الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب الطيب عند الإحرام وما يلبس إذا أراد أن يحرم ويترجل ويدهن

          ░18▒ (بَابُ الطِّيْبِ): بكسر الطاء المهملة وسكون المثناة التحتية؛ أي: استحبابُ استعمالهِ (عِنْدَ الإِحْرَامِ): أي: عند إرادتهِ، أخذاً مما بعدَه، فيسنُّ قبله في البدنِ اتِّفاقاً، وكذا في الثوبِ على ما فيه ممَّا ذكرناهُ في الباب قبله، ولا فرقَ في ذلك بين الرِّجال والنِّساء والخنَاثى.
          (وَمَا يَلْبَسُ): بفتح الموحدة والبناء للفاعل؛ أي: الشَّخص المحرِم، عطف على ((الطِّيب)) ويحتملُ عطفه على ((باب))، و((ما)): مصدرية أو اسميَّة، وإن اقتصرَ الكرمانيُّ على الأول وحذفُ العائد في مثل هذا مطَّردٌ، وهو ما في ((اليونينية)).
          (إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ): بضم أوله (وَيَتَرَجَّلَ): بفتح التحتية أوله وبالجيم المشددة، عطف على ((وما يلبس)) أو على ((يلبس)) أو على ((الطيب)).
          وقال الكرمانيُّ: في بعض الروايات بالنصب، وليس عطفاً على ((يحرم)) بل منصوب بأن مقدَّرة جوازاً على حد:
وَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَقَرَّ عَيْنِي
          أي: والمصدر معطوف على المصدر المنسبك من ((ما)) والفعل، أو على ((الطيب)) أو الترجل.
          (وَيَدْهُنَ): يجري فيه ما مرَّ في يترجَّل، وهو بفتح التحتية أوله وسكون الدال المهملة وبضم الهاء في كثيرٍ من الشرَّاح، وصرَّح به في ((المصباح))، وبفتحها كما في الكرمانيِّ وغيره، وكلام ((القاموس)) قد يقتضِي أنه مثلث الهاء، ويروى: ((ويدَّهِن)) بتشديد الدال وكسر الهاء، من الادِّهان، افتعال مشدد الدال أيضاً.
          تنبيه: قال ابنُ المنير: أرادَ بهذه الترجمة أن يبيِّن أن الأمرَ بغسلِ الخلوق المارِّ إنما هو بالنسبة للثِّياب؛ لأن المحرمَ لا يلبس شيئاً مسَّه زعفران، كما يأتي، وأمَّا الطِّيب: فلا يمتنعُ استدامتُه على البدنِ، وذكر مع التَّطيُّب الترجل والادهان لجامعِ ما بينهما من التَّرفُّه، فكأنه يقول: يلحقُ بالطِّيب سائر التَّرفُّهات فلا يحرمُ على المحرِمِ، فغرضُ البخاري: الرَّد على من منع الطِّيب بعد الإحرام، انتهى ملخَّصاً، فليتأمَّل.
          وقال في ((الفتح)): والذي يظهرُ لي: أن البخاريَّ أشار إلى ما سيأتي بعد أربعة أبوابٍ عن ابن عباس: ((أنَّ النَّبيَّ انطلَقَ مِن المدِينَةِ بعدَمَا ترَجَّلَ وادَّهَن))، الحديث، انتهى فليتأمَّل فيما قالاه.
          والذي يظهرُ لي أنه أراد استحبابَ الطِّيب لإرادةِ الإحرام في بدنٍ أو ثوبٍ لا بعده، وأنه لا يمتنع على المحرمِ لبسُ ما يأتي، ولا ترجيلُ الشعر ولا الادِّهان بالزيت ونحوه لشعرِ الرأسِ أو اللِّحية فقط، فهو مستثنى مما يحرمُ على المحرمِ، وهو في هذا موافقٌ لمذهبِ الشَّافعي سوى الادِّهان بما ذكرَ؛ فإنه حرامٌ يلزمُه بفعله الفدية، وسوى اللبس فإنَّ فيه تفصيلاً.
          وكذا في شمِّ الرياحين؛ فإنه يمتنعُ في الفارسي ونحوه، والآس والبنفسج وتمام مما يقصد التَّطيُّب به، بخلافِ نحو شيح وقيصوم وتفاح وعصفر وحناء وقرنفل ونحو ذلك مما يُقصد منه التَّداوي.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ☻: يَشَمُّ): بفتح أوله كثانيه المعجم وحُكي ضم ثانيه (الْمُحْرِمُ الرَّيْحَانَ): ووصل هذا التَّعليق سعيد بن / منصُور عن ابن عباس من طريق عكرمة بلفظ: كان لا يرى بأساً للمحرم بشمِّ الريحان، وروي عن عثمان مثله في ((المعجم الأوسط)) للطَّبراني، وروى الدَّارقطني بسند صحيح: ((المحرم يشمُّ الريحان ويدخلُ الحمَّام وينزعُ ضرسه ويفقأُ القرحةَ، وإن انكسرَ ظفرُه أماطَ عنه ما يُؤذيه))، وقدَّمنا التفصيل في ذلك عند الشافعي، وكرههُ مالك والحنفية، وتوقَّف أحمد، وقال إسحاق: يباح.
          وقوله: (وَيَنْظُرُ): بضم الظاء المشالة؛ أي: المحرمُ (فِي الْمِرْآةِ): بكسر الميم وسكون الراء ومد الهمزة، هذا أيضاً من كلام ابن عباس كالذي بعده، ونقلَ عن القاسم بن محمد كراهتَه (وَيَتَدَاوَى): بفتح الواو (بِمَا يَأْكُلُ: الزَّيْتَ وَالسَّمْنَ): بنصبهما على المشهور، كما قال الزركشيُّ، ونقلَ عن ابن مالك جرهما.
          قال في ((الفتح)): وهو روايتنا، وإن وجَّهه ابنُ مالك بأنه بدل من ((ما)) الموصولة المجرورة، قال: وليس المعنى على النصب، فإن الذي يأكلُ الآكل لا المأكول، انتهى.
          لكن وجهه الدَّماميني: بأنه يجوزُ أن يكون بدلاً من عائد ((ما)) الموصولة؛ أي: بما يأكلهُ، وهو حينئذٍ مأكول لا آكلٌ، ولا يضرُّنا حذف المبدل منه؛ لأنهم جوَّزوه في نحو: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ}... إلخ [النحل:116].
          ووصلَ هذا التعليقَ ابنُ أبي شيبةَ من طريق عطاء عن ابن عباس بلفظ: قال: يتداوى المحرم بما يأكل، ووصله عنه أيضاً من طريق الضَّحَّاك عن ابن عباس بلفظ: إذا تشقَّقت يدُ المحرمِ أو رجلاهُ فليدْهنها بالزَّيت أو بالسَّمن.
          قال في ((الفتح)): وفي هذا الأثر ردٌّ على مجاهد فيما رواه ابنُ أبي شيبة عنه في قوله: إن تداوى بالسَّمن أو الزَّيت فعليه دمٌ.
          (وَقَالَ عَطَاءٌ): أي: ابن أبي رباح، مما وصلهُ ابنُ أبي شيبة (يَتَخَتَّمُ وَيَلْبَسُ الْهِمْيَانَ): بكسر الهاء معرب، شيءٌ يشبه تكَّة السَّراويل، يجعلُ فيها النَّفقة، ويشدُّ في الوسط، وهو المسمَّى الآن بالكمر، وهذان جائزان عند الشَّافعي كالتقلُّدِ بالسيف.
          قال في ((الفتح)): وقال ابنُ عبد البرِّ: أجاز ذلك فقهاءُ الأمصار، وأجازوا عقدَه إذا لم يكن إدخال بعضهِ في بعضٍ، ولم ينقل عن أحدٍ كراهتَه إلا عن ابن عمر، وعنه: جوازهُ، ومنع إسحاق عقدَه، قيل: إنه تفرَّد به، وليس كذلك، فقد أخرج ابنُ أبي شيبة بسندٍ صحيح عن سعيد بن المسيِّب أنه قال: لا بأسَ بالهميان للمحرمِ، لكن لا يعقد عليه السَّير بل يلفُّه لفًّا.
          وروى ابنُ أبي شيبة أيضاً بسندِه عن إسماعيل بن عبد الملك، قال: رأيتُ على سعيد بنِ جبير خاتماً وهو محرمٌ وكذا على عطاء.
          (وَطَافَ ابْنُ عُمَرَ ☻): مما وصله الإمام الشَّافعي من طريق طاوس (وَهُوَ مُحْرِمٌ): الجملة حال من ((ابن عمر)) (وَقَدْ حَزَمَ): بفتح الحاء المهملة والزاي الخفيفة، حال أخرى؛ أي: شدَّ (عَلَى بَطْنِهِ بِثَوْبٍ، وَلَمْ تَرَ عَائِشَةُ ♦): ممَّا وصله سعيد بنُ منصور (بِالتُّبَّانِ بَأْساً): بضم المثناة الفوقية وتشديد الموحدة، وهو سروال قصيرٌ يستر العورة المغلَّظة، يلبسُه الملاحون ونحوهم.
          (لِلَّذِينَ يُرَحِّلُونَ): بضم أوله وفتح الراء وتشديد الحاء المهملة المكسورة، وفي نسخة: <يَرْحَلون> بفتح الياء والحاء والراء ساكنة.
          قال الجوهريُّ: رحلت البعير أَرحله _بفتح أوله_ رحلاً، واستشهدَ البُخاري له في التفسير بقول الشاعر:
إِذَا مَا قُمْتُ أَرْحَلُهَا بِلَيْلٍ
          قال في ((الفتح)): وعلى هذا فوهم من ضبطَه هنا بتشديد الحاء المهملة وكسرها، انتهى فليتأمَّل.
          فإن ما نقلهُ لا يقتضِي التَّوهيم، والمعنى: يشدون.
          (هَوْدَجَهَا): بفتح الهاء والدال المهملة والجيم والواو ساكنة، مركبٌ من مراكب النِّساء، وهذا كأنه رأيُ عائشة، وإلا فالجمهورُ على أنه لا فرقَ بين التُّبَّان والسراويل في منعهِ للمحرم، وقد سقط: <للذين يرحلون هودجها> في روايةِ ابن عساكر.