الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب تقبيل الحجر

          ░60▒ (بَابُ تَقْبِيلِ الْحَجَرِ): أي: باب مشروعيَّةِ تقبيلِ الحجر الأسود، فيسنُّ بوضع الشَّفتين عليه من غير رفع صوتٍ ولا تطنينٍ، قاله الشافعي، وروى الفاكهيُّ عن سعيدِ بن جُبير أنه قال: إذا قبَّلتَ الرُّكن فلا ترفعْ بها صوتكَ كقبلة النِّساء.
          وظاهرُ التَّرجمة والحديث: أنه لا تختصُّ سنيَّةُ تقبيلهِ بما إذا كانَ في ركنهِ، لكن قال بعض فُقهائنا: الظَّاهر: أنه لا يثبت له هذا الحكمُ لو نقل الحَجر _والعياذُ بالله_ إلى الرُّكنِ اليمانيِّ مثلاً، فلا يسنُّ تقبيلهُ ولا استلامه من حيثُ إنه الحجر؛ لأن فضيلتهُ مشروطةٌ ببقائهِ في محلِّه، فليراجع، انتهى.
          لكن يُقبَّل موضعهُ الأصليُّ ويستلمه، كما قاله الدَّارمي من الشافعية.
          وفي ((الفتح)): استنبطَ بعضُهم من مشروعيَّةِ تقبيلِ الحجرِ جوازَ تقبيلِ كل من يستحقُّ التعظيم من آدميٍّ وغيره، وأمَّا تقبيلُ يد الآدميِّ فسيأتي في الأدب، وأما غيرهُ فنقلَ عن الإمام أحمد أنه سُئِل عن تقبيلِ منبر النَّبي صلعم وتقبيلِ قبرهِ الشريف؟ فلم يرَ به بأساً، واستبعدَ بعضُ أتباعه صحَّة ذلك عنه، ونقلَ عن ابن أبي الصَّيف اليماني _أحدُ علماء مكَّةَ من الشافعيَّة_ جوازَ تقبيلِ المصحفِ وأجزاء الحديثِ وقبور الصَّالحين، انتهى.
          وأقولُ: أراد ببعض أتباعِ الإمام أحمد ☼ الشَّيخ تقيَّ الدين ابن تيمية؛ فإنه _كما نقل عنه الحافظ أبو سعيدِ بنُ العلاء_ قال: هذا عجيبٌ من أحمد عندي جليلٌ لا يقولُ هذا، انتهى.
          قال ابنُ العلاءِ المذكور: وأيُّ عجبٍ في ذلك؟ وقد روينا عن الإمامِ أحمد: أنه غسل قميصاً للشَّافعي وشربَ الماء الذي غسلهُ به، فإذا كان هذا تعظيمهُ لأهل العلم، فكيفَ بالصَّحابة؟ وكيفَ بآثار الأنبياءِ عليهم الصَّلاة والسَّلام؟ ولقد أحسنَ مجنونُ ليلى حيثُ قال:
أمُرُّ عَلَى الدِّيَارِ دِيَارَ لَيْلَى                     أُقَبِّلُ ذَا الجِدَارَ وَذَا الجِدَارَا
وَمَا حُبُّ الدِّيَارِ شَغَفْنَ قَلْبِي                     وَلَكِنْ حُبُّ مَنْ سَكَنَ الدِّيَارَا
          وقال المحبُّ الطَّبري: يمكن أن يُستنبَط من تقبيلِ الحجر واستلامِ الأركان جوازَ تقبيلِ كلِّ ما في تقبيله تعظيمٌ لله تعالى؛ فإنه إن لم يرد فيه خبرٌ بالندبِ لم يرد بالكراهةِ.
          وقال الحافظُ زين الدين العرَاقي: أما تقبيلُ الأماكن الشَّريفة على قصد التَّبرُّك، وكذا تقبيلُ أيدي الصَّالحين وأرجلهم فهو حسنٌ محمودٌ بحسبِ القصدِ، وقد سألَ أبو هُريرة الحسن بن عليٍّ ♥ أن يكشفَ له المكان الذي قبَّله رسول الله صلعم _وهو سرَّته_ فقبَّله تبرُّكاً بآثارهِ وذريَّته عليه الصَّلاة والسلام، وكان ثابتُ البُناني لا يدع يد أنسٍ حتى يقبِّلها، ويقول: يدٌ مسَّت يدَ رسولِ الله صلعم كيف لا أقبِّلُها؟
          لكن في ((التحفة)) لابن حَجر ما نصه: والتزامُ القبرِ أو ما عليه من نَحو تابوتٍ، ولو قبره صلعم بنحو يده وتقبيله بدعةٌ مكروهةٌ قبيحة، انتهى.
          وفي ((الإحياء)): وليس من السُّنَّة أن تمسَّ الجدار ولا أن تقبِّلهُ؛ فإن المسَّ والتقبيل للمشاهدِ عادةُ النصارى واليهود.
          وقال الرمليُّ: يكرهُ تقبيلُ القبر واستلامهُ وأعتاب الأولياء عند الدُّخول لزيارتهم، نعم، إن قصدَ تقبيل أضرحتهم للتبرُّكِ لم يُكره، كما أفتى به الوالدُ، فقد صرَّحوا بأنه إذا عجزَ عن استلام الحَجر، يسنُّ له أن يشيرَ بعصا وأن يقبِّلها، وقالوا: أيُّ أجزاءِ البيت قبَّلَ فحسنٌ، انتهى فتأمَّل.