الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب قول الله تعالى: {جعل الله الكعبة البيت الحرام}

          ░47▒ (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} الآية [المائدة:97]): وفي أكثرِ الأصولِ ذكر تتمَّة الآية.
          قال في ((الفتح)): كأنَّه يشيرُ إلى أن المرادَ بقوله: {قِيَاماً}: أي: قواماً، وأنها ما دامت موجودةً فالدِّينُ قائمٌ، ولهذه النكتة أوردَ في الباب قصَّةَ هدم الكعبةِ في آخر الزَّمانِ، وروى ابن أبي حاتمٍ بسندٍ صحيحٍ عن الحسن البصريِّ أنه تلى هذه الآية فقال: لا يزالُ الناس على دينٍ ما حجُّوا البيت، واستقبلوا القبلةَ، وعن عطاءٍ قال: {قِيَاماً لِلنَّاسِ} لو تركوهُ عاماً لم ينظروا أن يهلكوا.
          وقال العيني: التَّحقيق: أنه جعل هذه الآية ترجمةً، وأشارَ بها إلى أمور:
          الأوَّل: أشارَ فيه إلى أن قوام أمورِ الناس، وانتعاشَ أمر دينهم ودنياهم بالكعبة المشرَّفة يدلُّ عليه {قِيَاماً لِلنَّاسِ}، فإذا زالت على يدِ ذي السُّويقتين تختلُّ أمورهم، فلذلك أوردَ حديثَ أبي هريرة فيه، فتقعُ به المطابقةُ بين الحديثِ والترجمة.
          الثاني: أشارَ به إلى تعظيم الكعبةِ، يدلُّ عليه {البَيْتَ الحَرَامَ} حيث وصفَها بالحرمةِ، فأوردَ حديث عائشةَ، وفيه: وكان يوماً تسترُ فيه الكعبة، فتقعُ به المطابقة.
          الثالث: أشارَ به إلى أن الكعبةَ لا ينقطع الزُّوار عنها، ولهذا تحجُّ بعد خروجِ يأجوج ومأجوج، وفيه من الفتنِ والشَّدائد ما لا يوصفُ، فلذلك أوردَ حديث أبي سعيدٍ الخدري وفيه: ((ليُحجَّنَّ البيْتُ وليُعتَمَرَنَّ بعدَ خرُوجِ يأجُوجَ ومأجُوجَ))، ويدلُّ عليه أيضاً: {قِيَاماً} فتحصلُ المطابقة.
          وقوله: {قِيَاماً} مفعول ثان لـ{جَعَلَ} إن تعدَّت لاثنين، وإلا فهو حالٌ من {الكَعْبَةَ}، وقرأ ابن عامر: ▬قيماً↨ و{البَيْتَ الحَرَامَ} عطف بيانٍ على {الكَعْبَةَ} مفيدٌ للمدح.
          قال في ((الكشاف)): {قِيَاماً لِلنَّاسِ} انتعاشاً لهم في أمرِ دينهم ودنياهُم، ونهوضاً إلى أغراضِهم ومقاصِدِهم في معاشِهِم ومعادهم؛ لما يتمُّ لهم من أمر حجِّهم وعُمرتهم وتجارتهم وأنواع منافعِهم، وقال مقاتل: {قِيَاماً} علماً لقلَّتهم، وقال سعيد بن جُبير: صلاحاً لدينهم.
          {وَالشَّهْرَ الحَرَامَ} أي: الذي يؤدَّى فيه الحجُّ، وهو ذو الحجَّة؛ لأن لاختصاصه بإقامةِ موسم الحجِّ فيه، وقيل: المرادُ به: الأشهرُ الحرم كلها {وَالهَدْيَ} أي: ما يُهدى به {وَالقَلَائِدَ} أي: المقلَّدُ بها.
          وقال في ((الكشاف)): أي: المقلَّدُ منه خصوصاً وهو البدن؛ لأن الثوابَ فيه أكثر، وبها الحجُّ معهُ أظهر.
          وقال العينيُّ: والمعنى: جعلَ الله الشَّهرَ الحرام والهديَ والقلائدَ أمناً للناس؛ لأنَّهم كانوا إذا توجَّهوا إلى مكة وقلَّدوا الهدي أمنوا من الشرور؛ ولأن الحربَ كانت قائمةً بين العربِ إلا في الأشهرِ الحرم.
          {ذَلِكَ}: إشارةٌ إلى جعل الكعبة قياماً للناس، أو إلى ما ذكر من الأمر بحفظِ حرمَةِ الإحرامِ وغيره، {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}: من ذواتٍ وغيرها، فلذا جعلَ {الكَعْبَةَ البَيْتَ} الآية.
          قال البيضاوي: فإن شرعَ الأحكام لدفع المضارِّ قبل وقوعها، وجلبِ المنافع المترتِّب عليهما دليلُ حكمةِ الشارع، وكمال علمه {وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المائدة:97] تعميمٌ بعد تخصيصٍ.