شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما جاء في قبر النَّبِيِّ وأبى بكر وعمر

          ░96▒ باب: مَا جَاءَ في قَبْرِ النَّبيِّ صلعم وأبي بَكْرٍ وَعُمَرَ.
          فيه: عَائِشَةُ: (أَن الرَّسولَ(1) صلعم كَانَ يتفقَّدُ في مَرَضِهِ: أَيْنَ أَنَا الْيَوْمَ؟ أَيْنَ أَنَا غَدًا، اسْتِبْطَاءً لِيَوْمِ عَائِشَةَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمِي قَبَضَهُ اللهُ تعالى بَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي، وَدُفِنَ في بَيْتِي). [خ¦1390] [خ¦1391]
          وَقَالَتْ عَائِشَةُ: قَالَ ◙(2) في مَرَضِهِ الذي توفِّي فيه: (لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ)، لَوْلا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ غَيْرَ أَنَّهُ خَشِي َأَنَّ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا.
          قَالَ سُفْيَانُ التَّمَّارِ: أَنَّهُ رَأَى قَبْرَ النَّبيِّ صلعم مُسَنَّمًا.
          وَقَالَ عُرْوَةُ: لَمَّا سَقَطَ عَلَيْهِمُ(3) الْحَائِطُ في زَمَانِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ المَلِكِ أَخَذُوا في بِنَائِهِ، فَبَدَتْ لَهُمْ(4) قَدَمٌ، فَفَزِعُوا وَظَنُّوا أَنَّهَا قَدَمُ النَّبيِّ صلعم فَمَا وَجَدُوا أَحَدًا يَعْلَمُ ذَلِكَ حَتَّى قَالَ لَهُمْ عُرْوَةُ: لا وَاللهِ مَا هي قَدَمُ النَّبيِّ، مَا هيَ إِلَّا قَدَمُ عُمَرَ(5).
          وأوصت عَائِشَةُ ابْنَ الزُّبَيْر: لا تَدْفِنِّي مَعَهُمْ، وَادْفِنِّي مَعَ صَوَاحِبِي بِالْبَقِيعِ، لا أُزَكَّى بِهِ أَبَدًا.
          وفيه: عُمَرُ: أنَّه قَالَ لابنه عَبْدَ الله: اذْهَبْ إلى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فَقُلْ: يَقْرَأُ عُمَرُ عَلَيْكِ السَّلامَ، ثُمَّ سَلْهَا(6) أَنْ أُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيَّ، قَالَتْ: كُنْتُ أُرِيدُهُ لِنَفْسِي، فَلأوثِرَنَّهُ الْيَوْمَ على نَفْسِي، فَلَمَّا أَقْبَلَ قَالَ لَهُ: مَا لَدَيْكَ؟ قَالَ: أَذِنَتْ لَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: مَا كَانَ شَيْءٌ أَهَمَّ إِّليَّ مِنْ ذَلِكَ الْمَضْجَعِ، فَإِذَا قُبِضْتُ فَاحْمِلُونِي ثُمَّ سَلِّمُوا، ثُمَّ قُلْ: يَسْتَأذنُ(7) عُمَرُ بنُ الخطَّابِ، فَإِنْ أَذِنَتْ(8) فَادْفِنُونِي، وَإِلَّا فَرُدُّونِي إلى مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، إِنِّي لا أَعْلَمُ أَحَدًا أَحَقَّ بِهَذَا الأمْرِ مِنْ هَؤُلاءِ النَّفَرِ الَّذِينَ تُوُفِّيَ رسولُ اللهِ(9) صلعم وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ، فَمَنِ اسْتَخْلَفُوه(10) بَعْدِي فَهُوَ الْخَلِيفَةُ، فاسْمَعُوا لهُ(11) وَأَطِيعُوا، فَسَمَّى عُثْمَانَ وَعَلِيًَّا وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَسَعْدَ بنَ أبي وقَّاصٍ(12)، وَوَلَجَ عَلَيْهِ شَابٌّ مِنَ الأنْصَارِ، فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِبُشْرَى اللهِ، كَانَ لَكَ مِنَ الْقَدَمِ في الإسْلامِ مَا قَدْ عَلِمْتَ، ثُمَّ اسْتُخْلِفْتَ فَعَدَلْتَ، ثُمَّ الشَّهَادَةُ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ، فَقَالَ: لَيْتَنِي يَا ابْنَ أَخِي، وَذَلِكَ كَفَافٌ(13) لا عَلَيَّ وَلا لي، أُوصِي الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِي بِالْمُهَاجِرِينَ الأوَّلِينَ خَيْرًا، أَنْ يَعْرِفَ لَهُمْ حَقَّهُمْ، وَأَنْ يَحْفَظَ لَهُمْ حُرْمَتَهُمْ، وَأُوصِيهِ بِالأنْصَارِ خَيْرًا: الَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ أَنْ يُقْبَلَ مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَيُعْفَى عَنْ مُسِيئِهِمْ، وَأُوصِيهِ بِذِمَّةِ اللهِ وَذِمَّةِ رَسُولِهِ أَنْ يُوفَي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَأَنْ يُقَاتَلَ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَأَنْ لا يُكَلَّفُوا فَوْقَ طَاقَتِهِمْ. [خ¦1392]
          قال المؤلِّف(14): غرض البخاريِّ ☼ في هذا الحديث(15) _والله أعلم_ أن يبيِّن فضل أبي بكر وعمر بما لا يشركهما فيه أحد، وذلك أنَّهما كانا وزيري رسول الله صلعم في حياته(16)، وصارا ضجيعيه بعد مماته، فضيلة خصَّهما الله(17) بها، وكرامة حباهما بها(18)، لم تحصل لأحد، ألا ترى وصيَّة عائشة إلى ابن الزُّبير ألَّا يدفنها معهم خشية أن تزكَّى بذلك، وهذا(19) من تواضعها ♦ وإقرارها / بالحقِّ لأهله وإيثارها به على نفسها مَن هو أفضل منها، ولم ترَ أن تُزَكَّى بدفنها مع الرَّسول(20) صلعم، ورأت عُمَر بن الخطَّاب لذلك أهلًا(21).
          وإنَّما استأذنها عمر في ذلك ورغب إليها فيه؛ لأنَّ الموضع كان بيتها، وكان لها فيه حقٌّ، وكان لها أن تُؤثر به نفسها لذلك(22)، فآثرت به عمر، وقد كانت عائشة رأت رؤيا دلَّتها على ما فعلت حين رأت ثلاثة أقمار سقطن في حجرها، فقصَّتها على أبي بكر الصِّدِّيق، فلمَّا توفِّي رسول الله(23) صلعم ودفن(24) في بيتها قال أبو بكر: هذا أحد أقمارك وهو خيرها.
          فيه(25) من الفقه: الحرص على مجاورة الموتى الصَّالحين في القبور طمعًا أن تنزل عليهم رحمة فتصيب جيرانهم، أو رغبة أن ينالهم دعاء من يزورهم في قبورهم(26) من الصَّالحين.
          وقول عمر: (فإذا(27) قُبضتُ فَاحمِلوني، ثمَّ قُلْ: يَستأذِنُ عُمَرُ) فقد روى مالك زيادة في هذه الحكاية فقال: قال عمر حين حضرته الوفاة إنِّي كنت قد استأذنت عائشة إذا متُّ أن أدفن في بيتها فقالت لي: نعم، وإنِّي لا أدري لعلَّها قالت ذلك من أجل سلطاني، فإذا متُّ فاسألوها ذلك فإن قبلت فادفنوني فيه وإن أبت فانصرفوا، ففسَّر معنى استئذانه الثَّانية عمر ☺. ذكره في «جامع المستخرجة»(28)، ففيه من الفقه: أنَّ من وُعِدَ بعدةٍ أنَّه يجوز له الرُّجوع فيها، ولا يُقضى عليه بالوفاء بها؛ لأنَّ عمر ☺ لو علم أنَّه لا يجوز لعائشة الرُّجوع في عِدتها، لما قال ذلك، وسيأتي في كتاب الهبة ما يلزم من العِدة وما لا يلزم منها، واختلاف النَّاس فيها، إن شاء الله. [خ¦2598]
          وفيه من الفقه: أنَّه من بعث رسولًا في حاجة مهمَّة أنَّ له أن يسأل الرَّسول قبل وصوله إليه، وقبل إيراده الرِّسالة عليه، ولا يُعدُّ ذلك من قلَّة الصَّبر، ولا يُذُّم فاعله بل هو من الحرص على الخير، لقوله لابنه وهو مُقبلٌ: (مَا لَدَيكَ).
          وفيه: أنَّ الخليفة مباح له ألَّا يستخلف على المسلمين غيره؛ لأنَّ رسول الله صلعم لم يستخلف أحدًا، وأنَّ للإمام أن يترك الأمر شورى بين الأمَّة إذا علم أنَّ في النَّاس بعده من يحسن الاختيار للأمَّة.
          وفيه: إنصاف عمر ☺ وإقراره بفضل أصحابه.
          وفيه: أنَّ المدح في الوجه بالحقِّ لا يُذمُّ المادح به؛ لأنَّ عمر لم ينهَ الأنصاريَّ حين ذكر فضائله، فبان بهذا أنَّ المدح في الوجه المنهيَّ عنه إنَّما هو المدح بالباطل.
          وفيه: أنَّ الرَّجل الفاضل ينبغي له أن يخاف على نفسه ولا يثق بعمله(29)، ويكون الغالب عليه الخشية، ويصغِّر نفسه لقوله: (ليتني تخلَّصت من ذلك كفافًا(30))، وقد سُئلت عائشة عن قول الله ╡: {والَّذِينَ(31) يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ}[المؤمنون:60]، فقالت: هم الذين يعملون الأعمال الصَّالحة ويخافون ألَّا تُقبل منهم، وعلى هذا مضى خيار السَّلف، كانوا من عبادة ربِّهم في الغاية القصوى، ويعدُّون أنفسهم في الغاية السُّفلى خوفًا على أنفسهم، ويستقلُّون لربِّهم ما يستكثره أهل الاغترار(32).
          فقد ثبت عن عمر(33) ☺ أنَّه تناول تبنة من الأرض، فقال: يا ليتني هذه التِّبنة، يا ليتني(34) لم أكُ شيئًا، يا ليت أمِّي لم تلدني، يا ليتني كنت نسيًا منسيًّا، وقال: لو كانت لي الدُّنيا لافتديت بها من النَّار ولم أرها. وقال قَتادة: قال أبو بكر الصِّدِّيق ☼: وددت أنِّي كنت(35) خضرة تأكلني الدَّواب.
          وقالت عائشة عند موتها: وددت أنِّي كنت نسيًا منسيًّا.
          وقال أبو عبيدة: وددت أنِّي كبش يذبحني أهلي يأكلون(36) لحمي ويحسون مرقي.
          وقال عِمْرَان بن حصين: وددت أنِّي رماد على أكمة تسفيني الرِّياح في يوم عاصف. ذكر ذلك كلَّه الطَّبريُّ، وسيأتي في كتاب الزُّهد والرِّقائق، باب الخوف من الله زيادة في هذا المعنى(37) إن شاء الله. [خ¦6480]
          وفيه: أنَّ الرَّجل الفاضل والعالم ينبغي له نصح الخليفة، وأن يوصيه بالعدل وحسن السِّيرة فيمن ولَّاه الله رقابهم من الأمَّة، وأن يحضَّه على مراعاة أمور المسلمين وتفقُّد أحوالهم، وأن يعرف الحقَّ لأهله.
          وفيه من الفقه: أنَّ الرَّجل الفاضل ينبغي له أن تُقال عثرته وتتجاوز عنه زلته لقوله في الأنصار أن يُعفى عن مسيئهم ومعنى العفو عن مسيئهم فيما لم يكن لله تعالى فيه حدٌّ ولا للمسلمين(38) حقٌّ، ويشبه ذلك قوله ◙: ((أقيلوا ذوي العثرات زلَّاتهم)) فسَّره أهل العلم أنَّ ذوي الهيئات أهل الصَّلاح والفضل الذين يكون من أحدهم الزَّلة والفلتة في سبِّ رجل بغير حدٍّ ممَّا يجب في مثله الأدب فيتجاوز له عن ذلك لفضله؛ لأنَّ مثل ذلك لم يعهد منه.
          وفي استبطاء النَّبيِّ ◙ في مرضه(39) يوم عائشة من الفقه: أنَّه يجوز للرَّجل الفاضل الميل بالمحبَّة إلى بعض أهله أكثر من بعض، وأنَّه لا إثم عليه في ذلك إذا عدل بينهنَّ في القسمة والنَّفقة(40).
          وقول سفيان التَّمَّار(41): أنَّه رأى قبر النَّبيِّ ◙ مسنَّمًا، فقد رُوي ذلك عن غيره.
          قال الطَّحاويُّ: وقد قال إبراهيم النَّخَعِيُّ: أخبرني من رأى قبر النَّبيِّ ◙ وصاحبيه مسنَّمة ناشزة من الأرض عليها مرمر أبيض.
          وقال اللَّيث: حدَّثني يزيد بن أبي حبيب أنَّه يستحبُّ أن يُسنَّم القبر، ولا يُرفع، ولا يكون عليه تراب كثير. وهو قول الكوفيِّين والثَّوريِّ واحتجُّوا بما تقدَّم وقال أشهب: أحبُّ أن يسنَّم القبر، وإن رُفع فلا بأس(42).
          وقال ابن حبيب مثله(43).
          وقال طاوس: كان يعجبهم أن يُرفع القبر شيئًا حتَّى يُعلم أنَّه قبر.
          وقال الشَّافعيُّ: تسطَّح القبور ولا تُبنى ولا تُرفع(44) تكون على وجه الأرض نحوًا من شبرٍ، قال: وبلغنا أنَّ النَّبيَّ صلعم سطَّح قبر ابنه إبراهيم، وأنَّ مقبرة المهاجرين والأنصار مسطَّحة قبورهم.
          وقال أبو مِجلَز: تسوية القبور من السُّنَّة. واحتجَّ أيضًا بحديث القاسم بن محمَّد، وأنَّه رأى قبر النَّبيِّ صلعم وصاحبيه لاطية بالأرض مسطوحة بالبطحاء، وقد بَيَّنَت عائشة العِلَّة في البناء على قبرِه وتحظيره وذلك خشية أن يُتَّخذ مسجدًا. /


[1] في (م): ((النبي)).
[2] في (م): ((قال النبي صلعم)).
[3] في (ص): ((عنهم)) والمثبت من (م) وبعدها في (م): ((زمن)) وقوله: ((بن عبد الملك)) ليس فيها.
[4] في (ص): ((له)) والمثبت من (م).
[5] في (م): ((عُرْوَةُ: هي قَدَمُ عُمَرَ)).
[6] في (ص): ((ثم اسألها ثم)) والمثبت من (م).
[7] في (ص): ((يستأمر)) والمثبت من (م) وقوله بعدها: ((ابن الخطاب)) ليس في (م).
[8] زاد في (م): ((لي)).
[9] في (م): ((النبي)).
[10] في (م): ((استخلفوا)).
[11] زاد في (م): ((واسمعوا)).
[12] قوله: ((وسعد بن أبي وقاص)) ليس في (م).
[13] في (م): ((كفافًا)).
[14] قوله: ((قال المؤلف)) ليس في (م).
[15] في (م): ((الباب)).
[16] قوله: ((في حياته)) ليس في (م). وبعدها في (ص): ((وعادا)) والمثبت من (م).
[17] قوله: ((الله)) لفظ الجلالة ليس في (م).
[18] في (م): ((إياها)).
[19] في (م): ((وهو)).
[20] في (م): ((النبي)).
[21] في (م): ((أهلًا لذلك)).
[22] قوله: ((لذلك)) ليس في (م).
[23] في (م): ((النبي)).
[24] في (م): ((دفن)).
[25] في (م): ((وفيه)).
[26] في (م): ((يزور قبورهم)).
[27] في (م): ((إذا)).
[28] قوله: ((فقد روى مالك زيادة في هذه الحكاية.... «جامع المستخرجة»)) زيادة من (م) وبعدها فيها: ((وفيه)).
[29] في (م): ((بعلمه)).
[30] في (م): ((خلصت من ذلك كفاف)).
[31] في (م): ((الذين)).
[32] زاد في (م): ((به)).
[33] زاد في (م): ((ابن الخطاب)). وقوله بعدها: ((من الأرض)) ليس في (م).
[34] في (م): ((يا ليت)).
[35] قوله: ((كنت)) ليس في (م).
[36] في (م): ((فيأكلون)).
[37] في (م): ((الطبري وسأزيد في ذكر ما تمنَّاه الصَّالحون في كتاب التَّمني)).
[38] قوله: ((حد ولا للمسلمين)) زيادة من (م).
[39] قوله: ((في مرضه)) زيادة من (م) وفيها بعده: ((فيه من الفقه)).
[40] في (م): ((النفقة والقسمة)).
[41] قوله: ((التمار)) زيادة من (م).
[42] في (ص): ((والثوري أنَّ القبور تُسنم، وإن رُفع فلا بأس)) والمثبت من (م).
[43] في (م): ((وقال ابن حبيب: أحبُّ إليَّ أن يسنَّم)).
[44] زاد في (م): ((قال الشافعي)).