الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب الكلام في الطواف

          ░65▒ (بَابُ الْكَلاَمِ): أي: جوازهُ (فِي الطَّوَافِ): أي: بأنواعهِ / الثلاثة، والمرادُ بالجوازِ: ما ليس بحرامٍ، فيشملُ الواجبَ والمندوب والمباح والمكروه، وقدَّر الشُّرَّاح الإباحة.
          ثم قالَ في ((الفتح)): وإنما لم يصرِّح بذلك؛ لأن الخبرَ وردَ في كلامٍ يتعلق بأمرٍ بمعروف لا بمطلَقِ الكلام، ولعلَّهُ أشارَ إلى الحديثِ المشهور عن ابن عبَّاسٍ موقوفاً ومرفوعاً: ((الطَّوافُ بالبَيْتِ صَلَاةٌ، إلا أنَّ اللهَ أباحَ فِيه الكَلامَ، فمن نطَقَ فلا ينطِقْ إلَّا بخيرٍ)) أخرجهُ أصحابُ ((السنن)) وصحَّحه ابن خُزيمة وابن حبَّان، انتهى.
          وروى الحاكمُ في ((المستدرك)) عن سعيدِ بن جُبير عن ابن عبَّاس قال: قال الله لنبيه: {طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:125] بالطَّوافِ قبل الصَّلاة، وقد قالَ رسولُ الله: ((الطَّوافُ بمنزِلَةِ الصَّلاةِ، إلَّا أنَّ الله قد أحَلَّ فِيه النُّطِقَ، فمَن نطَقَ فلا ينطِق إلَّا بخيرٍ)).
          قال ابن حَجر في ((تخريج أحاديث الرافعِي)) عن الحاكمِ: وصُحِّح إسناده، وهو كما قال؛ فإنهم ثقاتٌ، انتهى.
          وقال العينيُّ: وإنما أطلقَ المصنِّف ولم يبيِّن الحكمَ فيه من حيثُ أن المرادَ مطلقُ الإباحة من الكلامِ الذي ليس فيه المؤاخذةُ، كما وردَ في الحديثِ المشهور، وذكرَ حديث ((الفتح))، ثم قال: وفي لفظ: ((الطَّوافُ مثل الصَّلاةِ إلا أنَّكُم تتكَلَّمُون، فمَن تكَلَّمَ فلا يتكلَّم إلَّا بخيرٍ))، ورواهُ ابن حبَّان في ((صحيحه)) عن عطاء بلفظ: ((الطَّوافُ بالبيتِ صَلاةٌ، إلَّا أنَّ الله أحلَّ فيه النُّطقَ، فمَن نطَقَ فلا ينطِقُ إلا بخيرٍ)).
          ورواه التِّرمذي عن ابن عبَّاسٍ بلفظ: أنَّ النَّبي صلعم قال: ((الطَّوافُ حولَ البَيتِ مثل الصَّلاةِ، إلَّا أنَّكُم تتكلَّمُون فيهِ، فمَن تكَلَّم فيه فلا يتكلَّمْ إلا بخيرٍ))، قال: ورويَ عنه موقوفاً، ورواه النَّسائي عن ابن عبَّاسٍ بلفظ: قال: ((الطَّوافُ بالبيتِ صَلاةٌ فأَقِلُّوا به الكلامَ))، وروى الشَّافعي عن ابن عُمر أنه قال: ((أقِلُّوا الكلامَ في الطواف؛ فإنما أنتم في صَلاةٍ))، قال الترمذيُّ: والعملُ على هذا عند أكثرِ أهل العلم أنهم يستحبُّون أن لا يتكلَّمَ الرجل في الطَّوافِ إلا لحاجةٍ أو في العلم.
          وقال أبو عمر: عن عطاء: يكره الكلامُ في الطَّواف إلا الشَّيءَ اليسيرَ، وفي ((شرح المهذب)): يكرهُ للطَّائف الأكلُ والشُّرب في الطَّواف وكراهة الشُّربِ أخفُّ، ولا يبطلُ الطَّواف بذلك.
          وقال الدميريُّ: وكلُّ ما يُكره في الصَّلاة في حالِ الطَّواف كرههُ لا يَختفِي، والطعم فيه والكلامُ الأجنبيُّ والضَّحك والمشيُ بسوء الأدبِ والشَّتم والبصَاق والتنخُّم، وكل قولٍ في سواهُ يحرم.
          وقال ابن بطَّال: كره جماعةٌ قراءةَ القرآنِ في الطَّواف، منهم: عروةُ والحسن ومالك، وعنه: تقييدُ الكراهةِ بالطوافِ الواجبِ، وعنه: لا بأس به إن أخفاهُ ولم يكثر منه، وقال عطاء: قراءةُ القران في الطَّوافِ محدثٌ، وقال الحنفية: لا يقرأ فيه القرآنُ، ولا بأسَ بذكرِ الله تعالى.
          وقال الشَّافعي: أنا أحبُّ القراءةَ في الطَّواف، وهو أفضلُ ما تكلَّمَ به الإنسان، وقال أحمد: تسنُّ القراءة فيه، وعنه: تُكره.
          وقال الدميريُّ: ونص في ((البحر)) في باب الاعتكاف على تعلُّم العلوم في الطَّواف: لا كرهَ فيه فمجاهدٌ قرأ فيه وأقرأَ فيه دهراً زمراً.
          والمرادُ بكون الطواف مثل الصَّلاةِ: أنه يشترطُ لصحته عند الجمهور: الطَّهارةُ من الحدثينِ وسترُ العورة، ولا يشترطان لشيءٍ من أفعال الحجِّ غير الطواف.
          تنبيه: أخذَ العزُّ بن عبد السلام وكثيرونَ من هذه الأحاديث أن الطَّواف أفضلُ أعمال الحجِّ؛ لأن الصلاة أفضلُ من الحجِّ فيكونُ ما اشتملتْ عليه أفضل، قال: وأما حديثُ: ((الحجُّ عَرَفة)) فلا يتعيَّنُ فيه تقديرُ: معظم الحجِّ عرفة، بل يحتملُ تقديره: إدراكُ الحجِّ عرفة؛ أي: الوقوفُ بها.
          قال في ((الفتح)): وفيه نظرٌ، ولو سلم فما لا يتقوَّم الحجُّ إلا به أفضلُ مما ينجبرُ، والوقوفُ والطَّواف سواءٌ في ذلك فلا تفضيلَ، انتهى.
          وفيه: أن ذكرَ ما ينجبرُ لا دخلَ له في التَّفضيلِ بين الوقوفِ والطَّواف، فتأمَّل.
          وقال الزركشيُّ: الصَّواب: القطعُ بأن الوقوفَ أفضلُ لخبر: ((الحجُّ عرفة))، ولهذا لا يفوتُ الحجُّ إلا بفواتهِ، ولم يردْ غفرانٌ في شيءٍ ما وردَ في الوقوف.
          واعتمد الرمليُّ كلامَ العز، قال: لما صرَّح به الأصحابُ من أن الطَّواف قربةٌ في نفسهِ، وجعله الشارعُ بمنزلة الصَّلاةِ التي هي أعظمُ عباداتِ البدن بعد الإيمانِ بخلافِ الوقوف فيهما، قال: وقد يقال: الطوافُ أفضلُ من حيثُ ذاته؛ لأنه مشبَّهً بالصلاة وقربة مستقلَّةٌ، وعليه يحملُ كلام ابن عبد السَّلام، والوقوفُ أفضلُ من حيث كونه ركناً للحجِّ لفواته به، وتوقُّف صحَّته عليه، واختصاصهُ به، وعليه يحملُ كلام الزركشيِّ، انتهى.
          ومما يدلُّ على فضلِ الطَّواف ما رواه البيهقيُّ في ((الشعب)) من حديثِ ابن عبَّاسٍ بإسنادٍ حسنٍ: ((ينزِلُ على هذا البَيتِ كلَّ يومٍ مِائةٌ وعشرُونَ رحمَةً: سِتُّون للطَّائفِينَ، وأربَعُونَ للمُصلِّينَ، وعشرُونَ للنَّاظِرِينَ))، لكن ذكرهُ ابن حبَّان في ((الضعفاء))، وقال ابنُ أبي حاتم: حديثٌ منكرٌ، فليتأمَّل.
          وقال الدميري: / ويسنُّ أن يكثر النظر للبيت فهو عبادةٌ أُثبِتت بلا نظر.