أطلقَ النَّمَص والوَشْم وأحلَّه؟ وقد علمْتَ ما روى شُعْبَةُ عن أبي إسحاقَ، عن امرأته أنَّها دخلت على عائِشَة ♦ فسألتها _وكانت امرأةً شابَّةً يُعجبها الجَمَال_ فقالت: المرأة تَحُفُّ جبينَها لزوجِها؟ فقالت: أَمِيطي عنك الأذى ما استطعتِ.
          كذا قال ابن المثنَّى: تحُفُّ، وهو غَلَطٌ، كما قاله الطَّبَرِيُّ لأنَّ الحَفَّ بالشيء هو الإطافة به، وإنَّما هو تُحْفِي بمعنى تَسْتَأصِله حَلْقاً أو نَتْفاً. وما حدَّثك تميمُ بن المُنْتَصِر حَدَّثَنا يزيدُ، عن إسماعيل عن قيسٍ قال: دخلتُ أنا وأبي على أبي بكْرٍ فرأيتُ يدَ أسماءَ موشومةً.
          قلت: أمَّا عائِشَة فإنَّ في الرواية عنها اختلافاً، وذلك أنَّ عِمْرَان بن موسى قال: حَدَّثَنا عبد الوارث بن سَعِيْدٍ، حدَّثتني أمُّ الحَسَن، عن مُعَاذة أنَّها سألت عائِشَة ♦ عن المرأة تَقْشِرُ وجهها؟ فقالت: إنْ كنتِ تشتهينِ أن تتزَيَّنِي فلا يحِلُّ، وإن كانت امرأةً بوجهها كلَفٌ شديدٌ فما. كأنَّها كرهته، ولم تصرِّح، فهذه الرواية بالنَّهي عن قَشْر المرأة وجهها للزِّينة، وذلك نظير إحفائها جبينها للزِّينة، وإذا اختلفت الرواية عنها كان الأوَّلى أن يُضاف إليها أشبهُهَا بالحقِّ.
          وأمَّا أسماءُ فإنَّها كانت امرأةً أدركتِ الجاهليَّة، وكانت نساءُ الجاهليَّة تفعل ذلك وتتزينَّ به، ولعلَّ ذلك منها كان في الجاهليَّة ولم يُخبر قيسٌ عنها أنَّها وَشَمت يدَها في الإسلام، وقد يجوز أن تكون وَشَمَتها في الجاهليَّةِ أو في الإسلام قبل أن يَنهى عنه، فمن زعم أنَّ ذلك كان في الإسلام بعد النَّهي فعليه البيان ولا سبيل إليه.
          قال ابن بطَّالٍ: أمَّا ما ذكرته مِن أنَّ المرأة منهيَّةٌ عن حَلْق رأسها في الإحرام وغيره لحديث ابن عبَّاسٍ ☻، وقوله ◙: ((إِنَّ الحَلْقَ مُثْلَةٌ)) فإنَّ حديث ابن عبَّاسٍ ليس معناه التحريم، بدليل أنَّ المرأة لو حَلَقت رأسها في الحجِّ مكان التقصير اللازم لها لم تأتِ في ذلك حراماً.
          ودلَّ قوله: ((إِنَّ الحَلْقَ مُثْلَةٌ)) أنَّ معنى النَّهي عن ذلك هو خيفةَ أن تمثِّل المرأة بنفسها فَيُنْتَقص جمالها فيَكره ذلك بعلُها، والمُثْلَة ليست بحرامٍ وإنَّما هي مكروهةٌ، وقد قال مالكٌ: حَلْق الشاربِ مُثْلةٌ، وثبتَ حَلْقه عن بشرٍ كثيرٍ من السَّلف، واحتجَّوا بأمره بإحفاء الشوارب.
          وأمَّا قول مُجَاهِدٍ: ((لعن رسول الله صلعم الحَالِقَةَ)). ليس مِن هذا الباب في شيءٍ، وإنَّما لعن الحالقة لشَعَرها عند المصيبة اتَّباعاً لسَنن الجاهليَّة، وبهذا جاء الحديث كما سلف في الجنائز: ((أنَّه ◙ بَرِئَ مِن الحالِقَةِ)). الحديث، وترجم له باب ما نُهي عنه مِن الحَلْق عند المصيبة [خ¦1296]، فبان بهذا معنى النَّهي عن الحَلْق أنَّه عند المصيبة كفَعْل الجاهليَّة وأمَّا إن احتاجت امرأةٌ إلى حَلْق رأسها فذلك غير حرامٍ عليها كالرَّجلِ سواء.