الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي}

          ░102▒ (بَابٌ): بالتنوين ({فَمَنْ تَمَتَّعَ}): وفي بعض الأصولِ الصحيحة: <باب قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ}> ({بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} إِلَى قَولِهِ: {حَاضِرِي المَسْجِدِ الحَرَامِ} [البقرة:196]): هكذا رواية أبوي ذرٍّ والوقت، ووقع لكريمةَ ذكر ما بين (({الهَدْيِ})) و(({حَاضِرِي المَسْجِدِ الحَرَامِ})) فلذا نتكلَّمُ على الجميع.
          قال في ((الفتح)): وغرضُ المصنِّف من الترجمة: تفسيرُ الهدي، وذلك أنه لما انتهَى في صفة الحجِّ إلى الوصُول إلى مِنى أراد أنْ يذكرَ أحكامَ الهديِ والنَّحر؛ لأنَّ ذلك يكون غالباً بمنى. انتهى.
          واعترضهُ العيني: بأنه لا وجهَ لحصره الغرض فيما ذكره، بل ذكر الآيةَ لاشتمَالها على مسائلَ هي حكمُ الهديِ والمتعة والصَّوم. انتهى ملخَّصاً.
          والآيةُ في سورة البقرةِ فقوله تعالى: (({فَمَنْ تَمَتَّعَ})) مَنْ: شرطيةٌ أو موصولةٌ، والفاء في جواب {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} [البقرة:196] أي: فمن استمتع وانتفعَ بالتَّقرُّب إلى الله تعالى بالعمرة قبل الانتفاعِ بتقرُّبه بالحجِّ في أشهره، وقيل: فمَنْ استمتع بعد التَّحلُّل مِن عمرته باستباحةِ محظوراتِ الإحرام إلى أنْ يحرمَ بالحج (({فَمَا اسْتَيْسَرَ})) أي: تيسَّرَ له، ما خبرٌ لمبتدأٍ محذوف (({مِنَ الهَدْي})) يعني: فعليه دمٌ استيسره بسبب التَّمتُّع، وهو دمُ جبرانٍ، يجوز ذبحُهُ إذا أحرم بالحجِّ ولا يأكلُ منه، وعند أبي حنيفةَ: دمُ نسكٍ كالأضحية فلا يجوز ذبحُهُ قبل يوم النحر عنده كمالكٍ وأحمدَ.
          واختلفَ العلماء في المراد مِن الهديِ في الآية: فعند مالكٍ وجمهور العلماء: شاة؛ أي: أو غيرها مما يجزئ في الأضحيةِ، ورواه في ((الموطأ)) عن عليٍّ وابن عبَّاسٍ، وذهبت طائفةٌ إلى أنه خاصٌّ بالإبل والبقر، وهو مرويٌّ عن ابن عمرَ وعائشةَ وابنِ الزبير، فيحرمُ عندهم _وقيل: يكره_ إخراجُ الشَّاةِ عند وجودِ الإبل والبقر.
          وروي أيضاً عن ابن عبَّاس: أنَّ ما استيسرَ مِن الهديِ في حقِّ الغنيِّ: بدنة، وفي حقِّ الفقير: شاةٌ، وفي غيرهما: بقرةٌ، لكن لا تجزئ البدنةُ أو البقرةُ عن أكثر من سبعةٍ، ولا الشَّاةُ عن أكثر من واحدٍ، وهذا مذهبُ جمهور العلماءِ، منهم الأئمَّةُ الأربعة، وروي عن ابن عبَّاسٍ أنه قال: ما كنتُ أدري أنَّ دماً واحداً يجزئ عن أكثرِ من واحد.
          وعند المالكيَّة: تجوز البدنةُ أو البقرة عن أكثرِ من سبعةٍ إذا كانت ملكاً لواحدٍ وضحى بها عن نفسه وأهله بخلافِ الهدي، فإنه لا يجوزُ عن أكثر من سبعةٍ، وعن ابن القاسم: لا يشتركُ في هديٍ واجبٍ أو تطوُّعٍ.
          وقال في ((الفتح)): واتَّفقَ مَن قال بالاشتراكِ على أنه لا يكون في أكثرِ من سبعةٍ، إلا إحدى الروايتين عن سعيدِ بن المسيب فقال: تجزئُ عن عشرة، وبه قال ابنُ راهويه وابن خُزيمة، ويجوزُ الاشتراك في الدَّمِ، أشارَ إلى جميع ذلك ابنُ بطَّالٍ، وكذا العيني مع الاستدلال.
          تنبيه: المرادُ كما في ((الفتح)) بقوله تعالى: (({فَمَنْ تَمَتَّعَ})) أي: في حالِ الأمنِ، لقوله تعالى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ}، وفيه دليلٌ للجمهور أنَّ التَّمتُّع لا يختصُّ بالمحصَر، وقال عروةُ بن الزبير: المرادُ فإذا أمنتُم؛ أي: من الوجعِ ونحوه، وقال الطَّبري: / الأشبهُ بتأويلِ الآية أنَّ المرادَ بها: الأمنُ من الخوفِ؛ لأنها نزلَتْ وهم خائفونَ بالحديبية، فبيَّنَتْ لهم ما يعملونَ حالَ الحصْرِ وحال الأمن.
          وقال في ((الكشاف)): {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} أي: من الإحصَارِ، قال: يعني: فإذا لم تحصروا وكنتم في حالِ أمنٍ وسعةٍ {فَمَنْ تَمَتَّعَ}...إلخ.
          وقوله: (({فَمَنْ لَمْ يَجِدْ})) أي: الهديَ، الفاء فيه فصيحةٌ (({فَصِيَامُ})) أي: فعليه صيامُ، وقرئ بنصب ▬صيام↨ على تقديرِ فليصم (({ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحَجِّ})) أي: في أيَّامِ الاشتغال بالحجِّ بعد الإحرام وقبل التَّحلُّل، متفرِّقةً أو متتابعةً، وأما قراءة أبي: ▬فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ↨ فمحمولةٌ على الأفضلِ.
          والأفضلُ: أنْ يصومَ سادسَ ذي الحجة وسابعَهُ وثامنه لا تاسعَهُ؛ لأنَّ فطرَهُ للحاج سنَّةٌ عندنا، ولا يجوز صومُها يوم النَّحر وفي الثلاثة بعده، وإنْ أخَّرَ صومها إليها قضَاها بعدها عندنا، لكنْ يفرَّقُ في قضَائها بينها وبين السَّبعةِ أيَّامٍ بأربعة أيامٍ نظير يوم العيدِ وأيام التَّشريقِ، وبمدَّةِ سيرهِ على العادةِ إلى وطنهِ.
          وقال مالكٌ: يجوز صومُها في هذه الأيام، ففي ((شرح الموطأ)) للإشبيلي: ووقتُ هذا الصوم من حين يحرمُ بالحجِّ إلى آخر أيَّام التَّشريق. انتهى.
          وهو قولٌ ضعيفٌ للشَّافعي.
          وقال أبو حنيفةَ: المرادُ بقوله: {فِيْ الحَجِّ} أي: في أشهره.
          قال في ((الكشاف)): {فِيْ الحَجِّ} أي: في وقته، وهو أشهرهُ ما بين الإحرامين: إحرامُ العمرة وإحرام الحجِّ، وهو مذهبُ أبي حَنيفةَ، والأفضلُ: أن يصومَ يوم التَّروية وعرفةَ ويوماً قبلهما، وإنْ مضى هذا الوقت لم يجزئْه إلا الدَّم. انتهى.
          (({وَسَبْعَةٍ})) أي: وصيام سبعة أيَّامٍ (({إِذَا رَجَعْتُم}))أي: إلى أهليكم أو ما تريدونَ توطُّنهُ بعد الفراغِ من أعمال الحجِّ، وهو الأظهرُ عند الشَّافعية، وقيل: المرادُ: إذا فرغتُم من أعمال الحجِّ ولو قبل رجوعِكُم إلى أوطانكُم، وهو مذهبُ أبي حنيفةَ ومالكٍ وأحمدَ والقول الثاني للشَّافعيِّ، فعلى الأظهر عنده: لا يصحُّ صومها قبل وصولهِ لوطنه، أو ما يريدُ استيطانهُ، ولا آخرَ لوقتها، ولا يجبُ فيها تتابعٌ، لكنه أفضلُ خروجاً من خلافِ من أوجبه.
          تنبيه: قال في ((الكشاف)): وقرأ ابنُ أبي عبلةَ: ▬وَسَبْعَةً↨ بالنصب عطفاً على محلِّ: {ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ}.
          وأجازَ أبو حيَّان نصبَه بفعلٍ مقدرٍ؛ أي: فصُوموا سبعةً، ويجوز جعلُه مفعولاً معه، فافهم.
          (({تِلْكَ})) أي: الثلاثة والسَّبعة (({عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ})) مثلُ هذا يسمَّى فذلكةُ الحساب، وفائدتها: ألا يتوهَّمَ أنَّ الواو بمعنى أو، كقولك: جالس الحسنَ أو ابنَ سيرين، وأنْ يعلمَ العدد جملةً كما عُلم تفصيلاً، فإنَّ أكثرَ العربِ لا يحسبون الحسابَ، ولئلا يتوهَّم أنَّ المرادَ بالسَّبعةِ: العددُ الكثير، فإنَّهُ قد يطلقُ على ذلك، وقوله: (({كَامِلَةٌ})) صفةٌ مؤكدةٌ تفيدُ المبالغة في محافظةِ العدد، أو مبيِّنة كمالَ العشرة، فإنها أولُ عددٍ كاملٍ، إذ به تنتهِي الآحاد.
          قال في ((الكشاف)): {كَامِلَةٌ} تأكيد آخر، وفيه زيادةُ توصيةٍ بصيامها، وألَّا يتهاونَ بها ولا ينقصَ من عددها كما تقولُ للرجل إذا كان لك اهتمامٌ بأمرٍ تأمرهُ به، وكان منك بمنزلٍ: اللهَ اللهَ لا تقصر، وقيل: كاملة في وقوعها بدلاً من الهدي. انتهى.
          أي: فالصِّفةُ على هذا القيل مقيَّدةٌ تفيدُ كمال بدليتها من الهديِ.
          (({ذَلِكَ})) إشارةٌ إلى الحكمِ المذكور، وهو وجوبُ الهديِ أو الصيام عندنا، وإلى التَّمتُّعِ عند أبي حنيفةَ، إذ لا متعةَ ولا قرانَ لحاضري المسجد عنده، فمَنْ فعل ذلك منهم فعليه دمُ جنايةٍ لا يأكلُ منه.
          (({لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ})) ({حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:196]) (({حَاضِرِي})): جمعُ حاضرٍ، خبر يكون وحذفت نونه للإضافة؛ أي: وهو مَن كان مِن الحرم على مسافة القصر فأكثر عندنا، لا مِن مكَّةَ على الأصحِّ، فإنْ كان على أقل منها فهو مِن حاضري المسجدِ الحرام وأهله عندنا.
          وأما عند أبي حنيفةَ فقال في ((الكشاف)): حاضروا المسجدِ الحرام عنده وعند أهلِ الحرم: أهلُ المواقيت فمن دونها إلى مكَّة.
          وقال البيضاوي: ومَن مسكنُه وراء الميقاتِ عنده، وأهلُ الحلِّ عند طاوسٍ، وغيرُ المكِّي عند مالكٍ.
          تنبيه: قال العيني: فإنْ قلتَ: المتعةُ في الآية للمحصرين بالحجِّ، ولم يذكرْ معهم مَن لم يُحصرْ فكيف أبحتموها لهم؟
          قلتُ: في الآية ما يدلُّ على أنَّ غيرَ المحصرين قد دخلوا فيها بما قدروا عليهِ من قوله: {وَلَا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ} الآية، فلم يختلف أهلُ العلمِ في المحرم بالحجِّ والعمرة، فمَن لم يحصرْ أنه إذا أصابهُ أذى في رأسه أو مرضٌ أنه يحلق، وأنَّ عليه الفديةَ المذكورة في الآية التي تليها، وأنَّ القصدَ بها إلى أنَّالمحصرَ لا يمنعُ أن يكونَ غيره فيه كهو، بل هو أولى. انتهى.