الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب كسوة الكعبة

          ░48▒ (بَابُ كِسْوَةِ الْكَعْبَةِ): / أي: حكمُ كسوتها من حيثُ التصرُّفِ فيها وغير ذلك، والكِسوة _بكسر الكاف وضمها_ الثَّوبُ، والجمع: كسا، وتقدم في الباب السابق بيانُ اليومِ الذي كانت تُكسَى فيه الكعبةُ.
          واختُلِف في أوَّل من كسا الكعبةَ، فذكر ابن إسحاقٍ في ((سيرته)) وغيره: أن تبَّان أسعد وهو تُبَّع الأصغر ابن كلكيكرب بن زيد، وهو تبع الأكبر أوَّل من كسا الكعبة، أري في منامهِ أن يكسوَ الكعبة، فكساها أولاً الخصف، ثمَّ أري أن يكسوها أحسنَ من ذلك، فكساها المعَافِر، ثم أريَ أن يكسوها أحسنَ من ذلك، فكساها الملاء والوصائل، وذكر ابن قُتيبة: أنَّ هذا قبل الإسلامِ بسبعمائة سنة.
          وروى الفاكهيُّ وغيره: أنَّ النبي صلعم نهى عن سبِّ أسعد. وروى الطبراني في ((معجمه)) عن سهل بن سعدٍ رفعه: ((لا تسُبُّوا تُبَّعاً؛ فإنَّهُ قد أسلَم))، وروى عبد الرَّزَّاق عن ابن جريجٍ قال: بلغنا أن تُبَّعاً أوَّلُ من كسا الكعبة الوصائل فسُتِّرت بها.
          قال: وزعمَ بعض علمائنا أن أوَّل من كسا الكعبة إسماعيلُ عليه السلام، وحكى الزُّبير بن بكار عن بعض علمائهم: أن عدنان أوَّل من وضع أنصابَ الحرم، وأوَّلُ من كسا الكعبةَ أو كسيت في زمنه.
          وحكى البلاذريُّ: أن أول من كساها الأنطاع: عدنان بن أد.
          قال في ((الفتح)): ويجمعُ بين الأقوالِ إن كانت ثابتةً: بأنَّ إسماعيلَ أوَّلُ من كساها مطلقاً، وأما تُبَّع فأول من كساها ما ذكر، وأمَّا عدنان فلعله أوَّل من كساها بعد إسماعيل، وقال ابن إسحاق: بلغني: أنَّ البيت لم يكسَ في عهد أبي بكرٍ ولا عمر، وسيأتي ما فيه.
          وروى الفاكهيُّ بسندٍ صحيحٍ عن ابن عمر: أنه كان يكسو بدنه القباطي والحبرات يوم يقلِّدها، فإذا كان يوم النحر نزَعَها، ثمَّ أرسل بها إلى شيبةَ بن عثمان، فناطها على الكعبةِ، زاد في روايةٍ صحيحة أيضاً: فلما كست الأمراءُ الكعبةَ جلَّلها القباطي ثم تصدق بها.
          قال: وهذا يدلُّ على أن الأمرَ مطلقٌ للناس، ويؤيِّدهُ: ما رواه عبد الرزَّاق بسندهِ عن عائشةَ أن أم علقمةَ سألتْ عائشة: أنكسوا الكعبةَ؟ قالت: الأمراءُ يكفونكم، وروى عبد الرَّزَّاق أيضاً بسندهِ إلى هشام بن عروة: أن أوَّل من كسَاها الدِّيباج عبد الله بن الزبير. وروى الواقديُّ بسندهِ إلى أبي جعفرٍ الباقر قال: كساها يزيدُ بن معاويةَ الديباج.
          وقال عبد الرزاق عن ابن جريجٍ: أخبرتُ أن عمر كان يكسوها القباطي، وأخبرني غيرُ واحدٍ: أن النَّبي صلعم كساها القباطي والحبرات، وأبو بكرٍ وعمر وعثمان.
          وذكر الأزرقيُّ: أن أوَّل من ظاهرَ الكعبةَ بين كِسوتين عثمان، وأوَّل من كساها الدِّيباج عبد الملك بن مروان، وأنَّ من أدرك ذلكَ من الفقهاء قالوا: أصابَ، ما نعلمُ لها من كسوةٍ أوفقَ منه، وروى أبو عروبة في ((الأوائل)) له عن الحسن قال: أوَّل من ألبسَ الكعبة القباطي النَّبي صلعم، وروى الفاكهيُّ: أن خالدَ بن جعفر بن كلاب أصاب لطيمةً في الجاهليَّة فيها نمطٌ من دِيباج، فأرسلَ به إلى الكعبةِ، فنيطَ عليها، فعلى هذا هو أوَّل من كسى الكعبةَ الدِّيباج.
          وروى الدَّارقطني في ((المؤتلف)): أن أوَّلَ من كسَى الكعبةَ الدِّيباج: نتيلة بنت حبَّان، والدةُ العباس بن عبد المطلب، كانت أضلَّت العبَّاس صغيراً، فنذرتْ أن تكسو الكعبةَ الدِّيباج إن وجدته، وذكر الزُّبير بن بكَّار: أنها أضلت ابنها ضراراً شقيق العباس، فنذرت إن وجدتهُ أن تكسو الكعبةَ، فكستها ثياباً بيضاً.
          وحكى الأزرقيُّ: أن معاويةَ كساها الدِّيباج والقباطي والحبرات، فكانت تُكسى الدِّيباج يوم عاشوراء، والقباطي في آخر رمضان، فحصلنا في أوَّل من كساها مطلقاً على ثلاثة أقوال: إسماعيل، وعدنان، وتُبَّع، وحصَّلنا في أوَّل من كساها الدِّيباج على ستة أقوال: خالد، أو نتيلة، أو معاوية، أو يزيد، أو ابن الزيبر، أو الحجاج.
          ويجمعُ بينها: بأن كسوةَ خالدٍ ونتيلة لم تشملها كلها، وكسوةُ معاوية شملتها، وكانت في آخر خلافتهِ، فصادف خلافةُ ابنه يزيد، وأمَّا ابن الزبير: فبعد تجديدِ عمارتها، لكن لم يداوم عليها، فلما كساها الحجَّاج بأمر عبدِ الملك استمر يفعلُ في كلِّ سنةٍ.
          وبما تقدَّم يُعلم ما في قول ابن إسحاق أن أبا بكر وعمر لم يَكسيا الكعبة، ولم يذكروا عليَّ بن أبي طالبٍ، ولعله اشتغلَ عن ذلك بالحروبِ مع الخوارجِ / في أمر الدين.
          وذكر الفاكهيُّ: أن شيبةَ بن عثمان الحجبي استأذنَ معاويةَ في تجريدِ الكعبة فأذن له فجرَّدها، وكان أول من جرَّدها من الخلفاء، وكانت قبل ذلك تطرحُ كسوتها عليها شيئاً فوق شيءٍ، وفيه نظرٌ؛ لما أخرجه ابن أبي شيبة من طريقِ ابن أبي نجيح عن أبيه: أن عمر كان ينتزعُ كسوةَ الكعبة كلَّ عامٍ فيقسمها على الحاج.
          وذكر الفاكهيُّ أن أول من كساها الدِّيباج الأبيض: المأمون، واستمرَّ بعده، وكسيت في أيام الفاطميين، وكساها محمد بن سُبُكتَكِين الدِّيباج الأصفر، وكساها النَّاصر العباسي ديباجاً أخضرَ، ثمَّ ديباجاً أسود، واستمرَّ إلى الآن.
          وذكر بعضهم أن المأمونَ كساها الديباج الأحمرَ يوم التروية والقباطي غرَّة رجب، والدِّيباج الأبيض يوم سبع وعشرين من رمضان، وهكذا كانت تُكسى زمن المتوكل العبَّاسي، ولما كان زمن الناصر العباسي كساها الأسودَ من الحريرِ، واستمرَّ ذلك إلى سنة ثلاث وأربعين وستمائة، فقُطعَتْ كسوتها من ريحٍ شديد، فكُسِيتْ ثياباً سوداً من القطن.
          ولم تزل الملوكُ يتداولون كسوتها إلى أن وقفَ عليها الصالح إسماعيل بن الناصر محمد بن قلاوون سنة ثلاث وأربعين، وقيل: نيف وخمسين وسبعمائة قريةٌ من نواحي القاهرة، يقال لها: بيسوس اشتراها من وكيل بيت المالِ، ثمَّ وقفها كلها على هذه الجهةِ فاستمرَّ، ولم تزل تكسى من هذا الوقف إلى سلطنةِ الملك المؤيد شيخ سلطان العصر، فكساها من عنده سنةً لضعف وقفها، ثمَّ فوَّض أمرها إلى القاضِي زين الدين عبد الباسط، فبالغَ في تحسينها، فجزاهُ الله أفضلَ الجزاء.
          وأوَّل من كساها من ملوك التركِ بعد انقضاءِ الخلافة من بغداد، الظاهر بيبرس الصَّالحي صاحبُ مصر. وذكر بعضهم حكمةً لطيفةً في سوادِ كسوتها فقال: كأنها تشيرُ إلى أنها فقدت أناساً كانوا حولها، فلبست السَّوادَ حزناً عليهم.
          تنبيه: يحتمل _كما قال ابنُ المنير وغيره_ أن يكون مقصودُ المصنِّف بالترجمةِ مع إيراد حديثها: التنبيه على أن كسوةَ الكعبةِ مشروعةٌ لما أنها لم تزل تقصدُ بالمالِ، فيوضع فيها على معنى الزِّينةِ إعظاماً لها، فالكسوةُ كذلك.
          ويحتملُ أنه أشارَ إلى ما في بعضِ طُرق الحديث مما ليس على شرطهِ كعادته، ومنه ما تقدَّم مما رواه أبو عروبة، ويحتملُ أنه أخذه من قولِ عمر الآتي: لا أخرجُ حتى أقسمَ مال الكعبةِ، فإنه يشملُ كسوتها.
          ويحتملُ أنه أخذهُ مما هو معلومٌ أن الملوكَ في كل زمانٍ كانوا يتفاخرونَ بكسوة الكعبةِ برفيع الثياب المنسوجة بالذهبِ وغيره، كما يتفاخرون بتسبيلِ الأموالِ لها، فأرادَ البخاريُّ أن عمرَ لما رأى أن قسمةَ الذهب والفضة صواب كان حكم الكسوةِ حكمَ المال، فتجوزُ قسمتها، بل ما فَضُل منها أولى بالقسمةِ.
          ويحتملُ أن الكعبةَ كانت مكسوَّةً وقت جلوسِ عمر، فحيث لم ينكره وقرَّرها دلَّ على جوازهِ.
          وبهذه الاحتمالات ونحوها يندفعُ قول الإسماعيلي: ليس في حديث الباب لكسوةِ الكعبةِ ذكر، فلا يطابق الترجمة، وسيأتي في شرحِ الحديث لذلك تتمَّةٌ.
          وقد يستدلُّ بهذه الاحتمالات، وبحديثِ الباب _كما قال التَّقي السُّبكي_ على جوازِ تعليقِ قناديل الذَّهب والفضَّةِ في الكعبة؛ أي: وبالأولى الثياب المنسوجةِ منهما كلًّا أو بعضاً، وكذا في نحو مسجدِ المدينةِ والقبر الشَّريفِ ونحو مشاهدِ الصَّالحين.
          وقال السَّبكي: هذا الحديثُ عمدةٌ في مال الكعبةِ، وهو ما يُهدى إليها أو ينذرُ لها، قال: وأما قول الرافعي: لا يجوز تحليةُ الكعبةِ بالذَّهب والفضَّةِ ولا تعليقَ قناديلها فيها: حكي الوجهين في ذلك:
          أحدهما: الجوازُ تعظيماً كما في المصحف.
          والآخر: المنعُ إذ لم ينقل من فعل السَّلف، فهذا مشكلٌ؛ لأن للكعبةِ من التعظيمِ مما ليس لبقيَّةِ المساجد بدليل تجويز سترها بالحريرِ والدَّيباج، وفي جواز سترِ المساجد بذلك خلافٌ، ثم تمسَّكَ للجواز بما وقعَ في أيام الوليد بن عبد الملك من تذهيبهِ سقوفَ المسجد النبوي.
          قال: ولم ينكر ذلك عمر بن عبد العزيز، ولا أزالهُ في خلافتهِ، ثمَّ استدلَّ للجواز: بأن تحريمَ استعمال الذهبِ والفضة إنما هو فيما يتعلَّق بالأواني المعدَّةِ للأكلِ والشُّربِ ونحوهما، قال: وليس في تحليةِ المساجدِ بالقناديل الذَّهبِ شيءٌ من ذلك.
          وقد قالَ الغزاليُّ: من كتب القرآن بالذَّهب فقد أحسنَ، فإنه لم يثبت في الذَّهب إلا تحريمهُ على الأمة فيما ينسب للذَّهب وهذا بخلافه فيبقى على أصلِ الحلِّ ما لم ينتهِ إلى الإسراف، انتهى.
          وتعقِّبَ: بأن تجويزَ سترِ الكعبة بالديباج قامَ الإجماعُ عليه، وأما التحلية بالذَّهب والفضَّة: / فلم ينقل عن فعلِ من يقتدَى به، والوليدُ لا حجَّةَ في فعله، وتركُ عمر بن عبد العزيز النَّكير أو الإزالةَ يحتملُ عدَّة معاني، فلعلَّه كان لا يقدرُ على الإنكارِ خوفاً من سطوةِ الوليد، ولعلَّه لم يزلها؛ لأنه لا يتحصَّلُ منها شيءٌ، ولا سيَّما إن كان الوليدُ جعل في الكعبةِ صفائحَ، فلعلَّه رأى أن تركَها أولى؛ لأنها صارَتْ في حكمِ المالِ الموقوفِ، فكأنها أحفظُ لها من غيرها، وربما أدى قلعهُ إلى إزعاجِ بناء الكعبةِ فتركه، ومع هذه الاحتمالات لا يصلحُ الاستدلالُ بذلك للجوازِ.
          وقوله: إن الحرامَ من الذهب والفضَّةِ إنما هو استعمالهُ في الأكل والشرب... إلخ.
          متعقَّبٌ: بأن استعمالَ كل شيءٍ بحسبه، واستعمالُ قناديل الذَّهبِ هو تعليقها للزِّينةِ، وأما استعمالها للإيقادِ فممكنٌ على بعد، وتمسكه بما قاله الغزالي يشكلُ عليه بأن الغزاليَّ قيَّدهُ ما لم ينتهِ إلى الإسراف، والقنديلُ الواحدُ من الذهب يكتب تحليةَ عدَّةِ مصاحف.
          وقد أنكرَ السبكي على الرافعيِّ تمسكه في المنعِ بكون ذلك لم يُنقل عن السلف، وجوابهُ: أن الرافعي تمسَّكَ بذلك مضموماً إلى شيءٍ آخر، وهو أنه قد صحَّ النهي عن استعمالِ الحرير والذهبِ، فلما استعمل السَّلفُ الحريرَ في الكعبة دون الذَّهب مع عنايتهم بها وتعظيمها، دلَّ على أنه بقيَ عندهم على عمومِ النهي، وقد نقلَ الشيخ الموفق الإجماعَ على تحريم استعمالِ أواني الذهب والقناديل من الأواني بلا شكٍّ، واستعمالُ كلِّ شيءٍ بحسبهِ، قاله في ((الفتح)).
          فالمعتمدُ: حرمةُ تعليق القناديلِ من الذَّهب والفضَّةِ، وكذا سترها بشيءٍ منسوج بهما أو بأحدهما.