الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب فضل مكة وبنيانها

          ░42▒ (بَابُ فَضْلِ مَكَّةَ): أي: بيانُ شرفها بما وردَ فيها (وَبُنْيَانِهَا): بضم الموحدة.
          قال شيخُ الإسلام: أي: وفضلُ بنيانِ الكعبة فيها، انتهى، والظَّاهرُ: أن التقدير: وفضل بنيان مكة، فافهم.
          والبُنيان: مصدرُ بَنَى البِنَاءَ بَنْياً وبِناءً وبُنْيَاناً وبِنْيَة، وبناؤه نقيضُ هدمه، وليس في الآيات والأحاديثِ الآتية ذكرُ بنيانِ مكة، لكن لما كان بُنيان الكعبة سبباً لبنيانِ مكة وعمارتها اكتفى به على عادتهِ من الإشارة إلى الاستنباطِ بالإشارة الخفيَّةِ، ولمكَّة أسماءٌ كثيرة كالمدينة، بل قيل فيها: أنها تبلغُ أسماءها ألفاً:
          أحدها: مكة _بالميم_ من مككتُ العَظمَ: اجتذبتُ ما فيه من المخِّ، أو لقلَّةِ الماء بها.
          وبكَّة _بالموحدة_ ومنها: النَّاسة _بالسين_ من النسين، سميت به: لقلَّة مائها، أو لغيرِ ذلك مما جمعناه في بعضِ الرسائل.
          وعطف: (وَقَوْلِهِ تَعَالَى): بالجر على سابقهِ لمناسبةِ الآيات الأربعة لذلك، فلذا ذكرها على ما في روايةِ كريمة، وساق الباقون بعض الأولى، ولأبي ذرٍّ: كلها، ثمَّ قال: <إلى قوله تعالى: {التَّوَّابُ الرَّحِيْمُ}>.
          ({وَإِذْ جَعَلْنَا} [البقرة:125]): أي: واذكر إذ جعلنا ({الْبَيْتَ}): أي: الكعبةَ غلبت عليها كالنجم على الثُّريا ({مَثَابَةً لِلنَّاسِ}): بمثلثة مفعول ثان لـ{جَعَلْنَا}؛ أي: موضعاً يثوبُ إليه الزائرون؛ أي: يرجعونَ إليه كلَّ عامٍ بأعيانهم أو أمثالهم، أو موضعُ ثوابٍ يثابون بحجِّه واعتمارِهِ، وقرئ: ▬مثابات↨: بالجمع؛ لأنه مثابةٌ لكلِّ أحد.
          ({وَأَمْناً}): أي: موضع أمنٍ من المشركين أبداً لا يتعرَّضون لأهلهِ لقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آَمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت:67]، أو أمناً لا يؤاخذُ الجاني الملتجِئ حتى يخرجَ منه، وهو مذهبُ أبي حنيفة ☼ أو أمناً من عذابِ الآخرة؛ لأن الحجَّ إليه يكفِّر الذُّنوب حتى الكبائرَ.
          تنبيه: استشكل عدمُ المطابقة بين {البَيْتَ} و{مَثَابَةً} فإن أصلهما مبتدأ وخبر، وأُجيبَ: بأن التاء ليست للتأنيث بل هي للمبالغةِ كعلامة، أو هو مصدر على حد: زيدٌ عدل.
          ({وَاتَّخِذُوا}): قال في ((الكشاف)): هو على إرادةِ القول؛ أي: وقلنا: اتخذوا.
          ({مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}): أي: موضع صلاةٍ أو مدَّعى أو عطف على {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ} [البقرة:122] أو على معنى {مَثَابَةً} أي: ثوبوا إليه واتَّخذوا، ولعلَّ هذا مراد البيضاويِّ بقوله: أو اعتراض معطوف على مضمر تقديره: ثوبوا إليه واتَّخذوا، على أن الخطاب لأمَّةِ محمَّدٍ والأمر للاستحباب إجماعاً، وقرأ نافع وابن عامر: {وَاتَّخَذُوا} بالماضي.
          تنبيه: اختُلِف في مقامِ إبراهيم، فالمشهورُ: أنه الحجرُ المعروفُ الذي كان يقومُ عليه عند بناءِ البيتِ يرتفع بارتفاعهِ وينخفضُ بانخفاضه، وفيه أثرُ قدمه، وهو موضوعٌ الآن مقابل جهة البابِ يسنُّ صلاة ركعتي الطَّواف عنده، وقيل: بوجوبهما، وروى ابنُ أبي حاتم بسندهِ: أنَّ جابرَ بن عبد الله حدَّثَ عن رسول الله أنه قال: لما طاف قال له عمر: يا رسولَ الله! هذا مقامُ أبينا إبراهيم؟ قال: ((نَعَم))، قال: أفلا نتَّخذُه مصلَّى؟ فأنزلَ الله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}.
          وقد كان المقامُ ملصقاً بجدار الكعبةِ قديماً إلى جانبِ الباب مما يلي الحجر، فأخَّره عمرُ بن الخطاب إلى موضعهِ الآن كما رواه عبد الرَّزاق عن مجاهد.
          وقال عطاء: مقامُ إبراهيم: عرفة وغيرها من مناسك الحجِّ ومشاعرِهِ؛ لأنَّه قام فيها ودعا الله تعالى.
          وقال ابنُ عبَّاس في رواية عنه: إنه الحرمُ كلُّه، وجرى عليه النَّخعي، وروي عن ابن عبَّاس كمذهبِ عطاء.
          وقيل: إنه المسجدُ الحرام، وروى القرطُبي لكن ضعَّفه عن سعيد بن جُبير: أنه الحجرُ الذي وضعتْه زوجةُ إسماعيل عليه السلام تحت قدمِ إبراهيمَ عليه السلام حتى غسلَتْ رأسَه، وحكاهُ الرَّازي عن الحسن البَصْري وقتادة والربيع / بن أنس
          ({وَعَهِدْنَا}): عطف على {جَعَلْنَا} أي: وأوحينا ({إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ}): وقال المفسرون: أمرناهما ({أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ}): أي: الكعبة من الأوثانِ والأنجاسِ وما لا يليقُ به وأخلصناه ({لِلطَّائِفِينَ}): أي: حوله ({وَالْعَاكِفِينَ}): أي: المقيمين عنده أو المعتكفين فيه ({وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:125]): جمع راكعٍ وساجدٍ؛ أي: المصلين، واستدلَّ به على جوازِ صلاة الفرضِ والنَّفل داخل البيت؛ خلافاً لمالك ☼ في الفرضِ.
          ({وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ}): معطوف على {وَإِذْ جَعَلْنَا}، والظاهر: أنَّ هذا القولَ بعد عمارتهِ البيت ({رَبِّ اجْعَلْ هَذَا}): أي: البلد أو المكان ({بَلَداً آمِناً}): ذا أمن كقوله تعالى: {فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [الحاقة:21] أو آمناً أهله كقوله: ليل نائم.
          وفي ((خلاصة البيان)): البلد يطلقُ على كلِّ موضعٍ من الأرض عامر مسكونٍ أو خالٍ، والبلد في هذه الآية مكة، وقد صارتْ مكة حراماً بسؤال إبراهيم، وقبله كانت حلالاً. انتهى.
          وأقول: هذا أحد قولين، والأصح: أنَّ حرمتَها سابقةُ لقوله عليه السلام في الحديث الصَّحيح: ((إن هذا البلد حرام يوم خلق السَّماوات والأرض))، ويحملُ ما ذُكر على أن إبراهيمَ أظهر حرْمَتها.
          ({وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ}): فاستحبابُ الله تعالى دعاءُه بأن بعثَ الله تعالى جبريلَ عليه السلام حتى اقتلَعَ الطَّائف من موضعِ الأردن ثمَّ طافَ به حول الكعبةِ سبعاً، ثم وضعَه موضِعَه الآن، وفيه أكثر ثمراتِ مكَّة، فسمِّي الطائف، قاله البغوي.
          ({مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}): بإبدال {مَنْ} الموصولة من {أَهْلَهُ} بدل بعض للتَّخصيص ويجوزُ نصبه بمحذوف نحو: أعني ({قَالَ وَمَنْ كَفَرَ}): عطفه على: {مَنْ آمَنَ} عطفاً تلقينياً كما عطف {وَمِنْ ذُرِّيَّتِيْ} على الكاف في {جَاعِلُكَ} فهو من كلام الله تعالى، نبَّه به سبحانه على أن الرِّزق رحمةٌ دنيوية يعمُّ بها المؤمن والكافر، بخلاف الإمامة والتَّقدم في الدين، أو {مَنْ}: مبتدأ تضمَّن معنى الشرط، ولذا دخلت الفاء في خبره في قوله: ({فَأُمَتِّعُهُ}): بتشديد التاء، وقال ابنُ عامر: {فأُمْتِعُه}: مضارع أمتع...إلخ
          ({قَلِيْلَاً}): نصب على المصدريَّة، وعلى العطف فهو مستأنف لبيان حال من {كَفَرَ} وهو أظهر، والكفر وإن لم يكن سبب التَّمتع لكنه سبب تقليلهِ بأن يجعله مقصوراً على حظوظِ الدنيا غير متوسِّلٍ إلى نيل ثوابٍ، ولذلك عطف عليه ({ثُمَّ أَضْطَرُّهُ}): أي: ألجأه ({إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [البقرة:126]): أي: العذاب فحذف المخصوص بالذم.
          وقرأ ابنُ عباس: ▬فأَمتعه قليلاً ثم اِضطره↨: بالأمر فيهما لكن همزة أمتعه مفتوحة وهمزة ▬اِضطره↨: مكسورة على أنه من دعاء إبراهيم وفي {قَالَ}: ضميره، وقرأ أبيُّ بن كعب: ▬فنمتعه قليلاً↨: بالنون بدل الهمزة ثم ▬نضطره↨، وقرأ يحيى بن وثاب: ▬فإِضطره↨ بكسر الهمزة، وقرأ ابنُ محيصن: ▬فأطره↨: مضارعاً بإدغام الضاد في الطاء وهي لغة ضعيفة، كما قالوا: اضجعَ.
          ({وَإِذْ يَرْفَعُ}): عطف على {وَإِذْ جَعَلْنَا}: أي: واذكر إذ يبني ({إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ}): جمع قاعدة وهي الأساسُ ({مِنَ الْبَيْتِ}): أي: الكعبة، وقيل: المراد برفعها: نقلها عن مكانِ البيت.
          قال: ولعلَّه مجاز من القعودِ المقابل للقيامِ، والقاعدةُ صفة غالبة من القعودِ بمعنى الثبات، كما قال البيضاوي وغيرُه، ومنه: قعدك الله؛ أي: أسألُ الله أن يقعدَك؛ أي: يثبتَكَ، ورفعَ قواعدَ البيت: البناء عليها؛ فإنه ينقلُها عن الانخفاضِ إلى الارتفاعِ.
          قال: ويحتملُ أن يراد بها: سافات البناء؛ فإن كلَّ ساف قاعدة ما يوضع فوقه، وبرفعها: بناؤها، وقيل: المراد: رفع مكانتهِ وإظهارُ شرفه بتعظيمهِ ودعاء الناس إلى حجِّه، وفي إبهام القواعد وتبيينها تفخيمٌ لشأنهِ.
          قيل: ظاهرُ قوله: (({وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ})): أنه كان مؤسَّساً قبل إبراهيم فبنى على أساسهِ؛ وذلك لأن الملائكةَ كانت أسَّسته حين أُمِرَتْ ببنائهِ.
          قال البغوي وغيره: أمرَ الله تعالى إبراهيم عليه السلام بعد ما وُلِد له إسماعيل وإسحاق ببناء بيتٍ يذكر فيه، فسألَ الله ╡ أن يبيِّن له موضِعَه، فبعثَ الله السكينة لتدلَّهُ على موضعِ البيت، وهي ريحُ حجوجٍ لها رأسان شبه الحيَّة، وأمر إبراهيم أن يبنيَ حيث تستقرُّ السكينة، فتبعها إبراهيمُ حتى أتيا مكَّة فتطوَّت السَّكينة على موضعِ البيت كتطوِّي الحجفة.
          ({وَإِسْمَاعِيلُ}): عطف على {إِبْرَاهِيْمُ} نسبة الرفع إليه مجازٌ باعتبار أنه كان يُناوله الحجارةَ، وكانت من خمسة أجبل: طور سيناء، وطور زيتا، ولبنان، والجودي، وحراء.
          قيل: كانا يبنيان في طرفين، وقيل: على التناوب، وكانت الملائكة تنقلُ لهما الحجارةَ، وبذلك صرَّح القليوبيُّ، وأُسسه من حراء، وجاءه جبريلُ بالحجر الأسودِ من السَّماء، وقيل: تمخَّض أبو قُبيس فانشقَّ عنه، وقد خبئ فيه أيَّام الطُّوفان وكان ياقوتةً بيضاء من الجنَّة، فلمَّا لمسته الحيَّض في الجاهلية اسودَّ.
          وفي لفظ: لما انتهى إبراهيمُ إلى موضع الحجر الأسود قال لإسماعيل: ائتني / بحجرٍ حسنٍ يكون للناس علماً، فآتاه، فقال: ائتني بأحسن من هذا، فمضَى إسماعيل يطلبُه، فصاحَ أبو قُبيس: يا إبراهيم! إن لك عندِي وديعةً، فخذها فأخذَ الحجر الأسود فوضعَه مكانه.
          وحكمةُ كونها خمسة: أنها قُبلة للصَّلوات الخمس، وقيل: لما أمرَ الله إبراهيم ببناء البيتِ نزل جبريلُ ليدلَّه على موضعِ الكعبة، وقيل: بعثَ الله سحابة على قدر الكعبة ونُودي: ابنِ على ظلِّها لا تزدْ ولا تنقصْ، وسيأتي لذلك مزيدٌ في بناءِ الكعبةِ.
          قال الأزرقيُّ: جعل إبراهيم طولَ بناء الكعبة في السَّماء تسعة أذرعٍ وطولها في الأرض ثلاثين ذراعاً وعرضها في الأرض اثنين وعشرين ذراعاً، وكانت بغير سقفٍ.
          ({رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا}): أي: يقولان ذلك ({إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ}): أي: لدعائنا ({الْعَلِيمُ} [البقرة:127]): أي: ببنائنا وفعلنا ({رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ}): أي: مخلصين ({لَكَ}): منقادين لأمرك.
          قال في ((الكشاف)): وقرئ: ▬مسلمِين↨: بالجمع كأنهما أرادا أنفسهما وهاجرا، أو أجريا التثنيةَ على حكمِ الجمع؛ لأنها منه، انتهى.
          ({وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا}): أي: واجعلْ بعضَ ذريتنا وقيل: {مِنْ} بيانيَّة ({أُمَّةً}): أي: جماعةً، وقال في ((الكشاف)): أرادَ بالأمَّةِ أمَّة محمد صلعم ({مُسْلِمَةً لَكَ}): أي: خاضعةً مخلصةً يتبعونا، إذ الأمَّةُ أتباع الأنبياء، وخصَّا الدعاء بالذريَّةِ؛ لأنهم أحقُّ بالشفقة، ولأنهم إذا صلحوا صلُحَ بهم الأتباعُ، وخصَّا بعضَهم لما علمَا أن في ذُرِّيتهما ظلمةٌ لا تنقادُ للأوامرِ، وعلمَا أنَّ الحكمةَ الإلهيَّةَ لا تقتضِي الاتِّفاقَ على الإقبال الكلِّيِّ على الله؛ فإنه مما يشوِّش المعاشَ، ولذلك قيل: لولا الحمقَى لخربت الدُّنيا.
          ({وَأَرِنَا}): قال البغويُّ: قرأه ابنُ كثير ساكن الراء، وأبو عَمرو بالاختلاس، والباقون بكسرها، انتهى.
          وعلى كلٍّ فـ{أَرْنَا} من رأى بمعنى: أبصرَ أو عرفَ، ولذلك لم يتعدَّ لثلاثة مفاعيل بالهمزة.
          ({مَنَاسِكَنَا}): جمع: منسك؛ أي: متعبَّداتنا في الحجِّ أو مذابحنا، فقد روى عبد بن حُميد عن أبي مجلزٍ قال: لما فرغَ إبراهيمُ من بناء البيت أتاهُ جبريلُ فأراه الطوافَ بالبيت سبعاً، قال: وأحسبه: وبيَّن الصفا والمروة، ثمَّ أتى به عرفةَ فقال: أعرفْتَ؟ قال: نعم، فمِن ثمَّ سُمِّيت عرفات، ثمَّ أتى به جمعاً فقال: هاهنا تجمعُ الناسُ الصَّلاةَ، ثم أتى به منى فعرضَ لهما الشيطانُ، فأخذ جبريلُ سبعَ حصياتٍ فقال: ارمهِ بها وكبِّر مع كلِّ حصَاةٍ.
          ({وَتُبْ عَلَيْنَا}): استتاباهُ لذرِّيتهما، وإلا فهما معصُومان، أو قالاه هضماً لنفسهما وتعليماً لذريَّتهما ({إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ}): أي: كثيرُ الإقبالِ على من تابَ ({الرَّحِيمُ} [البقرة:128]): له بقبولِ توبتهِ، ففي هذه الآيات الأربع دليلٌ على فضلِ مكَّة وبنيانها؛ لأنَّ اعتناءَ الله تعالى ببناءِ البيتِ في مكَّةَ دليلٌ على فضلها؛ لأن العبادةَ فيه مضاعفةٌ إلى أضعافٍ كثيرةٍ.
          منها: أنَّ الصَّلاة فيها بمائة ألفٍ أو أكثر.
          تنبيه: ما ذُكِر من بناء إبراهيم عليه السلام للكعبةِ هو البناء الثَّاني من البناءاتِ الخمسة التي ذكرها الكرماني وكثيرون، فأولها: بناءُ آدم عليه السلام، ثمَّ إبراهيم، ثمَّ قريشٌ في الجاهليَّة وحضرَ هذا الثالث رسول الله، وله خمس وثلاثون سنة، وقيل: خمس وعشرون، ورجَّحه المحققون.
          الرابع: بناءُ ابن الزبير.
          الخامس بناء الحجاج، وهو الموجودُ اليوم.
          وذكر آخرونَ _منهم القسطلاني_: أنها بُنِيتْ عشر مرَّاتٍ، ومنهم شيخُ مشايخنا الشهاب أحمد القليوبي فإنَّه قال في رسالةٍ له: قد وردَ في الخبرِ أن البيت خُلِقَ قبل الأرضِ بألفي عام، ثمَّ دُحِيت منه الأرض، واختُلِف في عدد مرَّات بنائهِ وغايتها وفاقاً وخلافاً: عشر مرات، ومن زاد حاديةَ عشر وهي بناء جدِّه عبد المطلب فقد وهمَ.
          ثمَّ ذكر أنه وقع عام تسع وثلاثين وألف مسيلٌ مجحفٌ، فدخلَ المسجد وهدمَ منه الركنين الشاميين وما اتَّصل بهما من جانبيهما، وأهلكَ من فيه، وهلك به خلقٌ لا يحصُون من أهل مكَّةَ، وهدمَ غالب بيوتها، فدخلَ السُّلطان عثمان أمراً بعمارتهِ، فعمروه، فهي حادية عشر، انتهى.
          وجعل كثيرٌ من المتأخرين الحادية عشر عمارةَ السلطان مراد، ذكره كابن علان المكي، لكن المشهور ما نقلَ عن مجاهدٍ، والذي يصحُّ من العشرةِ ثلاثة: بناءُ إبراهيم، وعبد الله بن الزبير، والحجاج.
          وأمَّا على العاشرةِ فالمرة الأولى: بناءُ الملائكة عليهم السلام بأمرِ الله حين بعثهم إلى الأرضِ، وقال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30] فقالوا له: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة:30] فغضبَ عليهم فخافوا وطافوا بالعرش، وفي روايةٍ: فطافوا بالبيتِ المعمور يستعيذونَ به من غضبه تعالى، فقال لهم: ابنوا لي بيتاً في الأرضِ بحيال البيت المعمورِ وبقدره، يعوذُ به من سخطت عليه من بني / آدم، فحفرتْ الملائكةُ حتَّى بلغت الأرض السابعة وقذفت الصُّخورَ في الحفر حتى ساوت وجهَ الأرض، وبنوه.
          وفي روايةٍ: أن الملائكة حين أسَّست الكعبة انشقَّتِ الأرضُ إلى منتهاها وقذفت فيها حجارةً أمثال الإبلِ، فتلك القواعدُ من البيت التي وضعَ عليها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وأمرَ الله تعالى من في الأرض من خلقهِ أن يطوفوا به كما تطوفُ الملائكةُ بالبيت المعمورِ.
          وقد وردَ في الخبر: أنَّ البيت المعمور خامس عشر خمسة عشر بيتاً كلها تحتهُ: سبعةٌ منها في السماوات السبع، وسبعةٌ تحتها إلى تخومِ الأرضِ السفلى، وأعلاها إلى العرشِ والبيت، ولو سقط منها بيتٌ لسقط بعضها على بعضٍ إلى تخوم الأرض السَّابعةِ، ولكلِّ بيتٍ منها حرمٌ كحرم هذا البيت، ومن يعمِّره كما يعمِّرُ هذا البيت.
          وسمِّي بالمعمور؛ لأنه يدخلهُ كل يوم سبعونَ ألف ملكٍ لا يعودون إليه إلى يوم القيامةِ، ولا ينافي هذا ما جاءَ عن مجاهدٍ: أنها أربعةَ عشر بيتاً: في كلِّ سماءٍ واحد وفي كلِّ أرضٍ واحد؛ لأن المرادَ بها: غير المعمورِ، فتصيرُ به خمسة عشر.
          المرَّة الثانية: بناءُ آدم عليه السلام، ففي الخبرِ: لما أهبطَ الله آدمَ إلى الأرضِ بوادي سرنديب، استوحشَ منها لسعتها وعدم سكَّانٍ فيها فقال آدم: يا رب! أما لأرضكَ عامرٌ يسبِّحك ويقدِّسك غيري؟ فأوحَى الله تعالى: إني سأجعلُ فيها بيوتاً ترفعُ لذكري ويُسبِّحني فيها خلقِي، وسأريك منها بيتاً أختارهُ لنفسِي وأحفُّهُ بكرامَتي وأوثرهُ باسمِي فأسمِّيه: بيتي، الحديثُ بطوله.
          وروى البيهقيُّ في ((الدلائل)) عن ابن عَمرو بن العاص حديثاً موقوفاً عليه على الأشبهِ، وقيل: رفعهُ من طريق ابن لهيعةَ وفيه: ((قيل له: أنتَ أوَّلُ النَّاسِ وهذا أوَّلُ بيتٍ للنَّاسِ)).
          وفي لفظ: ((لمَّا أهبَطَ اللهُ آدمَ من الجنَّةِ قال: إنِّي مهبطٌ معكَ _أو منزِّلٌ معكَ_ بيتاً يُطافُ حولهُ كما يُطافُ حولَ عرشِي، ويُصلَّى عندَهُ كَما يُصلَّى عندَ عرشِي، فلمَّا كان زمنُ الطوفانِ رُفع فكانَتْ الأنبِياءُ يعرِفُونَه ولا يعلمونَ مكانَهُ حتَّى بوَّأهُ اللَّهُ لإبرَاهِيم وأعلمَهُ مكانَهُ)).
          وقال البغويُّ: روت الرُّواةُ: أنَّ الله تعالى خلقَ موضع البيتِ قبل الأرضِ بألفي عامٍ فكأنه زبدةٌ بيضاء على الماءِ فدحيت الأرضِ من تحتها، فلمَّا أهبطَ الله آدمَ إلى الأرض استوحشَ فشكى إلى الله، فأنزلَ الله له البيتَ المعمورَ من ياقوتةٍ من ياقوتِ الجنَّة، له بابانِ من زمرد أخضر، له بابٌ شرقي وباب غربيٌّ، فوضعهُ على موضعِ البيت، وقال: يا آدم! إني أهبطتُ لك بيتاً تطوفُ به كما يطافُ حول عرشِي، وتصلِّي عنده كما يُصلَّى عند عرشِي، وأنزلَ الحجرَ كان أبيض فاسودَّ من لمس الحيضِ في الجاهليَّة، فتوجَّهَ آدمُ من أرض الهندِ ماشياً، وقيَّضَ الله له ملكاً يدلُّهُ على البيتِ، فحجَّهُ وأقام المناسك، فلمَّا فرغَ تلقَّتهُ الملائكةُ وقالوا: برَّ حجَّك يا آدم لقد حججنَا هذا البيت قبلكَ بألفِي عام.
          واستمرَّ البيتُ إلى الطُّوفان، فرفعهُ الله إلى السَّماءِ الرابعة يدخلهُ كلَّ يومٍ سبعون ألف ملك، ثمَّ لا يعودونَ إليه، وأرسلَ اللهُ جبريلَ فخبَّأ الحجرَ الأسود في جبلِ أبي قُبيس صيانةً له من الغرقِ، وكان موضِعهُ خالياً إلى أن وضعهُ إبراهيم فيه، انتهى.
          وفي لفظ لغيره: ولما وصل إلى مكان البيت من الهندِ ومعه ملكٌ يرشدهُ إليه، فصارَ لا يضعُ رجله في محلٍّ إلا صار عمراناً وغيره خراباً، ولا ينزلُ منزلاً إلا فجَّر الله له ماءً معيناً، ولما وصلَ إلى مكانهِ نزلَ إليه جبريلُ بياقوتةٍ حمراء من ياقوتِ الجنَّة تلتهبُ نوراً، لها باب شرقي وباب غربي مقابله من ذهبٍ من تبرِ الجنَّةِ، وفيها ثلاثُ قناديل من تبرِ الجنة تلتهبُ نوراً، بابها منظومٌ من ياقوتٍ أبيض، والحجرُ في الرُّكنِ ياقوتةٌ بيضاء من ياقوت الجنَّةِ، فوضعها على البيتِ بقدره، ولم تزل عليه إلى أن مات، وله من العمر ألف سنة، وصلَّى عليه جبريلُ والملائكة، ودفنَ بخيف منى كما قيل، ورفعت الصَّخرةُ بعده.
          وقيل: إنه بنى البيتَ على حدودها، ثمَّ رُفِعتْ، وقيل: استمرتْ من غير بناءٍ حتى رفعت في زمن طوفانِ نوح عليه السلام.
          المرة الثالثة: بناءُ أولاد آدم _شيث ومن وافقَه_ من بعدِهِ بناه بالطينِ والحجارة لما دثر بناؤهُ، واستشكل بما مرَّ أن الياقوتةَ لم تزلْ عليه إلى زمنِ الطُّوفان، وأُجيبَ: بأنه يحتملُ أنه كان بين الأساسِ والياقوتةِ بناء تهدم فأعادهُ شيث، أو أنها رُفعتْ ثمَّ بعد بناءِ شيث عادَتْ.
          قال بعضُهم: / ويؤيِّدهُ ما قيل: إنه لما ماتَ آدم رُفِعتْ تلك الخيمةُ، فبنى أولادَه موضعها شيئاً من الحجارةِ، ثم عادت حتى إذا كان زمن الطُّوفان وقعت تحت العرشِ ومكثتِ الأرضُ خراباً ألفي سنة.
          وفي كلام بعضٍ آخر: ولم يزل أولادُ آدم يعمرونَ البيتَ ومن بعدهم حتى كان زمنُ نوحٍ فنسفهُ الغرق وغير مكانه، حتَّى بوَّأه الله تعالى إلى إبراهيمَ عليه السلام فبناهُ كما أمرَ به المليك العلَّام.
          وجزمَ الحافظُ ابن كثير: بأنه أول من بناهُ فقال: لم يجيء عن خبر معصوم أنه كان مبنيًّا قبل الخليلِ، وقد كان المبلِّغُ له ببنائه الملك الجليلُ جبريل، فمن ثمَّ قيل: ليس في هذا العالم بناءٌ أشرف من الكعبة؛ لأنَّ الآمر ببنائها الملكُ الجليل، والمبلِّغ والمهندسُ جبريل، والباني الخليل، والتِّلميذُ إسماعيل.
          وقال غيره: هذهِ المرات الثلاث لم يصحَّ فيها حديثٌ يعتمدُ عليه ولا أثر ينظرُ إليه.
          المرَّةُ الرابعة: بناءُ إبراهيم الخليل عليه الصَّلاة والسَّلام والتَّبجيل، وهذا ثابتٌ بنصِّ الكتاب العزيز، وتقدَّم آنفاً بيانهُ عند تفسير الآية، وسيأتي أيضاً _إن شاء الله_ في بنيانِ الكعبة.
          المرَّة الخامسة: بناءُ العمالقة، ويقال فيهم: العماليقُ، جمع: عمليق كقنديل، أو عِمْلاق كقِرطاس، وعمليق بن لاوذ بن آرم بن سام، قاله في ((القاموس))، بنوهُ بعد تهدُّمِهِ، وهم من ذريَّةِ إسماعيل، ولم يذكروا كيفيَّة بنائهم.
          المرة السَّادسة: بناء جرهم بعد تهدُّمه أيضاً، وهم من ذريَّة إسماعيل أيضاً، ولم أقف على كيفيَّة بنائهم.
          وذكر المسعوديُّ أن الذي بناه من جرهم هو الحارثُ بن مضاض الأصفر.
          المرة السابعة: بناء قصي بن كلاب، كما ذكره الزبير بنُ بكَّار، فبناهُ وسقفهُ، وهو أوَّل من سقفه وكان بعد تهدُّمه وانتثاره، حتى فتَّش على الحجر الأسودِ فلم يجده، ثمَّ أخبروه أن قبيلةَ إياد دفنتهُ في بعض جبال مكَّةَ لما أخرجتهم منها أولادُ مضر، فدلَّته امرأة رأتهم يدفنونهُ، فجاءَ إليها وتلطَّفَ بها حتى دلَّتْه على مكانهِ فأخرجَه، واستمرَّ عند قريشٍ إلى بنائهم البيتَ فوضَعوهُ فيه، وهذه المرات الثلاث لم يصحَّ فيها حديثٌ ولا خبر.
          المرة الثامنة: بناءُ قريشٍ للبيتِ بعد احتراقهِ، وذلك أنَّ امرأة من قريشٍ كانت تجمره، وكانت أستارهُ من داخله لتهدم سقفهُ إذ ذاك، فتعلَّقت شرارةٌ بأستارهِ فاحترقَ حتى الحجر الأسود، وتوهَّنتْ أركانهُ وانهدمَ بعضُها، ودخلته السُّيول، فعزمت قريشٌ على بنائه، فتشاورت في هدمهِ وهابوه، فقال الوليد: إن الله لا يهلك من يريدُ الإصلاح، فارتقَى على ظهرِ الكعبةِ ومعه العبَّاس فقال: اللهمَّ لا نريدُ إلا الإصلاحَ، ثم هدمَ، فلمَّا رأوه سالماً تابعوه.
          وفي رواية: فلمَّا أرادوا هدمهُ خرجتْ لهم حيَّةٌ عظيمةٌ رأسها كرأس الجدي وظهرُها أسودٌ وبطنها أبيض كانت تحرسُ كنزَ الكعبة الذي كان يُلقى لها في بئرٍ بجنبها، حفرهُ إبراهيم ليطرحَ فيه ما يهدى لها، فحرسته خمسمائة عام لا يقربهُ أحدٌ إلا أهلكتْه، فمنعتهم من هدمهِ، فاعتزلوا إلى المقام، فقال الوليدُ بن المغيرة: ألستُم تريدونَ الإصلاح؟ قالوا: بلى، فقال: إنَّ الله لا يهلكُ المصلحين، اللهمَّ إن كان لك رضًى في هدمهِ فأشغل عنا هذا الثعبان، فأقبل طائرٌ من الجو كهيئةِ العُقاب ظهرهُ أسودُ وبطنه أبيضُ ورجلاهُ صفراوان _قيل: إنه دابَّةُ الأرضِ_ فأخذ برأسِ الحيَّة وطار بها إلى أجياد _وقيل: إلى الحجُون_ فقيل: إن أرضَه ابتلعتها فاطمأنُّوا بذلك.
          ولكنهم هابوا هدمهُ خشيةَ أن يحلَّ بهم عذاب، فقال الوليد: أنا أهدمهُ، وأنا شيخٌ كبير فإن متُّ فبفراغِ أجلي، فأخذ معولاً فصعد ليهدم به، فتحرَّك تحت رجليهِ حجرٌ فقال: اللهمَّ لا ترِع _بالراء المكسورة والعين المهملتين، وروي بالزاي والغين المعجمتين_ أي: لا تزلزل بنا فإنما أردنا الإصلاحَ، فهدم فأمن الناس وهدموا معه، حتى بلغوا قواعدَ إبراهيم، وأصلها من بناءِ الملائكةِ كما مرَّ.
          وروى الطَّبراني والحاكم عن أبي الطُّفيل قال: كانت الكعبةُ في الجاهليَّةِ مبنيَّةً بالرضم ليس فيها مدرٌ وكانت قدرَ ما يقتحمها العناق، وكانت ثيابها _أي: مكة_ توضعُ عليها تسدل سدلاً، وكانت ذات ركنينِ كهيئة هذه الحلقة، فأقبلت سفينةٌ من الرُّومِ حتى إذا كانوا قريباً من جدَّةَ انكسرتْ، فخرجت قريشٌ لتأخذ خشبها، فوجدوا الرُّومي / الذي فيها نجَّاراً فقدموا به وبالخشبِ ليبنوا به البيت، فكانوا كلَّما أرادوا القربَ لهدمه بدت لهم حيَّةٌ فاتحة فاها، فبعثَ الله طيراً أعظم من النَّسر فغرز مخالبهُ فيها فألقاها نحو أجياد، فهدمت قريشٌ الكعبة وبنوها بحجارةِ الوادِي، فرفعوها في السماء عشرين ذراعاً، فبينما النَّبي يحمل الحجارةَ من أجياد وعليه نمرةٌ فضاقتْ عليه، فذهبَ يضعها على عاتقهِ فبدت عورتُه فنودِي: يا محمد! خمِّر عورتَكَ، فلم ير عرياناً بعد ذلك.
          فإذا هي حجارةٌ كالإبل لا يطيق أن ينقلَ الحجر منها ثلاثون رجلاً، فأدخلَ الوليد المعول بين حجرين فانفلقتْ من حجرٍ فلقة، فأخذها أحدهم بيده فطارتْ منه وعادت مكانها، وظهرَ من تحتها برقةٌ كادت تخطف الأبصار، وارتجَّتْ مكَّةُ بأسرِهَا، فأمسكوا عن الهدمِ وعزموا على البناء، فحسبوا ما جمعوهُ من المالِ الحلال، فإذا هو لا يفِي بإعادة الكعبة كما كانت، فنقصُوا منها ستة أذرع وشبراً في الحجر، وبنوها مدماكاً من حجرٍ ومدماكاً من خشب بعد أن اقتسموها، فبنى بنو زهرة وبنو عبد مناف جهةَ البابِ، وبنو مخزومٍ ومن انضمَّ إليهم ما بين اليمانيين، وبنو جمح وبنو سهم ظهرها، وبنو عبد الدَّار وبنو أسد وبنو عديٍّ جهةَ الحِجر _بكسر الحاء_.
          ولما وصلوا إلى الحجرِ الأسود تنافسُوا في وضعهِ واختلفوا، ثمَّ اتَّفق رأيهم على تحكيم أوَّلِ داخلٍ من موضع كذا، فطلعَ النَّبي فقالوا: هذا الأمين، رضينا به، فوضَعهُ عليه السلام بيدهِ في مكانه بعد أن بسطَ رداءَهُ أو غيره أولاً، ووضعَ فيه الحجر ودعا من كلِّ قبيلةٍ رجلاً، وأمرهُم فرفعوا أطرافَ الرِّداءِ، وصعدَ عليه السلام فوقَ الجدار، فأخذه بيدهِ من الرِّداء ووضعهُ مكانه، وكان عمرُه _كما مرَّ_ خمساً وثلاثين سنة، وقيل: خمساً وعشرين، ثم أكملوا بناءها وسقَفُوها، وجعلوا طولها للسَّماء ثمانية وعشرين ذراعاً، وقيل: عشرين.
          وذكر الأزرقيُّ: أن طولها أولاً كان سبعةً وعشرين ذراعاً، فاقتصرت قريشٌ منها على ما ذكر، ونقصوا من عرضها أذرعاً أدخلوها في الحجرِ.
          المرة التاسعة: بناءُ عبد الله بن الزبير ☻، وسببه توهينُ الكعبة من حجارةِ المنجنيق حين نصبهُ الحصين بن نُمير _بالتصغير فيهما_ لأنه الأميرُ الذي كان يقاتلُ ابن الزبير، ومعه الحجَّاجُ ومن معه على أبي قبيس بأمرِ يزيد بن معاوية حين لم يبايعهُ بالخلافة، وضربوهُ على ابنِ الزبير ومن معه حين تحصَّن بالمسجد، واستظلوا بخيامٍ من الشمس، فأصابَ بناء البيتِ فأوهنَه، ووضعَ رجلٌ منهم ناراً على زج رمحهِ ورمى بها فوقعتْ في أستارِ الكعبة فحرقتها وحرقَتْ أخشابها التي في الجدران واسودَّ الحجرُ، وانفلق ثلاثة فلقٍ حتى شعبَه ابن الزبير بالفضَّة، وطار من أعلاه فلقةٌ لم تشعَّب ومحلُّها ظاهرٌ.
          وروي أنهم لما رموهُ بالنار واشتعلت فيه جاءته سحابةٌ من نحو جدَّةَ يسمعُ فيها الرعد، ويرى فيها البرق، فأمطرتْ فما جاوز مطرُها البيتَ والمطاف فأطفأَتْ النار، وجاءت صاعقةٌ فأحرقَتْ المنجنيقَ وأربعة رجالٍ تحته، فتداركوهُ وأصلحوهُ.
          وقال لهم الحجَّاج: لا يهولنَّكُم ذلك فإنها أرضُ صواعقَ، وأرسلَ الله صاعقةً أخرى فأحرقَتْ المنجنيقَ أيضاً وأربعين رجلاً تحته، فلمَّا همُّوا بإصلاح المنجنيقِ أيضاً جاءهم نعيُ يزيد بعد تسعة وعشرين يوماً من حصارهِم أنه ماتَ بحوارين من أرض حمص، وحُمِل ودفن بدمشق في مقبرة باب الصغير، فرجعوا عن الحصارِ بعسكرهم، وذلك في ربيع الآخر سنة أربع وستين، فلما أمرهُ عبد الله ورأى ما حصلَ للبيت من الوهنِ جمع وجوهَ الناس وأشرافهم واستشارَهُم في هدمهِ وبنائهِ، فامتنعَ أكثرهم، ومنهم ابن عبَّاسٍ ☺، وقال: دعهُ على ما أقرَّهُ رسول الله صلعم فإني أخشَى أن يأتي من بعدك فيُهْدمَ ويُبْني، ولا يزال كذلك فتنتهك حرمتهُ ولكن ترقعه.
          فقال ابنُ الزبير: والله ما يرضَى أحدُكم أن يرقِّع بيت أبيه وأمه وهو يراهُ بهذهِ الحالة، فكيف أرضى بذلك لبيتِ ربِّي، وأنا أنظرُ الحجارةَ تتناثر من وقوعِ الحمامِ عليه، وأشارَ بعضهم بهدمه، ومنهم جابر، / فهدمها حتى بلغتِ الأرضَ يوم السَّبت منصف جمادى الآخرة سنة أربع وستين، وبناها على قواعدِ إبراهيم.
          وأدخلَ فيها ما أخرجتْهُ منها قريش للحجرِ، وجعلَ لها بابين لاصقين بالأرض يدخلُ من أحدهما ويخرجُ من الآخر رفقاً بالناس: أحدهما: بابها الموجودُ الآن، لكن الحجَّاج رفعه، والآخر مقابلٌ له، لكنه مسدودٌ الآن، وسأل عن محلِّ أخذِ قريشٍ حجارتها حين بنائهم فأخبر بذلك، فكان يحضرها منهُ، وضمَّ إليها ما صلح أن يعادَ من حجارتها، وزاد في ارتفاعِهَا عشرةَ أذرعٍ.
          ولما وصلَ إلى الحجرِ الأسود صلَّى بالناس فوضعَ ابنه حمزة الحجرَ في محلِّه، وقد كان عبد الله بن الزبير أرادَ أن يجعلَ طينَها من الورس، فقيل له: لا بقاءَ له بل ابْنِهَا بالقَصَّةِ وأجودها ما في صنعاء، فأرسلَ أربعمائة دينار لإحضارها منها، ولما فرغَ من بنائه خلطَها بالعنبرِ والمسك، ولطخَ جُدرانها بالمسكِ وسترها بالقباطِي، ونحر مائة بدنةٍ للصَّدقة.
          وكان فراغهُ من بنائها سنة خمس وستين في شهر رجب لسبع وعشرين خلت منه، ونادى: من كان لي عليه طاعةٌ فليخرجْ معي وليعتمرْ ويتصدَّق بما يقدرُ عليه من نحر بدنةٍ أو شاة أو غير ذلك، فخرجَ معه جميع أهل مكَّةَ، وفعل كلَّ ما قدرَ عليه، فلم ير أحدٌ أكثر من ذلك اليوم بدناً منحورةً أو شياهاً أو صدقةً، وجعلَ أهل مكَّة ذلك اليوم ميعاداً لاعتمارهِم كلَّ عامٍ يفتخرونَ به، واستمرَّ ذلك حتى حاصرهُ الحجَّاج ثانياً وقتلهُ فصلبه، فلا حولَ ولا قوَّةَ إلا بالله العلي العظيم.
          المرَّة العاشرة: بناءُ الحجَّاج، وذلك أنه لما قتلَ ابن الزبير في خلافةِ عبد الملك بن مروان في عام ثلاث وسبعين، فكتبَ إليه يقول: إنَّ ابنَ الزبير زادَ في البيتِ وأحدثَ له باباً واستأذنهُ في ردِّه لما كان عليه زمن النَّبي صلعم، فكتبَ إليه بالإذنِ في ذلك، وفي لفظٍ: فكتب إليه عبدُ الملك: إنا لسنا من تخليطِ ابن الزبير في شيءٍ، أمَّا ما زاد في طولهِ فأقِرَّهُ، وأمَّا ما زاد في الحِجْرِ فردَّهُ إلى بنائهِ، وسدَّ بابه الذي فتحَه.
          قال أبو أويس: فأخبرني غيرُ واحدٍ من أهل العلم أن عبد الملك ندمَ على إذنه للحجَّاج في هدمها ولعنَ الحجَّاج، فهدم الحجَّاج جهةَ الحِجْر _بكسر الحاء_ وأعادها على أساسِ قريشٍ، فأخرجه منها وسدَّ الباب الغربي، ورفع بابها الشرقي، وجعل لها شاذرواناً ليقيها من السَّيل، وكساها الدِّيباج، ولم تكسَ به قبله، وترك باقيها على ما فعلهُ ابن الزبير.
          واستمرَّ بناء الحجَّاج إلى الآن إلا في الميزابِ والباب وعتبته، ووقعَ ترميمٌ في الجدار وفي السقف للسُّلطان مراد وغيره، وفي سلم السَّطح، وجدَّد بالرخام، وأول من فرشها به الوليدُ بن عبد الملك.
          ويجوزُ إصلاح ما وهَى منها اتِّفاقاً، وكذا غيره وإن كان الأولى إبقاءُ ما كان على ما كانَ احتراماً لها، فقد أرادَ الرشيد أو أبوه أو جدُّه أن يعيدوها على ما فعلهُ ابن الزبير فناشدهُ الإمام مالك، وقال: أنشدُكَ الله يا أميرَ المؤمنين لا تجعل هذا البيت ملعبةً للملوكِ بعدَك، فتذهب هيبتهُ من الصُّدور فتركهُ.