الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب قول الله تعالى: {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج}

          ░33▒ (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}): {الحَجُّ} مبتدأ على حذف مضاف ليصح الخبر بأشهر؛ أي: وقت الحج، ويحتمل الحذف من {أَشْهُرٌ}؛ أي: الحج ذو أشهر.
          وقال الواحديُّ: يمكن حملهُ على غير إضمار بأن يجعل الأشهر نفس الحج مبالغةً لكون الحجِّ يقعُ فيها كقولهم: ليلٌ نائمٌ، وبعضهم قال: وقت الحجِّ في الشَّهرِ، واعترضهُ ابن عطيَّةَ: بأنه يلزمهُ مع سقوط حرف الجر نصب الأشهر، ولم يقرأ بنصبها أحد.
          وردَّهُ أبو حيان: بأنه لا يلزم نصب الأشهر مع حذف الجار؛ لأنه يرفع اتِّساعاً، إذ لا خلافَ عند البصريين أن ظرف الزمان النكرة إذا أخبر به عن المصدر يجوزُ فيه الرفع والنصب، سواءٌ كان الحدثُ مستغرقاً للزمان نحو: الصوم يومٌ أو غير مستغرق.
          وأما الكوفيُّونَ فقالوا: إن استغرق الحدثُ الزَّمان يرفعُ لزوماً، وإن لم يستغرق فعند هشامٍ: يجب فيه الرفع نحو: ميعادكُ يوم، وعند الفراء: يجوز فيه الرفع والنصب كالبصريين، ونقل عنه أنه / قال: لا يجوز نصب {أَشْهُرٌ} هنا؛ لأنه نكرةٌ غير محصورة، فيحتملُ أن يكون له قولان: قولٌ كالبصريين، وقولٌ كهشام.
          قال في ((الفتح)): وقال أبو إسحاق في ((المهذب)): المراد: وقت إحرامِ الحج؛ لأن الحجَّ لا يحتاج إلى أشهرٍ، وأجمع العلماءُ على أن أشهر الحج ثلاثةٌ أولها غرة شوال، لكن اختلفوا هل هي ثلاثةٌ بكمالها وهو قولُ مالك، ونقل عن ((الإملاء)) للشافعي، أو شهرانِ وبعض الثالث، وهو قولُ الباقين.
          وأقول: منهم مالك في رواية، المشهورُ عنه ما تقدَّم، واختلفوا فيه، فقال ابن عُمر وابن عباس وابن الزبير وآخرون: عشر ليالٍ من ذي الحجَّة، ويدخل يوم النحر عند أبي حنيفة وأحمد، وقال الشافعي في المصحح عنه: لا، وقال بعض أتباعه: تسعٌ من ذي الحجَّة، ولا يصح في يوم النحر ولا في ليلته وهو شاذ، واعترض الوجهين أبو حيان.
          واختلفوا في اعتبارِ هذه الأشهر، فقال ابن عمر وابن عباس وجابر وغيرهم من الصَّحابةِ والتابعين: هو شرطٌ فلا يصحُّ الإحرام بالحجِّ إلا فيها، وهو قولُ الشافعي، وسيأتي استدلالُ ابن عباس له في الباب، انتهى.
          وأقول: في قوله: وهو شاذٌّ؛ نظرٌ بالنسبة لليلة النَّحرِ إن أريد الليلة التي قبلَ يوم النحر؛ فإنه يصحُّ فيها الإحرامُ بالحج.
          وقال ابن بطَّال: اختلفَ العلماء فيمن أحرم بالحجِّ في غير أشهره، فقال ابن عباس وجابر: لا ينبغي الحجُّ في غير أشهرهِ، وقال الشافعي وأبو ثور: لا ينعقدُ إحرامه بالحجِّ، بل ينعقدُ عمرةً، وهو مذهبُ عطاء وطاوس والأوزاعي وأحمد وإسحاق، وقال آخرون: ينعقد الحجُّ ويبقى محرماً حتى يحجَّ، وهو قولُ أهل المدينة والثوري والكوفيين، وروي عن النَّخعي، انتهى ملخَّصاً.
          وذكر الأدلَّةَ، وأن قوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} للتَّوسِعة على الخلقِ والرِّفق بهم؛ لئلا يُضيِّقوا على أنفسهم بالإحرامِ في غير هذه الأشهر، لا لأنَّه لا يصحُّ في غيرها، فتأمَّله.
          وقال الكرمانيُّ _تبعاً لـ((لكشاف)) وغيره_ وإنما جعل الشهران وبعض الثالث أشهراً؛ لأن الجمعَ يُطلق على ما فوقَ الواحد كقوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4]، أو لتنزيلِ بعض الشهر منزلةَ كله مجازاً كما حكى الفراء عن العرب: ما رأيته منذ خمسةِ أيَّامٍ وإن كنت رأيتهُ في اليوم الأول والخامس.
          وقال البيضاويُّ في تفسير الآية: بناءُ الخلاف أن المرادَ بوقتِ الحجِّ وقتُ إحرامهِ، أو وقت أعمالهِ ومناسكهِ، أو ما لا يحسنُ فيه غيره من المناسكِ مطلقاً؛ فإنَّ مالكاً كره العمرةَ في بقيَّةِ ذي الحجَّة، وأبو حنيفة وإن صحَّح الإحرام به قبل شوَّال فقد استكرهَهُ، انتهى.
          والمرادُ بمعلومات: أنها معروفاتٌ عند الناس لا تشكلُ عليهم، هي جميعُ شوال وذي القعدة وبعضِ ذي الحجَّة على ما مرَّ من الخلاف.
          ({فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ}): أي: في الأشهرِ المعلومات ({الْحَجَّ}): أي: أوجبه على نفسهِ بالإحرامِ فيهن عندنا والحنابلة، أو بالتَّلبيةِ أو سوق الهديِ عند أبي حنيفةَ.
          قال البيضاويُّ: وهو دليلٌ على ما ذهبَ إليه الشَّافعي، وأنَّ من أحرم بالحجِّ لزمهُ الإتمام، انتهى فتأمَّله.
          ({فَلاَ رَفَثَ}): أي: فلا جماع أو فلا فُحشَ من الكلام، والجملة في محلِّ جزم على أنها جوابُ الشَّرط واقترنت بالفاء ({وَلاَ فُسُوقَ}): أي: ولا خروجَ عن حدودِ الشَّرع بالسَّبابِ وارتكابِ المحظوراتِ، قرأ فيه وفيما قبله ابنُ كثير وأبو عَمرو بالرفع مع التنوين، وأما الثالثُ فاتَّفق الجميعُ على بنائه على الفتحِ من غير تنوينٍ وقرأه أبو جعفر بالرَفع كسابقيه.
          ({وَلاَ جِدَالَ}): أي: ولا مراءَ ولا مخاصَمةَ مع الخدمِ والرفقة ({فِي الْحَجِّ} [البقرة:197]): أي: في أيَّامه، وهذا الجار والمجرور خبر عن الثلاثة إن فتحنَا، وإن رفعنا الأولين كان خبراً عن الثالث، وخبر الأولين محذوفٌ، ويحتملُ العكس نفي الثلاثة على إرادةِ النَّهي للمبالغةِ والدَّلالة على أنها حقيقة بأن لا يكون، وما كان منهياً مستقبحاً في نفسهِ ففي الحجِّ أقبحُ، كلبس الحرير في الصَّلاة والتَّطريب بقراءةِ القرآن؛ لأنه خروجٌ عن مقتضى الطَّبعِ والعادةِ إلى محضِ العبادةِ.
          (وَقَوْلِهِ): بالجر، وثبت لأبي ذرٍّ وسقط للباقين ({يَسْأَلُونَكَ}): قال ابن عبَّاس: سألَ الناس رسولَ الله عن الأهلَّة فنزلتْ هذه الآية.
          وقال النَّسفي في ((تفسيره)): نزلت في عديِّ بن حاتم ومعاذ بن جبلٍ، سألا رسولَ الله عن الأهِلَّة: ما بالُها تبدو صغيرةً، ثم تصيرُ بدوراً، ثم تعودُ كالعرجون؟
          وقال الكلبيُّ _وتبعهُ كثيرون كالبيضاويِّ_: نزلت في معاذِ بن جبلٍ وثعلبة بن غَنم الأنصَاريين، قالا: يا رسولَ الله! ما بالُ الهلال يبدو دقيقاً مثل الخيطِ ثم يزيدُ ثم ينقص؟ فنزلت.
          ({عَنِ الأَهِلَّةِ}): متعلِّقٌ بـ{يَسْأَلُوْنَكَ}، وهي جمعُ: هلال، اسمٌ لما كان لليلةٍ أو ليلتين.
          وقال في ((القاموس)): الهِلالُ: غُرَّةُ القَمَرِ أو لليْلَتَيْنِ أو إلى ثلاثٍ أو إلى سبْعٍ، ولليلتَيْنِ مِن آخرِ الشَّهرِ سِتٍّ وعشرين وسبعٍ وعشرينَ، وفي غير ذلك قمرٌ، انتهى.
          ({قُلْ هِيَ}): أي: الأهلَّةُ ({مَوَاقِيتُ}): جمع: مِيقات، من الوقت.
          قال البيضاويُّ: الفرقُ بينه وبين المدَّة والزمان: أنَّ المدة المطلقةَ امتدادُ حركة الفلك / من مبدئِها إلى منتهاها، والزمانُ مدَّةٌ مقسومةٌ، والوقتُ: الزمان المفروضُ لأمرٍ.
          ({لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189]): خصَّ الحجَّ من بين العباداتِ لكونه أهم وأشقُّ.
          تنبيه: هذا الجوابُ من قبيل أسلوبِ الحكيم تنبيهاً لهم على أنه ينبغِي سُؤالُهم عمَّا ينفعُهُم.
          وقال البيضاويُّ: سألوا عن الحكمةِ في اختلاف حال القمرِ وتبدُّلِ أمرهِ، فأمرهُ الله أن يجيبَ بأن الحكمةَ الظاهرةَ في ذلك أن يكون معالمَ للناس يوقِّتون بها أمورهُم، ومعالم للعباداتِ الموقَّتة تعرفُ بها أوقاتها وخصُوص الحجِّ؛ فإن الوقتَ مراعى فيه أداء وقضاء، انتهى.
          (وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ): أي: ابن الخطَّاب (☻): ممَّا وصله الطَّبري والدَّارقطني عنه بسندٍ صحيحٍ عنه (أَشْهُرُ الْحَجِّ: شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحَجَّةِ): تقدم في تفسيرِ الآية بيانُ اختلاف العلماء، وأنه ليس المرادُ من كونها أشهر الحجِّ أن جميعَ أفعاله جائزةٌ فيها، ألا ترى أن الوقوفَ وطواف الإفاضةِ وغيرهما غير جائزٍ في شوَّال؟ ويجوز بعض أفعالهِ فيه كالسَّعي بعد طوافِ القدوم.
          تنبيه: روى مالك في ((الموطأ)) عن ابن عمر أنه قال: من اعتمرَ في أشهرِ الحجِّ _شوال أو ذي القعدة أو ذي الحجَّة_ قبل الحجِّ فقد استمتعَ.
          قال في ((الفتح)): لعله تجوَّز في إطلاق ذي الحجَّة جمعاً بين الروايتين، انتهى. ومثلهُ في العيني.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ☻): مما وصله ابن خُزيمة والحاكم والدَّارقطني وابن جريرٍ بمعناه (مِنَ السُّنَّةِ): أي: الطَّريقةِ والشَّريعة (أَنْ لاَ يُحْرِمَ): أي: الشَّخص (بِالْحَجِّ إِلاَّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ): مفهومهُ: أنه لو أحرمَ في نحو رمضان بالحجِّ انعقد عمرةً، وهو مذهبُ الشَّافعيَّة؛ لأن الحجَّ شديدُ التَّعلُّق فإذا لم يقبله الوقت انصرفَ إلى ما يقبلهُ، وعند المالكيَّةِ والحنفيَّةِ: ينعقد حجًّا لكنه يُكره _كما تقدَّم_ لأنه عند الحنفيَّة: لا يأمن من وقوع محظورٍ في التقديم، وعند المالكيَّةِ؛ لأنه عليه السلام إنما أحرمَ به في أشهرهِ.
          (وَكَرِهَ): بكسر الراء، ويجوز فتحها مشددة (عُثْمَانُ): أي: ابن عفَّان (☺: أَنْ يُحْرِمَ): أي: الشَّخص (مِنْ خُرَاسَانَ): بضم الخاء المعجمة فراء فألف فسين مهملة فألف فنون.
          قال الكرمانيُّ: المملكةُ المعروفة، موطن الكثيرِ من علماءِ المسلمين.
          وقال العينيُّ: إقليمٌ واسعٌ، حدُّه من المغرب: المفازة التي بينها وبين بلادِ الجبل وجرجان، ومن الجنوب: مفازة واصلةٌ بينها وبين فارس وقدمس، ومن الشرقِ: نواحي سجستان وبلاد الهندِ، ومن الشَّمال: بلاد ما وراء النَّهر وشيء من تركستان، تشتملُ خراسان على كورٍ كثيرة، كل كورةٍ منها إقليم، ولها مدنٌ كثيرة منها بلخ في وسطها، خرج منها خلقٌ لا يُحصَون من الأئمَّة والعلماء والصَّالحين، ومن مُدُنها: جرجان وطالعان وطابران وكشمهين ونسا وهراة.
          وقوله: (أَوْ كَرْمَانَ): بـ((أو)) التي للتنويع لا للشك، و<كَرْمان> بفتح الكاف لأبي ذرٍّ، وبكسرها لغيره وبسكون الراء.
          وقال في ((القاموس)): كَرمان وقد تكسر، أو لحن: إقليمٌ بين فارس وسجستان، انتهى.
          وقال الكرمانيُّ: كِرمان _بكسر الكاف، وقيل: بفتحها_ هي مملكتنا منزل الكرَم والكِرام، دارُ أهل السُّنَّة والجماعةِ والأئمة الأعلام، قال: والمملكتان متلاصقةَ الحدَّين.
          ولبعضهم:
وأجَادَ كَرمَان بالفتْحِ الأَصِيْلِي كَسْراً                      كَذَاكَ عَبْدُوس ولكِنْ أَنْكَرا
          ونقل العينيُّ عن ((المشترك)): أنها صقعٌ كبير بين فارس وسجستان، وحدها تتَّصل بخراسان، ومن بلادها المشهورةِ: زرند والسيرجان وهي أكبرُ من كَرمان، انتهى.
          ووجه كراهةِ الإحرامِ منها _كما قال الكرماني_ أنه موجبٌ للحرجِ والتَّضرُّر، ولا حرجَ ولا ضررَ في الإسلامِ، وهذا على سبيلِ التَّمثيل، إذ حكمُ سائر البلادِ البعيدةِ عن مكَّة كالصين والهندِ كذلك.
          قال: ويحتملُ أن تعلُّلَ الكراهة بأن الإحرامَ منهما لا يقع غالباً إلا قبلَ أشهر الحج وهو قبلهُ مكروهٌ، إما تحريماً أو تنزيهاً، أو بأن الأفضل الإحرامُ من الميقات لا من دويرة أهله اقتداءً برسول الله، لكن هذا غير مناسبٍ للتَّرجمة، انتهى.
          وعند الشافعيَّةِ: لا ينعقدُ قبل أشهره حجًّا بل عمرةً، ولم يذكرهُ مع أنه شافعيٌّ.
          وقال في ((الفتح)): مناسبةُ هذا الأثر بما قبله: أن بين خراسان ومكَّةَ أكثر من مسافة أشهرِ الحَجِّ فيستلزم أن يكون أحرمَ في غير أشهر الحجِّ فكرهَ ذلك، وإلا فظاهرهُ يتعلَّقُ بكراهةِ الإحرامِ قبل الميقات، فيكون من متعلقِ الميقاتِ المكاني لا الزَّماني، انتهى.
          تنبيه: هذا الأثرُ عن عثمان وصله سعيد بن منصور، قال: حدَّثنا هُشيم: قال: حدَّثنا يونس بن عُبيد قال: أخبرنا الحسن هو البصري: أنَّ عبد الله بن عامر أحرمَ من خراسان، فلمَّا قدمَ على عثمان لامهُ في ما صنعَ وكرهه.
          وروى أحمد بنُ سيَّار في ((تاريخ مرو)) من طريق داود بن أبي هند قال: لما فتحَ عبد الله بن عامرٍ خراسان، قال: لأجعلنَّ شكرِي لله أن أخرجَ من موضعِي هذا محرماً، فأحرمَ من نيسابور، فلما قدمَ على عثمان لامهُ على ما صنعَ، وكان ذلك في السَّنة التي قُتِل فيها عُثمان، كما في ((تاريخ يعقوب بن أبي سفيان)).
          قال / العينيُّ: وعبد الله هذا: ابن عامر بن كريز بن ربيعةَ بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف ابن خال عثمان بن عفان، وُلِد في حياةِ رسول الله، وتفلَ في فيهِ رسولُ الله صلعم، واستنابهُ عثمان على البصرةِ بعد أبي موسى الأشعري، وولَّاه أيضاً بلادَ فارس بعد عثمان بن أبي العاصي، وعمرهُ حينئذٍ خمس وعشرون سنة، ففتح خراسان كلها وأطراف فارس وكرمان وسجستان وبلادَ غزية، وقتلَ كِسرى المسمَّى بيزدجرد في أيامه، وماتَ عبد الله ☺ سنة ثمانية وخمسين من الهجرة.