الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب التمتع والإقران والإفراد بالحج

          ░34▒ (بَابُ التَّمَتُّعِ والإِقْرَانِ وَالإِفْرَادِ بِالحَجِّ، وَفَسْخِ الْحَجِّ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ): قد اشتملت هذه التَّرجمةُ على أربعةِ أشياء:
          أحدها: التَّمتُّع: وهو الأفضلُ عند الحنابلة، ولعله مذهب المصنف، فتأمَّل، وهو في الأصل مصدر تمتعت بالشيء استمتعتُ به، والاسمُ / منه: المتعة، والتَّمتُّعُ في الشَّرعِ: أن يُحرِم الشَّخصُ بالعمرةِ في أشهر الحجِّ من ميقات بلده فيفرغَ منها، ثم ينشئ حجًّا من مكَّة من عامها ولم يعد لميقاتٍ، وسمي تمتُّعاً لتمتُّعِ صاحبهِ بمحظوراتِ الإحرام بين الحجِّ والعمرة.
          وخرجَ بالقيودِ المذكورة ما لو أحرمَ بالحجِّ أولاً لقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة:196]، وما لو أحرمَ بالعمرةِ في غير أشهرِ الحجِّ وإن وقعَ أعمالها في أشهره؛ لأنه لم يجمعْ بينهما في وقت الحجِّ، فأشبه المفرد، وما لو أحرمَ في أشهر الحجِّ من الحرم أو من دون مسافةِ القصرِ؛ لأنه من حاضِري المسجدِ الحرام، وقد قال تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:196] وما لو أحرمَ بها من مسافة القصْر فأكثر من الحرم ولم يحجَّ من عامها، أو حجَّ من عامها وعاد قبل إحرامهِ به أو بعدَه، وقبل التلبُّس بنسكٍ إلى ميقات أو مثله مسافة، ولو أقرب مما أحرمَ به بالعمرةِ.
          وهذه القيودُ المذكورة إنما هي قيودٌ للتمتُّع الموجب الدم لا في صدق اسم التَّمتُّع؛ خلافاً لمن جعلها شروطاً للتَّسمية أيضاً.
          وقال في ((الفتح)): أما التمتُّعُ فالمعروفُ أنه الاعتمارٌ في أشهر الحجِّ، ثم التحلل من تلك العمرةِ والإهلال بالحج في تلك السنة، ويطلق التَّمتُّع في عرف السلف على القرانِ أيضاً، فقد قال ابنُ عبد البر: ومن التمتع أيضاً القران؛ لأنه تمتَّع بسقوط سفرٍ للنسك الآخر من بلدِهِ، ومن التمتع أيضاً فسخ الحجِّ إلى العمرة، انتهى باختصار.
          ثانيها: الإقرانُ: وهو الأفضلُ عند الحنفية؛ أي: بأن يجمعَ بينهما في إحرامٍ واحدٍ، فتندرجَ أفعالُ العمرة في أفعالِ الحجِّ، أو يحرم بالعمرةِ ثمَّ يُدخِل عليها الحجَّ قبل أن يُشرِع في الطواف، فلو أحرمَ بالحجِّ أولاً ثمَّ أدخل عليه العمرة لم يصح على أصحِّ قولي الشافعي؛ لأنه لا يستفيدُ به شيئاً؛ بخلاف إدخالهِ الحجَّ على العمرة؛ فإنه يستفيدُ به الرمي والوقوف والمبيت؛ ولأنه يمتنعُ إدخال الضَّعيف على القويِّ.
          نعم صحح الإمام البُلقيني في ((التدريب)) القولَ الآخر وجعله من نوعي القِران، فقال: والمختارُ جوازه لصحَّةِ ذلك من فعله صلعم، وقد قال: ((خُذُوا عنِّي مناسِكَكُم))، قال: ثمَّ يمتدُّ الجواز ما لم يشرعْ في طوافِ القدومِ على الأرجحِ، انتهى.
          وقوله: ((والإِقْران)): كذا في رواية أبي ذرٍّ بالهمزة المكسورة قبل القاف الساكنة.
          قال القاضِي عياض: وهو خطأٌ من حيث اللغة.
          وقال السَّفاقسي: ((الإقران)): غير ظاهرٍ؛ لأن فعله ثلاثي، وصوابُه: قرن، ومضارعه بكسر الراء.
          قال في ((التنقيح)): والذي في ((المحكم)) و((الصحاح)) وغيرهما: بالضم، وقال فيه أيضاً: لم يسمع في الحجِّ: أقرن، وله قرن في المصدر منه، وإنما هو قران مصدر قرنَ بين الحجِّ والعمرة إذا جمعَ بينهما.
          قال في ((المصابيح)): أراد تخطئةَ البخاريِّ لقصد المشاكلة بين ((الإقران)) و((الإفراد)) نحو: ((ارجعْنَ مأزوراتٍ غيرَ مأجوراتٍ))، انتهى فتأمَّل.
          ولأبي الوقت: <والقران>.
          ثالثها: الإفرادُ بالحجِّ: وهو الأفضلُ عند الشافعيَّةِ والمالكيَّةِ بأن يحجَّ ثم يعتمر، أو يحرمَ بعمرةٍ في غير أشهر الحجِّ، أو فيها على دون مسافةِ القصر من الحرمِ، أو على مسافتهِ منه ولم يحجَّ عام العمرةِ أو يحجَّ عامها ويعودَ إلى ميقاتٍ، نعم ما سوى الأولى تمتُّعٌ لكن لا يوجبُ دماً.
          رابعها: ((فسخ الحج)) بالجرِّ عطف على ما قبله إلى العمرة؛ أي: قلبهُ عمرةً بأن يحرم به ثم يتحلَّل منه بعمل عمرةٍ فيصيرُ متمتِّعاً ((لمن لم يكن معه هدي)) وجوازُ فسخهِ إليها عامٌّ عند طائفةٍ من أهل الظَّاهر.
          وقال مالك والشَّافعي وأبو حنيفة وجماهيرُ العلماء من السَّلفِ والخلف: إنَّهُ خاصٌّ بالصَّحابةِ وبتلك السَّنَة ليخالفوا ما كانت عليه الجاهليَّة من تحريم العمرةِ في أشهر الحج، واعتقادهِم أن إيقاعها فيه من أفجرِ الفجورِ، ودليلُ التَّخصيصِ حديثُ الحارث بن بلال عن أبيه المروي عند أبي داود والنَّسائي وابن ماجه قال: قلت يا رسول الله! أرأيتَ فسخَ الحجِّ إلى العمرة لنا خاصَّةً أم للنَّاس عامَّةً؟ فقال: ((بَل لكُمْ خاصَّةً)).
          وأجابَ القائلون بالأول: بأن حديث الحارث بن بلال ضعيفٌ؛ فإن الدَّارقطني قال: تفرد به عبدُ العزيز بن محمد الدَّراوردي.
          وقال أحمد: لا يثبت، ولا يصحُّ حديثٌ في الفسخِ أنه كان لهم خاصَّةً، وسيأتي في البخاري أنه قال: شهدتُ عثمان وعليًّا، وعثمان ينهى عن المتعة، يعني: عن فسخ الحجِّ إلى العمرة؛ لأنَّهُ كان مخصوصاً بتلك السَّنَة.
          وقال أحمد مرَّةً: حديث بلالٍ لا أقولُ به، لا نعرف هذا الرَّجلُ ولم يروهِ الدَّراوردي، وأما الفسخ فرواهُ أحد وعشرون صحابياً، وأين يقعُ بلال بن الحارث منهم؟
          وأجابَ النووي: بأنه لا معارضةَ بينه وبينهم حتى يرجِّح؛ لأنهم أثبتوا الفسخَ للصَّحابة والحارث يوافقهم وزادَ زيادةً لا تخالفهم / .