الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب طواف الوداع

          ░144▒ (باب طَوَافِ الْوَدَاعِ): بفتح الواو على الأشهرِ، ويسمَّى: طواف الصَّدَر _بفتح الدال_؛ أي: الرجوعِ، والثاني مشتركٌ بينه وبين طوافِ الإفاضَةِ فاعرفه؛ أي: هذا بابُ بيانِ حكم طوافِ الوداع من / وجوبٍ أو ندبٍ.
          قال النَّووي: طوافُ الوداع واجبٌ يلزمُ بتركه دمٌ على الصَّحيح عندنا، وهو قولُ أكثر العلماء.
          وقال مالكٌ وداود وابن المنذر: هو سنَّةٌ لا شيءَ في تركه. انتهى.
          واعترضهُ في ((الفتح)): بأنَّ الذي رآه في ((الأوسط)) لابن المنذرِ أنه واجبٌ للأمرِ به، إلا أنَّه لا يجبُ بتركه شيءٌ. انتهى. ويؤيِّدُ الاعتراضَ قولُ ابن بطَّال.
          قال مالكٌ: ومَن أخَّر طوافَ الإفاضَة إلى أيَّام منى، فإنَّ له سعةً أنْ يصدرَ إلى بلدهِ، وإنْ لم يطُفْ بالبيتِ إذا أفاضَ، واختلفوا في مَن خرجَ ولم يطُفْ للوداع:
          فقال مالكٌ: إنْ كان قريباً رجعَ فطافَ، وإنْ لم يرجعْ فلا شيءَ عليه.
          وقال عطاءٌ والثَّوري وأبو حنيفة والشَّافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور: إنْ كان قريباً رجعَ فطاف، وإنْ تباعدَ مضى وأهراق دماً، وحُجَّتُهم في إيجابِ الدَّم قولُ ابنِ عبَّاس: من نسيَ مِن نسكهِ شيئاً فليهرقْ دماً.
          والطَّوافُ نسكٌ، وحُجَّةُ مالكٍ أنه طوافٌ يسقطُ عن المكِّي والحائض، فليس من السُّنن اللازمة. انتهى.
          وقال الحنفيَّة أيضاً: إنما يجبُ على الآفاقِي دون المكِّي والميقَاتي ومن دونهم، وكذا لا يجبُ عندهم على الحائضِ والنُّفَساء والمعتمر.
          قال العينيُّ: واستدلَّ كثيرون لكونه ليس من المناسكِ، بل هو عبادةٌ مستقلَّةٌ باتِّفاقهِم على أنَّ قاصدَ الإقامةِ بمكَّةَ لا يؤمرُ به، ولو كان منها لأمرَ به، وبأنَّ وجوبَه عامٌّ لذي النُّسك وغيره، وهذا ما صحَّحهُ الرافعي ثمَّ النووي، ونقلاه عن صاحبِ ((التتمة)) و((التهذيب)) وغيرهما لكنْ نقَلا عن الإمام والغزاليِّ أنه منها، وعليه فيختصُّ بمَن يريدُ الخروجَ من النُّسك.
          قال السَّبكي: وهذا هو الذي تظاهرت عليه نصوصُ الشَّافعي والأصحاب، قال: ولم أرَ من قال: إنه ليس منها إلا المتولِّي فجعله تحيَّةً للبقعة مع أنه يمكنُ تأويلُ كلامهِ على أنَّه ليس ركناً منها ولا شرطاً، قال: وأمَّا استدلالُ الشَّيخين بأنه لو كان منها لأُمِرَ به قاصدُ الإقامة بمكَّة فممنوعٌ؛ لأنه إنما شُرع للمُفارقة ولم تحصلْ، كما أنَّ طوافَ القدومِ لا يشرعُ للمحرم من مكَّةَ، قال: ويلزمهما القولُ بأنه لا يجبر بدمٍ ولا قائلَ به. انتهى وذكر نحوهُ الإسنوي.
          وقال ابنُ حَجر المكِّي في ((التحفة)): وبما تقرَّر من عمومه لذي النُّسكِ وغيره عُلمَ أنه ليس من المناسك وهو ما صحَّحاهُ، وإنْ أطالَ جمعٌ في ردِّهِ على أنَّ مَن قال إنه منها كالمجموعِ في موضعٍ أراد أنه من توابعها، كالتَّسليمة الثانية من توابعِ الصَّلاة وليست منها، ومِن ثمَّ لزم الأجير فعله، واتَّجه أنه حيث وقع أثرُ نسكه لم تجبْ له نيَّةٌ نظراً للتَّبعيَّة، وإلا وجبتْ لانتفائها، ولا يلزمُ من طلبهِ في النُّسك عدمُ طلبهِ في غيره، ألا ترى أنَّ السِّواكَ سُنَّةٌ في نحو الوضُوءِ وهو سُنَّةٌ مطلقاً. انتهى.