الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب توريث دور مكة وبيعها

          ░44▒ (بَابُ تَوْرِيثِ دُورِ مَكَّةَ وبَيْعِهَا وشِرائِهَا): أي: حكمُ ذلك (وَأَنَّ النَّاسَ فِي المَسْجِدِ الْحَرَامِ): بأل في <المسجد> لأبي ذرٍّ، وسقطتْ أل لغيره، فعليه هو مضافٌ للحرام (سَوَاءٌ): بالرفع خبر ((أن))؛ أي: مستوونَ في المسجدِ الحرام (خَاصَّةً): بالنصب على الحالِ، وهو قيدٌ لـ((المسجد الحرام)) أي: مساواة الناسِ بعضهم لبعضٍ إنما هي في المسجدِ الحرام، لا في باقِي المواضعِ من مكة.
          (لِقَوْلِهِ تَعَالَى): تعليلٌ لاستواء الناس في المسجد الحرام ({إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا}): أي: أهل مكَّةَ لدلالة السِّياقِ عليه، ويحتملُ أن المرادَ: مطلقُ الكافرين ({وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيْلِ اللَّهِ}): أي: يصرفونَ الناسَ عن دينِ الإسلامِ، وليس المرادُ بالفعلِ الحال أو الاستقبال، وإنما المرادُ: استمرارُ الصَّدِّ منهم، ولذلك حسنَ عطفُه على {كَفَرُوا} الماضي، وقيل: إنه حال من فاعل {كَفَرُوا} بتقدير: وهم يصدُّونَ عن سبيل الله.
          ({وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}): عطف على المضاف أو المضاف إليه ({الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءٌ الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ}): والآية مدنية، فإن النَّبيَّ لما خرجَ معه أصحابه عام الحديبية صدَّهم المشركون عن المسجدِ الحرام، وعن دخولِ مكَّةَ في ذلك العام، و{سَوَاءٌ} بالرفع للأكثر، خبر مقدَّم و{العَاكِفُ} مبتدأ مؤخر و{البَادِ} معطوف عليه، وجازَ / الإخبار عن المتعدِّد بسواء المفرد؛ لأنه في الأصل مصدر، والجملة في محل المفعول الثاني لجعلنا.
          وقرأ حفص: ▬سواءً↨ بالنصب على أنه مفعول ثان لجعلنا إن تعدَّى لاثنين، وإلا فهو حالٌ من الهاء، وعلى التقديرين، فالعاكف: فاعل {سَوَاءٌ}؛ لأنه بمعنى مستوياً.
          قال الزَّمخشري: وقد استدلَّ به أصحاب أبي حنيفةَ على أنَّ المراد من {المَسْجِدِ الحَرَامِ} مكة فيمتنع بيعُ دورها وإجارتها؛ أي: لأنه وصف المسجدَ الحرام بأنه يستوي فيه الناس المقيمُ والغريب.
          وقد يقال: لا ضرورةَ في حمله على خلافِ الظاهرِ مع أنه معارضٌ بحديثِ الباب، وبقوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر:8]، فليتأمَّل.
          فإن قيل: حملهُ على خلاف الظَّاهر ليكون الوصفُ مفيداً؛ فإن سائرَ المساجدِ يستوي فيها العاكفُ والبادي؟
          أجيبَ: بأن الذي كان المشركون يفعلونهُ هو التملُّكُ على المسجدِ الحرامِ وادِّعاؤهم أنهم أربابهُ وولاته، وأنهم منعوا كلَّ من أرادوا منه، فردَّ عليهم تعالى: بأن الناس فيه كلُّهم سواءٌ، وأما المنازل والدُّورُ فلم تزل لأهل مكَّةَ غير أن المواساةَ تجبُ إذا كانت الضَّرورة، ولعلَّ عمر فعل ذلك عند الحاجةِ، قاله ابن بطَّال.
          وقال العيني: والمرادُ من {المَسْجِدِ الحَرَامِ}: الحرم كله لما أخرجه ابنُ أبي حاتم وغيره عن ابن عبَّاسٍ وعطاء ومجاهد، فلا يجوز بيع دور مكَّةَ ولا إجارتها، وممَّن قال بهذا القول: أبو حنيفة ومحمَّد والثوري ومالك، وخالفَ في ذلك آخرون فقالوا: لا بأس ببيع أرضها وإجارتها كسائرِ البلدان، وممَّن ذهبَ إلى هذا القول: أبو يوسف وطاوس وعمرو بن دينار والشَّافعي وأحمد وابن المنذر، انتهى ملخَّصاً.
          ونظرَ في ((الفتح)) فيما أخرجه ابنُ أبي حاتمٍ وغيره عمن تقدَّم فقال: الأسانيدُ بذلك كلها إليهم ضعيفةٌ.
          وبالجواز قال الجمهورُ، واختارهُ الطَّحاوي، واختلفَ عن محمد واحتجَّ الشافعيُّ بحديثِ الباب، قال: فأضاف الملك إليه وإلى من ابتاعها منه، وبقوله عليه السلام عامَ الفتح: ((مَن دخَلَ دارَ أبي سُفيَان فهو آمِنٌ))، فأضافَ الدار إليه.
          واحتجَّ ابن خُزيمة لذلك بقوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر:8] فنسب الله تعالى الدِّيارَ إليهم، ولو كانت غير ملكٍ لهم لما كانوا مظلومينَ في الإخراجِ منها، قال: ولو كانت الديار التي باعها عقيلٌ لا تملك لكان جعفر وعلي أولى بها، إذ كانا مسلمين حينئذٍ دونه.
          وسيأتي في البيوع: أن عمرَ اشترى داراً للسِّجنِ بمكَّةَ، وأما نهيهُ أن تغلقَ دورُ مكَّةَ في زمن الحاجِّ وقوله: لا تتخذوا لدوركم أبواباً لينزل البادي حيثُ شاء فيجمعُ بينها بكراهة الكِراءِ رفقاً بالوفودِ، ولا يلزم من ذلك منع البيع والشراء، وإلى هذا ذهبَ أحمدُ وآخرون، واختلفَ عن مالك في ذلك، فقال القاضِي إسماعيل: ظاهرُ القرآنِ يدلُّ على أن المراد به: المسجد خاصَّةً دون مكَّة.
          وقال الأبهري: لم يختلف قولُ مالك وأصحابه في أن مكة فُتِحَتْ عنوةً، والرَّاجح عليه: أنَّ النَّبي مَنَّ بها على أهلها فخالفتْ حكمَ غيرها من البلادِ في ذلك.
          واختلفوا أيضاً: هل المرادُ بـ{المَسْجِدِ الحَرَامِ} الحرَمُ كلُّهُ أم المسجد خاصَّةً؟ كما اختلفوا هل المرادُ بقوله: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} في الأمنِ والاحترام، أو فيما هو أعمُّ من ذلك؟ وعلى هذه الاختلافات يتفرَّعُ الخلافُ هل تباع دور مكَّةَ وتؤجر أو لا؟
          قال ابن خزيمة: لو كان المرادُ بقوله تعالى: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} جميع الحَرَمِ وأنَّ اسم المسجد الحرام واقعٌ على جميع الحرم لما جازَ حفر بئرٍ، ولا قبر ولا التغوطُ ولا البول ولا إلقاءُ الجيف والنتن في الحرم، ولا نعلمُ عالماً منع ذلك ولا كرهَ لجنبٍ ولا حائضٍ دخول الحرمِ ولا الجماعَ فيه، ولو كان كذلك لجازَ الاعتكافُ في دور مكَّة وحوانيتها، ولم يقل بذلك أحدٌ، انتهى ملخَّصاً.
          وأقولُ: ما ألزمهم به ابن خزيمة غير لازمٍ لهم؛ لأنهم جعلوا {المَسْجِدِ الحَرَامِ} عبارة عن جميعِ الحَرَمِ لا العكس، ولئن سلمنا فالمرادُ: أن جميعَ الحرم كالمسجدِ الحرامِ في استواء الناس بانتفاعِهِم بأماكنه، لا هو أعمُّ لما هو مقطوعٌ به أن النَّبي وأصحابه كانوا يقضونَ فيه حاجةَ البول وغير ذلك مما هو ممنوعٌ فعله في المسجدِ الحرام، فتأمَّل ذلك.
          وقال أيضاً: أشارَ المصنِّفُ بهذه الترجمة إلى تضعيفِ حديث علقمةَ بن نَضْلَة الذي أخرجهُ ابن ماجه عنه؛ فإن في إسناده انقطاعاً وإرسالاً، قال: توفِّي رسول الله وأبو بكرٍ وعمر، وما تدعى رباعُ مكَّة إلا السَّوائب من احتاجَ سكن، انتهى.
          ومنه يعلمُ أن مذهبَ البخاريِّ في دورِ مكة: جوازُ بيعها وإجارتها، فافهم.
          واعتراض العيني عليه بقوله: ليت شعري ما وجهُ هذه الإشارة؟ والإشارةُ لا تكون إلا للحاضرِ، انتهى غير واردٍ لمن تأمَّل، ولعلهُ لهذا لم يتعرَّض له في ((الانتقاض)).
          ({وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ}): أي: في المسجد الحرامِ، سواءً أبقيناه على خصوصهِ أو لا ({بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ}): قيل: الباء: صلة؛ أي: ومن يرد فيه إلحاداً ظلماً كما في قوله تعالى: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون:20]، وقيل: {بِظُلْمٍ} بسيِّئة.
          وقال في / ((الكشاف)): مفعول {يُرِدْ}: متروكٌ ليتناولَ كل متناولٍ، كأنَّه قال: ومن يرد فيه مراداً ما عادلاً عن القصد ظالماً، وقرئ: ▬يَرد↨ بفتح الياء من الورود، ومعناهُ: من أتى فيه بإلحادٍ، وعلى كون مفعول {يُرِدْ} محذوفاً يكون {بِظُلْمٍ} {بِإِلْحَادٍ}: حالان مترادفان أو متداخلان.
          ({نُذِقْهُ}): جواب {مِنْ}: الشرطية ({مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25]): وخبر {إِنْ} في صدرِ الآية محذوفٌ لدلالة {نُذِقْهٌ}... إلخ عليه؛ أي: نذيقهم منه.
          والآية نزلتْ في عبد الله بن أُنيس بن خطل القرشيِّ، وذلك أن النَّبي صلعم بعثَ رجُلين: أحدهما مهاجريٌّ والآخرُ أنصاريٌّ فافتخرا في الأنساب فغضبَ عبد الله بن أنيس، فقتلَ الأنصاريَّ ثم ارتدَّ عن الإسلام وهرب إلى مكَّة فأمر النَّبي يوم فتح مكة به، فقُتِل فأذاقَه الله العذابَ الأليم لإلحادهِ في الحرم.
          وقيل: الإلحادُ في الحرم: منع النَّاس من عمارتهِ، وعن سعيد بن جبير: الاحتكارُ، وعن عطاء: قول الرَّجل في المبايعة: لا والله بلى والله.
          (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ): أي: البخاري وسقطَ من أكثرِ الأصول، لكنه مرادٌ على عادتهِ من تفسير ما يقعُ من الغريب فقال: (الْبَادِي): من قوله تعالى: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالبَادِي} (الطَّارِي): بالطاء المهملة؛ أي: المسافر، وهو تفسيرٌ منه بالمعنى، وهو مقتضى ما جاءَ عن ابن عبَّاسٍ وغيره، و{العَاكِفُ} المقيمُ.
          وروى الطحاوي عن أبي حصين قال: أردتُ أن أعتكفَ وأنا بمكَّة، فسألتُ سعيد بن جبير فقال: أنت عاكفٌ ثمَّ قرأ الآية، ولعلَّ هذا مرادُ المصنف من قوله: ({مَعْكُوفاً} [الفتح:25]: مَحْبُوسَاً): وهو من مادَّة {العَاكِفُ} المذكورِ في الآية التي أوردها، فلا يقال: لا مناسبةَ لذكرها مع أنَّها من سورةِ الفتح.
          وقال الإسماعيليُّ: {البَادِي}: الذي يكونُ في البدو، وكذا من كان ظاهر البلدِ فهو بادٍ ومعنى الآية: أنَّ المقيم والطاري سيانٌ فيه.
          وقال قتادة: {العَاكِفُ} و{البَادِي}: أهل مكَّة وغيرهم، وبه قال ابن عبَّاس وابنُ جُبير وغيرهما ممن تقدَّم آنفاً تفصيلُ مذاهبهم مع بيانِ الاختلاف فيها.