الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب الحلق والتقصير عند الإحلال

          ░127▒ (بابُ الْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ) أي: بيانُ حُكمهما (عِنْدَ الإِحْلاَلِ) أي: التَّحلل من الإحرام، والحلقُ للرَّجل أفضْلُ من التَّقصير إجماعاً، ولما سيأتي من الدُّعاء لفاعله بالرَّحمة.
          واختلفَ في أنه نسكٌ أو استباحة محظورٍ، والمشهورُ الصَّحيح الأول للدُّعاء المذكور، ولتفضيلهِ أيضاً على التَّقصير، إذ المباحَاتُ لا تتفاضَل.
          قال ابنُ حَجر في ((التحفة)): فيثابُ عليه للتَّفاضل بينهما في الخبر، وهو إنما يكون في العبادات، وصحَّ خبر لكلِّ مَن حلق رأسَهُ بكلِّ شعرةٍ سقطَتْ نور يوم القيامة. انتهى.
          وعلى كونهِ نسكاً فهو ركنٌ على الصَّحيح فلا يجبرُ بدمٍ، وقيل: واجبٌ فيجبرُ به.
          وقال ابنُ المنير في ((حاشيته)): ما أدقَّ نظر البخاريِّ حيث أفهم بهذه الترجمة أنَّ الحلقَ نسكٌ لقوله عند الإحلالِ: ولو كان هو في نفسهِ إحلالاً لم تحسنْ هذه الترجمة قال: وكأنَّهُ استدلَّ على ذلك بدعائهِ عليه الصَّلاة والسَّلام لفاعله، والدُّعاءُ إنما يكون على العبَاداتِ، وبتفضيلهِ الحلقَ على التَّقصير؛ لأنَّ المباحات لا تتفاضَلُ. انتهى.
          وقال في ((الفتح)): والقولُ بأنَّ الحلقَ نسكٌ قولُ الجمهور إلا روايةٌ مضعَّفةٌ عن الشَّافعي أنه استباحةُ محظورٍ، وأوهم كلامُ ابن المنذر أنَّ الشَّافعيَّ تفرَّد بها وليس كذلك، فقد حُكِيت أيضاً عن عطاء وأبي يوسف وأحمد وبعض المالكيَّة، انتهى.
          وقال الزين العراقي في ((شرح الترمذي)): القولُ بأنَّ الحلقَ نسكٌ هو قولُ أكثر أهلِ العلم، وهو القول الصَّحيحُ للشَّافعي وفيه خمسةُ أوجه:
          أصحها: أنه ركنٌ لا يصِحُّ الحج والعمرةُ إلا به.
          والثاني: أنه واجبٌ.
          والثالث: أنه مستحبٌّ.
          والرابع: أنه استباحة محظورٍ.
          والخامس: أنه ركنٌ في الحجِّ، واجبٌ في العمرة. انتهى.
          ولا تحلُّلَ لحجٍّ ولا لعمرةٍ بدونه كسائر أركانها إلا لمن لا شعرَ برأسهِ، فلا يلزمهُ حلقُهُ بعد نباته، ولكن يسنُّ له إمرارُ الموسى عليه.
          قال الشَّافعي: ولو أخذَ من لحيتهِ أو شارِبهِ شيئاً كان أحبَّ إلي؛ لئلا يخلو عن أخذِ الشَّعر، ومن به جرَاحةٌ مثلاً يصبر إلى قدرتهِ وأقلُّه عند الشَّافعية إزالةُ ثلاث شعَرَاتٍ من رأسِهِ ولو بنتفٍ أو إحراقٍ على الصَّحيح، وقيل: تكفِي واحدة كما في مسحِ رأسه، فعلى الصَّحيح لا يجزئُ أخذ شعرةٍ بثلاث مرَّاتٍ، كما في ((المجموع)).
          ولو خرجت عن حدِّ رأسهِ بخلافهِ في المسحِ في الوضُوء ولو كان برأسهِ شعرةٌ أو شعرَتَان فقط، كان الواجبُ في حقِّهِ إزالةُ ذلك، / والحلقُ عند الحنفيَّة والحنابلة والمالكيَّة واجبٌ، وقيل: مستحبٌّ، وأقلُّ مجزءٍ فيه عند أبي حنيفَةَ ربع الرَّأس، وعند أبي يوسُف النِّصف، وعند المالكيَّة يجبُ أن يستوعِبَ الرأس، وكذا عند الحنَابلة.
          وفي روايةٍ عن أحمد: يكفِي حلقُ بعضه، كذا في ((المنتهى)) و((شرحه)) لكن نقلَ القسطلاني وغيره عن أحمد: أنَّ أقلَّ ما يجزئُ عنده أكثر الرَّأس فليراجع، ويجزئُ عند الجميع التَّقصيرُ إلا ما رويَ عن الحسن البصري: أنَّ الحلقَ يتعيَّنُ في أول حجةٍ، والثَّابتُ عنه موافقةُ الجميع، بل هو الأفضلُ للمرأة والخنثى، ولا يشترطُ فيه القربُ من أصله، وإنْ أوهمه كلام القسطلاني.
          وذكرَ الرافعيُّ من سُنَن الحلق: أنه يبدأُ بالشقِّ الأيمن، ثمَّ بالأيسَرِ مستقبلَ القبلة، وأنْ يكبِّرَ بعد الفراغِ وأنْ يدفنَ شعرهُ، وزاد الطَّبري: من سننهِ صَلاة ركعتين.
          ونقل الكمالُ ابن الهمَام الاتِّفاقَ على أنه يجزئُ في الحلقِ القدر الذي يجزئُ في الوضوء، فيختلفُ هنا باختلاف الأئمَّةِ في الوضوء، قال: ولا يصحُّ أن يكونَ هذا بطريق القياسِ على الوضوء؛ لأنه يكون قياساً بلا جامعٍ يظهر أثره، وذلك لأنَّ حكمَ الأصل وجوب المسح ومحلُّهُ المسح، وحكم الفرع وجوبُ الحلق ومحلُّهُ الحلق للتَّحلُّل، ولا يظنُّ أنَّ محلَّ الحكمِ الرأس، إذ لا يتَّحدُ الأصل والفرع، وذلك لأنَّ الأصلَ والفرع هما محلُّ الحكم المشبه والمشبه به، والحكمُ هو الوجوب مثلاً، ولا قياس يتصوَّرُ عند اتِّحادِ محلِّه، إذ لا أثنينية، وحينئذٍ فحكمُ الأصل وهو وجوب المسحِ ليس فيه معنى يوجبُ جواز قصرهِ على الربعِ؛ أي: مثلاً، وإنما فيه نفس النَّص الواردِ فيه، وهو قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة:6] وليس فيه معنى ظهر أثرُهُ في الاكتفَاء بالربع أو بالبعض مطلقاً أو بتعيُّنِ الجميع.
          فالمرجعُ في المسحِ والحلق إلى ما يفيده نصُّهُ الوارد فيه، فالواردُ في المسحِ دخلتْ فيه الباء على الرأس الذي هو المحلُّ، فأوجبَ عند الشَّافعيِّ التَّبعيض، وعند غيره لا، بل الإلصاقُ غير أنا لاحظنا تعدي الفعل للآلة وهو الرَّأس فيجبُ قدرها منه، ولم يلاحظْ ذلك مالكٌ؛ أي: وأحمد فأوجبا الاستيعاب كما في التَّيمُّم لجعلهما الباء صلة.
          وأما النَّصُّ الواردُ في الحلق من الكتابِ فقوله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح:27] ولا باء فيه لتوجب التبعيض، بل في الآية إشارةٌ إلى طلب تحليقِ الرُّؤوس أو تقصيرها، وظاهرها الاستيعابُ وهو الذي فعله عليه الصلاة والسلام وقال: هو الذي أدينُ الله به. انتهى فتأمَّله فإنه دقيقٌ، لكن ما اقتضَاه كلامه عن الشَّافعي أن يكتفيَ بحلقِ شعرةٍ خلاف الصَّحيحِ كما مرَّ آنفاً، ولعلَّ من اكتفى بالبعضِ كالشَّافعي استدلَّ بفعلِ المقصِّرين، فتدبَّر.