الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب من أشعر وقلد بذي الحليفة ثم أحرم

          ░106▒ (بابُ مَنْ أَشْعَرَ وَقَلَّدَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ) هو ميقاتُ أهل المدينة بقربها (ثُمَّ أَحْرَمَ) أي: بعد الإشعارِ والتَّقليدِ، وكلٌّ من الإشعارِ والتَّقليدِ سنَّةٌ كالهدي، وفائدةُ ذلك لسوق هديِ البَدَنة أنَّها هديٌ إذا ضلَّت، وتتميَّزُ عن غيرها إذا اختلطت، فلذا جاز مع أنه تعذيبٌ، فافهم.
          قال ابن بطَّالٍ: غرضُ البخاريِّ أنْ يبيِّنَ أنَّ المستحبَّ ألا يشعرَ المحرمُ ولا يقلِّدَ إلا في ميقات بلده.
          وقال في ((الفتح)): والذي يظهرُ أنَّ غرضَهُ الإشارةُ إلى ردِّ قول مجاهدٍ لا يشعر حتى يحرمَ، وذلك لقولهِ في حديث المسور: ((حتَّى إذا كَانُوا بذِي الحليفَةِ قلَّدَ الهديَ وأحرَمَ)) فإنَّ ظاهرَهُ البداءةُ بالتَّقليد.
          وفي حديثِ عائشةَ: ((ثمَّ قلَّدَها وأشعَرَها، وما حرُمَ عليه شيءٌ)) فإنه يدلُّ على أنَّ تقدُّمَ الإحرامِ ليس شرطاً في صحَّة التَّقليد والإشعار، وأَبيَنُ من ذلك ما أخرجَه مسلمٌ عن ابن عبَّاسٍ قال: ((صلَّى النَّبيُّ صلعم: الظُّهرَ بذي الحليفة، ثم دعا بناقتهِ فأشعرها في سنامها الأَيمنِ وسلتَ الدَّمَ وقلَّدها نعلين، ثمَّ ركب راحلتَهُ فلمَّا استوتْ به على البيدَاءِ أهلَّ بالحجِّ)). انتهى ملخَّصاً.
          وأقول: يحتملُ أنَّ غرضَهُ الإشارةُ إلى الأمرين.
          (وَقَالَ نَافِعٌ) أي: مولى ابن عُمر مما وصله مالكٌ في ((الموطَّأِ)) لكن فيه بعضُ مغايرةٍ كما يأتي قريباً (كَانَ ابْنُ عُمَرَ) ☻ (إِذَا أَهْدَى / مِنَ الْمَدِينَةِ قَلَّدَهُ) بتشديد اللام؛ أي: قلَّدَ الهديَ بأنْ يعلِّقَ في عنقهِ نعلين من النِّعالِ العربية.
          (وَأَشْعَرَهُ) من الإشعارِ _بالشين المعجمة_ وهو لغةً: الإعلامُ، وشرعاً: ما ذكرهُ في قوله: (يَطْعُنُ) بضمِّ العين وفتحها.
          ففي ((القاموس)): طعنَهُ بالرُّمحِ؛ أي: ونحوه كمنعَهُ ونصره طعناً ضربه فهو مطعونٌ وطعين، والجمعُ طُعُن: بالضم، وطعن فيه بالقولِ طعناً وطعناناً، وفي المفَازةِ: ذهب والليل سارَ فيه كلُّه. انتهى.
          وطَعَنَاناً: بفتحاتٍ ونونين بينهما ألفٌ.
          وزاد في ((الصحاح)): طعن في السنِّ يطعُنُ بالضم طعناً، والمطعانُ والمطْعَنُ كمنبر، كالمِطعان الرَّجلُ الكثير الطَّعنِ للعدوِّ، وفي الحديثِ: ((لا يكُونُ المؤمِنُ طعَّاناً)) أي: يضرب.
          (فِي شِقِّ) بكسر الشين المعجمة، النِّصف والناحية؛ أي: في ناحيةِ (سَنَامِهِ) بفتح السين المهملة؛ أي: في سنامِ الهدْيِ (الأَيْمَنِ) بفتح الهمزة نعتٌ لـ((شِقِّ)) (بِالشَّفْرَةِ) بفتح الشين المعجمة وسكون الفاء.
          قال في ((الصحاح)): السِّكِّينُ العظيمُ، وفي الحديث المثل: ((أصغَرُ القَومِ شفرَتُهم)) أي: خادمهم. انتهى.
          والمرادُ: يكشطُ جلد البَدَنة حتى يظهرَ الدَّم ويلطخ.
          (وَوَجْهُهَا) مبتدأٌ وخبرُه (قِبَلَ الْقِبْلَةِ) بكسر القاف (بَارِكَةً) أي: حال كونها باركةً، وفي بعض الأصول: بتشديد الجيم فعلٌ ماضٍ، وعليها فالجملة حالٌ؛ أي: أشعرَ البدنة، والحالُ أنَّ وجهَها إلى جهة القبلةِ في حالتي تقليدها وإشعارها.
          وفي ((الموطأ)): عن نافعٍ، عن عبد الله بن عمرَ: كانَ إذا أهدَى هدياً من المدينةِ قلَّدهُ بذِي الحليفة قبلَ أنْ يُشعرَهُ، وذلك في مكانٍ واحدٍ وهو متوجِّهٌ إلى القبلةِ يقلِّده بنعلين ويشعرهُ من الشقِّ الأيسر، ثم يُسَاقُ معه حتى يوقَفَ به مع الناس بعرفَةَ، ثم يدفعُ به، فإذا قدم غدَاةَ النَّحرِ نحرهُ.
          وأخرجَ البيهقيُّ من طريقِ ابن جُريج، عن نافع: أن ابن عُمر كان لا يُبالي أيَّ الشِّقَّين أشعر، قال: وإنما يقولُ الشَّافعي بما وردَ عن النَّبي؛ أي: من حديثِ ابن عبَّاس عند مسلمٍ أنه عليه السَّلام أشعر في الشَّقِّ الأيمن.
          وأخرجَ البيهقيُّ أيضاً من طريق ابن وهبٍ عن نافعٍ: أنَّ ابنَ عُمرَ كان يشعرُ بدنه من الشقِّ الأيسرِ إلا أن يكونَ صعاباً، فإذا لم يستطعْ أن يدخلَ بينها أشعرَ من الشَّقِّ الأيمن، وإذا أرادَ أن يشعرَها وجَّهها إلى القبلةِ. انتهى.
          أي: وكان يقولُ عند طعنهِ في سنامها: ((بسمِ الله واللهُ أكبر)) كما في ((الفتح)) وبهذا تبيَّنَ أنَّ الغالبَ من فعلِ ابن عُمر إشعارُها من الأيسر، وهو مذهبُ مالكٍ، وروايةٌ عن أحمد، والأفضلُ عند الشَّافعي والجمهور وصَاحبي أبي حنيفة إشعارُها في اليمين، وكذا أحمد في روايةٍ.
          وفي ((شرح الموطأ)) للإشبيلي: وجائزٌ الإشعارُ في الجانب الأيمن، وفي الجانب الأيسر، وكان ابن عُمر ربما فعل هذا وربما فعل هذا، وأكثرُ أهل العلم يستحبُّونه في الجانبِ الأيمن، منهم الشَّافعي وإسحاقُ؛ لحديثِ ابن عبَّاسٍ بذلك.
          تنبيه: الإشعارُ كالتَّقليد سنةٌ، وإليه ذهبَ جمهورُ العلماءِ كما مرَّ، وفي ((مصنَّف ابن أبي شيبة)) بأسانيد عن عائشةَ وابنِ عبَّاس: إنْ شئتَ فأشعِرْ وإن شئتَ فلا، وظاهرهُ أنه ليس بسنَّةٍ، لكنه غيرُ مكروهٍ، ولعلَّ مرادهما أنه ليس بواجبٍ، وإلا فقد تقدَّم أنَّ ابنَ عبَّاس روى أنَّ النَّبيَّ صلعم فعله، فتدبَّر.
          والمشهورُ عن أبي حنيفةَ أنه مكروهٌ، لكنْ ذكر الكرماني صاحبُ المناسكِ عنه استحسانه قال: وهو الأصحُّ لاسيَّما إذا كان بمبضعٍ ونحوه، فيصيرُ كالفصدِ أو الحجَامةِ، قاله العيني.
          وذكر قبلهُ أنَّ ابنَ حزمٍ قال في ((المحلَّى)): قال أبو حنيفة: أكرهُ الإشعارَ وهو مثلةٌ، وقال: هذه طامَّةٌ من طوامِّ العالمِ أن يكونَ شيءٌ فعله رسولُ الله صلعم مثلة، أفٍّ لكلِّ عقلٍ يتعقَّب حكمَ رسولِ الله ويلزمه أن تكونَ الحجامةُ والفصدُ مثلةً فيمنعُ من ذلك.
          قال: وهذه مقالةٌ لأبي حنيفةَ لا نعلم له فيها متقدماً من السَّلف، ولا مُوافقاً من فقهاءِ عصره إلا من ابتلاهُ الله بتقليدهِ. انتهى.
          ولقد بالغَ ابنُ حزمٍ في التَّشنيعِ بما لا يليقُ من الكاملِ الرفيع، وإنْ سبقهُ إليه بعضُ المتقدِّمين، ومن ثم ردَّ عليهم الطَّحَاوي والعيني وغيرهما.
          أما الطَّحاوي فقال: لم يكرَه أبو حنيفة أصلَ الإشعارِ، وإنما كرهَهُ على وجهٍ يخافُ منه الهلاك، لسراية الجرحِ فأراد سدَّ الباب عن العامَّةِ؛ لأنهم لا يراعون الحدَّ في ذلك، وأما مَن كان عارفاً بالسُّنَّة فلا.
          قال في ((الفتح)) عقبَه: وفي هذا تعقُّبٌ على الخطَّابي حيث قال: لا أعلمُ أحداً كرهَ الإشعارَ إلا أبا حنيفةَ، وخالفهُ صاحبَاه فقالا بقولِ الجمَاعة، ونروي عن إبراهيم النَّخعي أنه كرهَ أيضاً الإشعار، / وقال لرجلٍ سأله عنه أنه مثلةٌ فذكرهُ الرجل لوكيع فقال له وكيعٌ: أقول لك أشعرَ رسول الله، وتقول: قال إبراهيم ما أحقك أن تُحبسَ.
          ثم قال: وفيه تعقُّبٌ على ابن حزمٍ في زعمه أنه ليس لأبي حنيفة في ذلك سلفٌ، قال: وقد بالغ ابنُ حزمٍ في هذا الموضع، ويتعيَّنُ الرجوع إلى ما قاله الطَّحَاوي فإنه أعلمُ من غيره بأقوال أصحابهِ. انتهى ملخصاً.
          وقال العينيُّ في الرَّدِّ على ابنِ حزمٍ منتصراً لأبي حنيفةَ، قلت: هذا سفاهةٌ وقلَّةُ حياءٍ؛ لأنَّ الطَّحَاويَ الذي هو أعلمُ الناس بمذاهب الفقهاء، ولاسيَّما بمذهب أبي حَنيفةَ ذكرَ أنَّ أبا حنيفةَ لم يكرهْ أصلَ الإشعارِ ولا كونه سُنَّة، وإنما كرهَ ما يفعل على وجهٍ يخاف منه هلاكها لسرَايةِ الجرح إلى آخر ما أطالَ به فراجعه وحاصلُ الاحتجَاجِ لأبي حنيفةَ على فرضِ كراهته له بأنه مثلةٌ، وهي منهيٌّ عنها وعن تعذيبِ الحيوان.
          وأجيب: بأنَّ أخبارَ النَّهيِ عن المثلةِ عامَّةٌ وأخبارَ الإشعَارِ خاصَّةٌ فقُدِّمتْ.
          وقال الخطَّابي: أشعر النَّبيُّ بَدنةً آخر حياته، ونهيه عن المثلة كان أوَّل مقدمهِ المدينة مع أنه ليس من المثلةِ، بل هو من بابٍ آخر؛ أي: كالختان والفصْد والوشم، ليكون علامةً، وبهذا يبطلُ القولُ باحتمالِ أنَّ الإشعارَ منسُوخٌ، فإن النَّسخَ لا يُصارُ إليه بالاحتمَالِ، قاله في ((الفتح)).
          واتَّفقَ كما في ((الفتح)) مَن قال بالإشعارِ على إلحاقِ البقر في ذلك بالإبلِ إلا سعيد بن جُبير، واتَّفقوا على أنَّ الغنمَ لا تُشعَرُ لضعفِهَا، ولكون شعْرِها أو صُوفها يسترُ موضِعَ الإشعار.
          وزاد مالكٌ على ما نقلَ عنه الطَّحَاوي في التَّعليل، ولكونها ليست ذاتَ سنامٍ، وموضِعُ المطابقة للتَّرجمةِ ظاهرٌ.