الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: {وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت}

          ░123▒ (باب: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ}) أي: واذكر وقتَ إذْ جعلنا لإبراهيم ({مَكَانَ الْبَيْتِ}) أي: موضع الكعبةِ مباءةً يرجع إليه للعبادةِ والعمارة، ولامُ (({لإِبْرَاهِيْمَ})) صلةٌ لقوله تعالى: {لَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [يونس:93] وقيل: ليست بزائدةٍ؛ لأن المعنى: واذكر إذ بيَّنَّا مكانَ البيت وجعلناهُ لإبراهيم مباءةً، وقال: مكان البيت لأنَّ البيتَ لم يكنْ حينئذٍ موجُوداً لرفعهِ إلى السَّماء، أو اندراسهِ أيَّام الطُّوفان فأعلمهُ الله مكانهُ بريحٍ أرسلها فكشفت ما حولهُ فبنَاه على بنائهِ القديم.
          وقال ابن بطَّالٍ: روى معمر عن قتادة قال: ((وضعَ اللهُ البيتَ مع آدمَ حين أُهبِط إلى الأرضِ وكان مهبطُهُ بأرض الهند، ففقد أصوات الملائكةِ وتسبيحهم، فشَكا ذلك إلى الله فقال له: يا آدمُ أهبطتُ لك شيئاً يُطافُ به كما يُطافُ حولَ عرشي، ويُصلَّى عندهُ كما يُصلَّى حول عرشِي، فانطلقَ إليه، فخرجَ ومدَّ له في خطوهِ فكان بين كلِّ خطوتين مَفازة ليسلك مَفازة، وأتى آدمُ البيت فطافَ به ومن بعدهُ، ثمَّ بوأ الله مكانهُ لإبراهيم بعد الغرقِ)) انتهى.
          ({أَنْ لاَ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً}) (({أَنْ})) مفسرة أو مصدرية مخففة من الثَّقلية أو غير مخففة، وعليهما فـ(({تُشْرِكْ})) مجزوم بـ(({لَا})) الناهية، وقيل: مصدريةٌ غيرُ مخففةٍ من الثَّقلية على تقدير: وأمرناهُ أنْ لا يشركَ.
          واستشكلَ كونَ أن تفسيرية؛ لأنَّه لا يصحُّ تفسير التَّبوئة بالنَّهي عن الإشراكِ وتطهيرِ البيت.
          وأُجيب: بأنَّ المقصُودَ من التَّبوئةِ هو العبادةُ، فكأنه قيل: تعبُّدُنا لإبراهيمَ هو أن لا تُشركَ بي شيئاً، وقرئ: ▬أن لا يشرك↨ بياء الغيبة.
          ({وَطَهِّرْ بَيْتِيَ}) أي: الكعبةَ من الإشرَاك برفع الأصنَام والأوثان منها، وقرأ نافعٌ وحفص وهشام: بفتح الياء ({لِلطَّائِفِينَ}) أي: حولهُ وأقلُّه سبعُ مراتٍ ({وَالْقَائِمِينَ}) أي: المقيمينَ هناك ({وَالرُّكَّعِ}) بتشديد الكاف، جمع: راكع ({السُّجُودِ}) جمع: ساجدٍ، نعتٌ للركَّع، ولم يذكر الواو بين الركع السُّجود لكمَال الاتِّصالِ بين الركوعِ والسُّجود لعدم انفَكاكِ أحدهما عن الآخرِ في الصَّلاة، وينفكُّ الطوافُ عن الصَّلاة، وكذا القيامُ عن الركوعِ، / فليس بينهما كمَالُ اتصَالٍ.
          وقيل: المرادُ بـ{القَائِمِيْنَ} المعتكفون بمشَاهدةِ الكعبة، وبـ{الرُّكَّعِ السُّجُودِ} المصلُّون، وعبَّر عن الصلاة بأركانها.
          قال البيضَاوي: لعله للدَّلالة على أنَّ كلَّ واحدٍ منهما مستقلٌّ باقتضَاء ذلك، كيف وقد اجتمعت ({وَأَذِّنْ}) بكسر الذال المعجمة؛ أي: نادِ ({فِي النَّاسِ}) وقرئ: ▬وآذِن↨ بمدِّ الهمزة وكسر الذال مخففة؛ أي: ادعُهُم له، روي أنه صعدَ أبا قبيس، وقيل: على مقامهِ، وقيل: على الحجر، وقيل: على الصَّفا فقال: ((يا أَيُّها الناس حجُّوا بيتَ ربِّكُم)) وقيل: إنه قال: ((إنَّ ربَّكُم اتَّخذَ بيتاً فحُجُّوهُ فأسمعهُ الله مَن في أصْلابِ الرِّجالِ، وأرحام النِّساءِ فيما بين المشرقِ والمغربِ ممَّن سبقَ في علمِ الله أنه يحجُّ)).
          وقال القسطلاني: فأجابه كل ملبي من شجرٍ وحجر ومَن كتبَ له الحجُّ إلى يوم القيامة. انتهى.
          وليتأمَّل ما حكمةُ إجابة الشَّجر والحجر إنْ ثبتَ.
          قيل: إنَّ إبراهيمَ عليه السلام لما أمرهُ الله بالنِّداءَ قال: يا ربِّ وما يبلُغُ صَوتي، قال: عليكَ الأذانُ وعليَّ البلاغ وقيل: الخطابُ في أذَّن لرسُولِ الله صلعم وكان ذلك في حجَّة الوداع.
          ({يَأْتُوْكَ}) مجزومٌ بحذف النون في جوابِ الأمر؛ أي: الناسُ، والجملةُ حالٌ من الناس ({رِجَالاً}) أي: مشاة، جمع: راجل، حال مترادفةٌ أو متداخلةٌ، وقرئ: ▬رُجالاً↨ بضم الراء وتخفيف الجيم وتثقيلها، وقرئ: ▬رِجَالَى↨ كعجالى.
          ({وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ}) أي: وركباناً على كلِّ ضامرٍ مهزولٍ أتعبَه بُعدُ السَّفر، والجملةُ صفةٌ {كُلِّ} أو {ضَامِرٍ} محمولةٌ على معناه، وقرئ: ▬يأتون↨ على أنَّ ضميرَه للناس فهو صفةٌ لـ{رِجَالاً} أو لـ{رُكْبَاناً} المقدر أو استئناف.
          ({مِنْ كُلِّ فَجٍّ}) أي: طريق ({عَمِيقٍ}) أي: بعيد، وقرأ ابن مسعود: ▬مَعيق↨ بفتح الميم بمعنى: عميق ({لِيَشْهَدُوا}) متعلقٌ بـ{يَأْتِيْنَ} أي: ليحضروا ({مَنَافِعَ لَهُمْ}) دينية أو دنيويَّة.
          ({وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ}) أي: عند إعدادِ الهدايا والضَّحايا وذبحها، وقيل: كنَّى بالذكر عن النَّحر؛ لأنَّ ذبحَ المسلمين لا ينفكُّ عنه تنبيهاً على أنه المقصُودُ ممَّا يُتقرَّب به إلى الله تعالى ({فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ}) هي عشرُ ذي الحجة، وقيل: تسعةُ أيام منه، وقيل: أيام التَّشريق، وقيل: خمسةُ أيام أولها يوم التَّروية، وقيل: ثلاثة أيَّامٍ أولها يوم عرفة، وقيل: يومُ العيدِ والثلاثة بعده.
          ويؤيِّدهُ قوله: ({عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ}) فإنه علَّق الفعلَ بالمرزوق، وبيَّنهُ بالبهيمة تحريضاً على المقرَّب، وتنبيهاً على مقتضَى الذكر ({فَكُلُوا مِنْهَا}) أي: من لحومها، والأمرُ للإباحةِ إزاحةً لما عليه أهل الجاهليَّةِ من التَّحرُّج منه، وقيل: للوجُوب، والأصحُّ أنه للاستحبَابِ لما فيهِ من مواسَاة الفقراء، ولأنَّهُ عليه السلام أمر عليًّا كما تقدَّم أنْ يأخُذَ من كلِّ بَدَنَةٍ من بُدْنِه بضعةً، فطبخت وأكلا منها، وهذا عند الأكثرين في المتطوعِ بها؛ لأنَّ الواجبَ لا يجوزُ الأكلُ منه ({وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ}) أي: الذي أصابهُ بؤسٌ؛ أي: شدَّة الفقرِ، قاله العينيُّ.
          وعليه فقوله: ({الْفَقِيرَ}) أي: المحتاج، تأكيد، والأمرُ فيه للوجُوب، ولا بدَّ في الهديِ من إطعامِ ثلاثة فقراءٍ أو مساكينَ ({ثُمَّ لْيَقْضُوا}) أي: ليزيلوا ({تَفَثَهُمْ}) أي: وسخهم بقصِّ الشَّاربِ والأظفار، ونتفِ الإبطِ وحلقِ الرأس والعَانة ونحو ذلك، وقيل: مناسك الحجِّ.
          ({وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ}) أي: ما ينذرون من البرِّ في حجِّهم، وقيل: هو واجبُ الحج، ونذور، جمع: نَذْرٍ، وقيل: هو مصدرُ نَذَرَ، يقال: نذرَ على نفسه؛ أي: أوجبَ، يُنذِر _بالضم والكسر_ نذراً ونذوراً، وقرأ أبو بكر: ▬وليوَفَّوا↨ بفتح الواو وتشديد الفاء.
          ({وَلْيَطَّوَّفُوا}) أي: طوافَ الرُّكن، وقيل: طواف الوداع ({بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}) أي: القديم؛ لأنه أوَّلُ بيتٍ وُضِع للنَّاس، وقيل: المعتَق من تسلُّطِ الجبابرة، فكم من جبَّارٍ قصده ليخربهُ، فمنعهُ الله منه.
          وأما الحجَّاج: فإنما قصد إخراجَ ابنَ الزبير دون تخريب البيت، ولذا نقضهُ وبناه كما كان، وقيل: سُمِّي البيتُ بالعتيق؛ لأنَّ اللهَ يعتقُ فيه رقابَ المذنبين من العذاب، ونسبةُ الإعتاقِ إليه مجازيَّةٌ، إذ بالطَّوافِ به يحصلُ إعتاقه، فلا يردُّ اعتراض ابن عطية على هذا الوجه بأنه يردُّه التَّصْريف، فافهم.
          وقيل: سُمِّي بالعتيق؛ لأنه لم يُملكْ قط، وقيل: لأنه أُعتقُ من الغرقِ يوم الطوفان.
          ({ذَلِكَ}) خبرٌ لمحذوفٍ؛ أي: الأمر ذلك، قال البيضَاوي: هو وأمثاله يطلقُ للفصل بين الكلامين ({وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ}) جمع: حرمةٍ؛ أي: أحكامهُ وسائر ما لا يحلُّ هتكه، وقيل: الحرم وما يتعلق بالحجِّ، وقيل: الكعبةَ والمسجد الحرام والبلد الحرام والشَّهرَ الحرام والإحرام ({فَهُوَ}) أي: فالتَّعظيم المذكور ({خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ}) أي: من تعظيمِ حرماتِ الله من حيث الثَّواب.
          تنبيه: هكذا وقعَ في رواية كريمة سياق الآيات بعد باب كما شرحنا من الابتداء بقوله: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ} إلى أنْ ختم بقوله: / {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ}.
          وبذلك صرَّحَ في ((الفتح)) وقال: المرادُ منها هنا قولُهُ تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:28] قال: ولذلك عطف عليها في الترجمة، وما يأكلُ من البُدْن وما يُتصدَّق؛ أي: بيان المرادِ من الآية. انتهى.
          واعترضهُ العينيُّ: بأنَّ المذكورَ في بعض النُّسخ: <باب لا يأكل... إلخ> بعد قوله: {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} قال: وأينَ العطفُ في هذا، وكلُّ واحدٍ من البابين ترجمةٌ مستقلة؟.
          قال: والظَّاهرُ أنَّ المصنِّفَ لم يجدْ في الترجمةِ الأولى حديثاً يطابقها على شرطهِ، أو ماتَ قبل أنْ يضعهُ قال: وأقربُ منه أنَّ هذه الآيات مشتملةٌ على أحكامٍ فذكرهنَّ تنبيهاً عليها، وهي تطهيرُ البيت للطَّائفين والمصلين... إلخ. انتهى ملخَّصاً.
          قال القسطلاني: وهذا عجيبٌ منه، فإنَّ قولَه في معظم النُّسخ: باب يشعر بحذفه في بعضٍ آخر، ولا مانعَ أنْ يعتمدَ الحافظُ ابنُ حَجر الحذف، بل صرَّحَ بأنه الصَّوابُ، وأنه روايةُ أبي ذرٍّ مع ثبوت واو العطف قبل قوله: ما يأكلُ من البُدْن. انتهى فتدبَّر.
          وقال القسطلاني أيضاً: ورواية أبوي ذرٍّ والوقت: <{يَأْتُوْكَ رِجَالاً} إلى قوله: {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ}> فحذفا ما ثبت عند غيرهما مما ذُكِر من الآيات. انتهى فتأمَّل.
          قوله: ((ورواية أبوي ذرٍّ والوقت {يَأْتُوْكَ رِجَالاً}... إلخ)) فإنه قد يُفهم أنهما لم يذكرا صدر الآيات، ولعلَّ مرادَهُ أنهما ذكرا صدرها، لكن لما وصلا إلى قوله: {يَأْتُوْكَ رِجَالاً} قالا إلى قوله: {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} ويؤيِّدُ هذا ما رأيتهُ في نسخةٍ عندي صَحيحةٍ، لكن على هامشها مكتوبٌ بالأحمر بعد قوله بزيادة: (({وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ})) ورأيت في نسخةٍ صحيحةٍ هكذا: <باب {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} إلى قوله: {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ}> فقط.