الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب قول الله تعالى: {وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنًا}

          ░46▒ (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى): أي: في سورةِ / إبراهيم ({وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ}): أي: مكَّةَ ({آمِنَاً}): بالمد، ذا أمنٍ لمن فيها من القتلِ والغارةِ، وقيل: من الجذامِ والبرصِ، والفرقُ بينهُ وبين قوله في البقرةِ: {اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِنَاً} [البقرة:126] أنَّ المسؤول في الأول: إزالةُ الخوفِ عنه وتصييرهُ آمناً، وفي الثاني: جعله من البلادِ الآمنة، قاله البيضاويُّ.
          ({وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ}): أي: بعِّدني وإياهم ({أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم:35]): أي اجعلنا من عبادةِ الأصنام في جانبٍ، وقرئ: ▬وأجنبني↨: بقطع الهمزةِ، وهما على لغة نجدٍ، وأما أهل الحجازِ فيقولون: جنِّبني بالتَّضعيف، وذلك أنَّ إبراهيمَ عليه السلام لما فرغَ من بناء البيت سألَ ربَّهُ أن يجعلَ البلدَ آمناً، وخافَ على بنيهِ؛ لأنه رأى قوماً يعبدونَ الأصنام والأوثان، فسأله أن يجنِّبهم عبادتها.
          ({رَبِّ إِنَّهُنَّ}): أي: الأصنام ({أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ}): أي: فلذا سألتكَ المباعدةَ عنهنَّ، وأسند الإضلالَ إليهنَّ لتسببهنَّ فيه، وما قيل: إن الإضلالَ منهنَّ؛ لأن الشيطانَ كان يدخلُ في جوفِ الأصنام فيتكلَّم، انتهى، فهو من التَّسبب أيضاً كقولهِ تعالى: {وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الأنعام:70].
          ({فَمَنْ تَبِعَنِي}): أي: على ديني ({فَإِنَّهُ مِنِّي}): أي: بعضي، أو لا ينفكُّ عني في الدِّين ({وَمَنْ عَصَانِي}): أي: لم يطعني فلم يوحِّدك ولا عبدك ({فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم:36]): أي: فإنك غفورٌ لمن شئت ذنبهُ ابتداءً، أو بعد الإنابة لرحمتكَ إيَّاه، ولا يجبُ عليك، أو المراد: ومن عصَاني فيما عدا الشِّرك.
          وقال البغويُّ: وقيل: قال ذلك قبل أن يُعلِمَه الله أنه لا يغفرُ الشِّرك، كما قال البيضاوي: وفي الآيةِ دليلٌ على أن كلَّ ذنبٍ فلله أن يغفره حتى الشِّرك، لكن الوعيد فرقٌ بينه وبين غيره، فافهم.
          وسُئل ابن عُيينة: كيف عبدت العربُ الأصنام؟ فقال: ما عبد أحدٌ من ولد إسماعيل صنماً، واحتجَّ بقوله: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم:35].
          ({رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي}): أي: بعضها أو ذريَّةً من ذريَّتي، وهو إسماعيلُ ومن ولدَ له ({بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ}): يعني وادي مكَّة، أو أرادَ بالوادي: مكَّة؛ لأنها حجريَّةٌ لا تنبت ({عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ}): أي: الذي حرَّمتَ فيه القتالَ والاصطياد، أو معظِّماً تهابهُ الجبابرة، أو منعَ منه الطوفان، فلم يستولِ عليه، فلذلك سُمِّي عتيقاً؛ لإعتاقهِ مما ذكر.
          قال البيضاويُّ: ودعا بهذا الدُّعاء أول ما قدمَ، فلعلَّهُ قال ذلك باعتبارِ ما كان أو ما سيؤولُ إليه.
          ({رَبَّنَا لِيُقِيمُوا}): أي: ليؤدوا ({الصَّلاَةَ}): أي: عند بيتكَ، والجار والمجرور متعلِّق بـ{أَسْكَنْتُ}: أي: ما أسكنتُهم بهذا الوادي البلقعِ من كلِّ مرتفقٍ ومرتزقٍ إلا لإقامة الصَّلاة عند بيتك، وقيل: اللام لام الأمر، والمرادُ به: الدُّعاءُ لهم بإقامةِ الصَّلاة، كأنه طلبَ منهم إقامتها، وسألَ من الله تعالى أن يوفِّقهم لها، والغرضُ من الدعاءِ بذلك: توفيقهم له، وتكريرُ النداء وتوسُّطهُ للإشعارِ بأن الصَّلاة هي المقصودةُ من إسكانهم، واقتصرَ عليها؛ لأنها أفضلُ العبادات.
          ({فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً}): جمع: فؤاد، وهو القلبُ ({مِنَ النَّاسِ}): أي: أفئدةً من أفئدة النَّاس، و{مِنَ} للتبعيض، ولذلك قال سعيدُ بن جُبير ومجاهد: لو قال: أفئدة النَّاس؛ لازدحمت عليه فارس والروم، والترك والهند، ولحجَّت اليهودُ والنَّصارى.
          وقيل: {مِنَ}: للابتداء كقولك: القلبُ منِّي سقيم، تريدُ: قلبي، فكأنَّه قيل: أفئدةَ ناس وقرئ: ▬آفدة↨ كقاعدة مقلوبُ أفئدة، أو من أفدتُ الرحلة: إذا عجَّلت؛ أي: اجعل جماعةً يرتحلونَ إليهم، وقرئ: ▬أفدة↨ بطرح الهمزة للتخفيف.
          ({تَهْوِي إِلَيْهِمْ}): أي: تسرعُ شوقاً إليهم، وقرئ: ▬تُهوى↨: للمفعول من هَوى إليه غيرهُ، أو أهواهُ، وقرئ: ▬تهوَى↨ بفتح الواو، من هوِي _بالكسر_ أي: تحبُّهم، وعداه بإلى؛ لتضمُّنه معنى النُّزوعِ.
          ({وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ}): أي: ارزقهم مع سكناهم وادياً لا نباتَ فيه، مثل ما رزقتَ سكَّان القرى ذواتَ الماء ({لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:35]): أي: مولاهم لتلك النِّعمِ، فأجابَ الله دعوته، فجعله حرماً آمناً تُجبى إليه ثمراتُ كلِّ شيءٍ حتى توجد فيه الفواكهُ الرَّبيعيَّة، والصيفية، والخريفيَّة في يومٍ واحد.
          قال في ((الفتح)): لم يذكر في هذه التَّرجمةِ حديثاً، وكأنه أشارَ إلى حديثِ ابن عبَّاسٍ في قصَّةِ إسكان إبراهيمَ لهاجر وابنها في مكان مكَّة، وسيأتي في أحاديثِ الأنبياء مبسوطاً.
          ووقعَ في ((شرح ابن بطال)): ضم هذا الباب لما بعدهُ فقال بعد: (({يَشْكُرُونَ})): ((وقولُ الله: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ} [المائدة:97]... إلخ))، ثمَّ قال: ((فيه أبو هريرة))، فذكر أحاديثَ الباب الثاني.
          وقال الكرمانيُّ: لعلَّ غرضهُ الإشعار بأنه لم يجد حديثاً بشرطهِ مناسباً لها، أو ترجمَ الأبواب أولاً ثمَّ ألحق بكلِّ باب كلما اتَّفق، ولم يساعده الزَّمانُ بإلحاق حديثٍ بهذا الباب، وهكذا حكمُ كل ترجمةٍ هي مثلها.
          قلت: الوجهُ الأول من الوجهين اللذين ذكرهما الكرماني بعيدٌ، وأبعدُ منه ما ذكرهُ بعضهم؛ لأنَّ الإشارةَ لا تكونُ إلا للحاضر، انتهى.
          ومراده ببعضِهم: الحافظ. فإنه قال في ((الفتح)).. إلى آخر كلامه فألحقه هنا.
          وأجاب في ((الانتقاض)): بأن الإشارة إلى الحاضرِ أعمُّ من الحضورِ حسًّا أو ذهناً... إلخ.
          وأقول: لو أجابَ بأن / الإشارةَ بمعنى الإيماء؛ لكان أظهرُ، وحاصلها كما ذكره البغويُّ بروايته عن ابن عبَّاسٍ أنه قال: أول ما اتَّخذَ النساء المنطقَ من قبل أمِّ إسماعيل، اتخذت منطقاً ليعفى أثرها عن سارةَ، ثمَّ جاء بها إبراهيمُ وبابنها إسماعيل وهي ترضعهُ حتى وضعَهما عند البيتِ عند دوحةٍ فوق زمزم في أعلى المسجدِ، وليس في مكَّةَ يومئذٍ أحدٌ، وليس بها ماءٌ، فوضعَهما هنالك، ووضعَ عندهما جراباً فيه تمرٌ، وسقاءً فيه ماءٌ، ثم قفى إبراهيم منطلقاً، فتبعتهُ أمُّ إسماعيل فقالت: يا إبراهيمُ! أين تذهبُ وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنسٌ ولا شيءٌ؟ فقالت له ذلك مراراً، وجعلَ لا يلتفت إليها، فقالت له: آللهُ أمركَ بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً لا يضيِّعنا، ثمَّ رجعت، فانطلقَ إبراهيم حتى إذا كان عند الثنيَّةِ حيث لا يرونهُ استقبل بوجههِ البيت، ثمَّ دعا بهؤلاء الدَّعوات، ورفعَ يديه فقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} حتى بلغ: {يَشْكُرُونَ}، وجعلت أمُّ إسماعيل ترضعهُ وتشرب من ذلك الماءِ، حتى نفدَ ما في السقاء عطشتْ وعطشَ ابنها، وجعلت تنظرُ إليه يتلوَّى _أو قال: يتلبَّط_ فانطلقتْ كراهيةَ أن تنظرَ إليه، فوجدت الصفا أقرب جبلٍ في الأرضِ يليها، فقامتْ عليهِ، ثمَّ استقبلت الوادي تنظرُ هل ترى... إلى آخرِ ما في البغوي.