شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب من أحب الدفن في الأرض المقدسة أو نحوها

          ░68▒ بَابُ: مَنْ أَحَبَّ الدَّفْنَ في الأرضِ المُقَدَسَةِ أوْ نَحْوِها.
          فيهِ: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ(1): (أُرْسِلَ مَلَكُ المَوْتِ إلى مُوسَى، فَلَمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ، فَرَجَعَ إلى رَبِّهِ، فَقَالَ: أَرْسَلْتَنِي إلى عَبْدٍ لا يُرِيدُ المَوْتَ، فَرَدَّ اللهُ إلَيْهِ عَيْنَهُ، فَقَالَ: ارْجِعْ، فَقُلْ(2) لَهُ: يَضَعُ يَدَهُ على مَتْنِ ثَوْرٍ، فَلَهُ بِكُلِّ مَا غَطَّتْ يَدُهُ لِكُلِّ(3) شَعْرَةٍ سَنَةٌ قَالَ: أي رَبِّ، ثمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ثمَّ المَوْتُ، قَالَ: فَالآنَ، فَسَأَلَ اللهَ أَنْ يُدْنِيَهُ مِنَ الأرْضِ المُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ، قَالَ رَسُول اللهِ صلعم: لَوْ كُنْتُ ثَمَّ لأرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إلى(4) جَانِبِ الطَّرِيقِ عِنْدَ الكَثِيبِ الأحْمَرِ). [خ¦1339]
          قال أبو بَكْرٍ محمَّدُ بنُ إِسْحَاقَ بن خُزَيْمَةَ: أنكر بعض أهل البدع والجهميَّة هذا الحديث ودفعوه، وقالوا: لا يخلو أن يكون موسى عَرَفَ ملك الموت، أو لم يعرفه، فإن كان عَرَفَهُ فقد ظَلَمَه واستَخَفَّ برسولِ اللهِ، ومن استَخَفَّ برسولِ اللهِ فهو مستخفٌّ باللهِ، وإن كان لم يَعْرِفْه فرواية مَن روى أنَّه كان يأتي موسى عيانًا لا معنى لها.
          قال الجَهْمِيُّ: وزَعَمَتِ الحَشَوِيَّةُ أنَّ الله لم يُقَاصِصْ(5) ملكَ الموت من اللَّطمة وفقء العين، والله تعالى لا يظلم أَحَدًا.
          قال ابنُ خُزَيْمَةَ: وهذا اعتراض مَنْ أَعْمَى اللهُ بصيرتَه، ولم يُبَصِّرْهُ رشده، ومعنى الحديث صحيحٌ على غير ما ظنَّهُ الجَهْمِيُّ، وذلك أنَّ موسى صلعم لم يَبْعَثِ اللهُ إليه ملك الموت وهو يُرِيْدُ قَبْضَ رُوْحه حينئذٍ؛ وإنَّما بعثه(6) إليه اختبارًا وابتلاءً كما أمر الله خليله إبراهيم بذبح ابنه، ولم يُرد ╡ إمضاء الفعل ولا قتل ابنه(7)، ففداه بذبحٍ عظيمٍ {وَنَادَيْنَاهُ(8) أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا}[الصافات:104-105]ولو أرادَ(9) قَبْضَ رُوْحِ موسى / حين لطم(10) ملك الموت لكان ما أراد؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}[النحل:40].
          وكانت اللَّطمة مباحةٌ عند موسى(11) إذا رأى شخصًا في صورة آدميٍّ قد دخل بيته(12) لا يَعْلَمُ أنَّه ملك الموت، وقد أباح الرسول(13) صلعم فقء(14) عين النَّاظر في دار المسلم بغير إذنٍ، رواه بَشِيْرُ بنُ نَهِيْك، عَنْ أبي هريرةَ أنَّ النَّبيَّ صلعم قال: ((مَنِ اطَّلَعَ في دَارِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنٍ، فَفَقَأَ(15) عَيْنَهُ فلا دِيَةَ ولا قِصَاصَ)). ومحالٌ أن يَعْلَمَ موسى أنَّه ملكُ الموتِ ويَفْقَأُ عينَهُ، وكذلك لا يُنكَر ألَّا يعلمه(16)، وقد جاءت الملائكةُ خليلَ اللهِ إبراهيمَ ◙ ولم يَعرفْهم في الابتداء حتَّى أَعْلَمُوه أنَّهم رُسُلُ ربِّهم، قالَ اللهُ تباركَ وتعالى: {وَلَقَدْ(17) جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالبُشْرَى قَالُواْ سَلاَمًا قَالَ سَلَامٌ..} إلى {خِيْفَةً}(18)[هود:69-70]ولو عَلِمَ إبراهيمُ في الابتداء أنَّهم ملائكةُ الله(19) لكان مِن المحالِ أن يقدِّمَ إليهم عِجْلًا لأنَّ الملائكةَ لا تَطْعَمُ، فلما أَوْجَسَ(20) منهم خيفةً قالُوا: لا تَخَفْ إنَّا أُرْسِلْنَا إلى قومِ لوطٍ، وقد أخبر الله ╡ أنَّ رُسُلَهُ(21) جاءت لوطًا ◙ فَسِيْءَ بهم وضاق بهم ذَرْعًا، ومحالٌ أن يَعْلَمَ في الابتداء أنَّهم رُسُلُ الله ويَضِيْقُ بهم ذَرْعًا، أو يسيء بهم.
          وقد جاء الملك إلى مريمَ فلم تَعْرِفْهُ، واستعاذَتْ منه، ولو عَلِمَتْ مريمُ في الابتداء أنَّه ملكٌ(22) جاء يُبَشِّرُهَا بغلامٍ يُبْرِئُ الأكْمَهَ والأبرَصَ ويكون نبيًّا ما استعاذَتْ منه.
          وقد دخل الملكان على داودَ في شبه آدميَّين يختصمان عنده ولم يَعْرِفْهما وإنَّما بَعَثَهما اللهُ تعالى(23) ليَتَّعِظَ بدعوى أحدهما على صاحبه، ويَعْلَم أنَّ الَّذي فعله لم يكن صوابًا فتَابَ إلى الله ونَدِمَ، قال الله تعالى: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا(24)}[ص:24]، فكيف يُسْتَنْكَرُ ألَّا يعرف موسى ملكَ الموتِ حين دَخَلَ عليه.
          وقد جاء جبريلُ النَّبيَّ صلعم وسَأَلَهُ(25) عَنِ الإيمانِ والإسلامِ في صورةٍ لم يعرفْهُ النَّبيُّ صلعم ولا أَحَدٌ مِنْ أصحابِهِ، فلما ولَّى أخبَرَ النَّبيَّ صلعم(26) أنَّه جبريلُ، وقال: ((مَا أَتَانِي في صُوْرَةٍ قَطُّ(27) إلَّا عَرَفْتُهُ، غَيْرَ هَذِهِ المَرَّةَ)). وكان(28) يأتيه في بعض الأوقات مرَّةً(29) في صورةٍ، ومَرَّةً في صورةٍ أُخرَى، وأخبر صلعم أنَّه لمْ يرَ جبريلَ في(30) صورته الَّتي خُلِقَ عليها إلَّا مَرَّتَين.
          وأمَّا قول الجَهْمِيِّ: إنَّ الله تعالى لم يُقَاصِصْ(31) ملك الموت من اللَّطمة، فهو دليلٌ على جَهْلِ قائله، ومَن أخبره أنَّ بين الملائكة وبين الآدميِّين(32) قِصَاصٌ؟! ومن أخبره أنَّ ملك الموت طلب القِصَاصَ(33) من موسى، فلمْ يُقَاصِصْهُ الله منه. وقد أخبرنا الله تعالى أنَّ موسى قَتَلَ نفسًا ولم يُقَاصِصْ(34) الله منه لقتله.
          وقيل(35) له: إذا كانت اللَّطمة مباحةٍ يكون(36) حُكْمُها على كلِّ الأحوال حُكْمُ العَمْدِ، فيه القِصَاصُ؟ أو تكون في بعض الأحوال خطأٌ تجب فيه(37) الدِيةُ على العاقلة، وما الدليلُ أنَّ فقءَ عين ملك الموت كان عمدًا فيه القِصَاصُ دون أن يكون خَطَأً، وهل تَرْكُ(38) القِصَاصِ مِن موسى لملك الموت لو كان فَقَأَ(39) عين الملك عمدًا، وكان حُكْمُ الملائكة مع بني آدم(40) القِصَاصَ كحُكْمِ الآدميين، إلَّا كترك القِصَاص من موسى لقتيله، وكترك القِصَاص مِنْ أحدِ بنيْ آدم لأخيه.
          وقد يأمر النَّبيُّ صلعم بالأمر على وجه(41) الاختبار والابتلاء، لا على وجه الإمضاء لأمره(42)، كما أمر ◙ بإقامة الحدِّ على الرَّجُل الَّذي زَعَمَتِ المرأةُ أنَّه وطئها مِن غير إقرار الرَّجُل، ولا إقامةِ بيِّنةٍ عليه، فبان للنَّبيِّ صلعم في المتعفِّف مِنَ الوطء(43)، وصَحَّ عنده أنَّ الَّذي رمته به المرأة(44) كان زنا، وهذا كأمر سُلَيْمَان بن داودَ بقَطْعِ الصَّبي باثنين(45)، وإنَّما أراد أن يَخْتَبِرَ مَنْ أُمُّ الصَّبي، لأنَّ الأُمَّ أَحَنُى(46) على ولدها وأَشْفَقُ، فلما رَضِيَتْ إحداهما(47) بقَطْعِ الصَّبي، ورَضِيَتِ الأُخرَى بدَفْعِهِ إلى الثَّانية، بان عنده وظهر أنَّ أُمَّ الصَّبي اختَارَتْ حياةَ ابنِها، وكذلك بَعَثَ اللهُ تعالى ملكَ الموت إلى موسى للابتلاء والاختبار.
          وقد أخبرنا نبيُّنا صلعم أنَّ الله تعالى لم يقبض نبيًّا قطُّ حتَّى يُرِيَهُ مقعدَهُ من الجَنَّة ويخيره، فلا يجوز أن يُؤْمَرَ ملكُ الموت بقبضِ رُوْحِهِ قبل أن يُرِيَهُ مقعدَهُ من الجَنَّةِ، وقبل أن يُخْيِّرَهُ(48)، واللهُ وليُّ التَّوفيق.
          ومعنى سؤال موسى ◙(49) أنْ يُدْنِيَهُ مِنَ الأرضِ المقدَّسةِ _والله أعلم_ لفَضْلِ مَنْ دُفِنَ في الأرضِ(50) المقدَّسةِ من الأنبياءِ والصَّالحين، فاستُحِبَّ مجاورتُهم في المماتِ، كما يُسْتَحَبُّ جيرتُهم في المحيا؛ ولأنَّ الفُضَلاءَ يقصدون المواضعَ الفاضلةَ ويزورون قُبُورها ويدعون لأهلِها(51).
          قال المُهَلَّبُ: إنَّما سَأَلَ الدُّنُوَ من الأرضِ المقدَّسةِ ليسهل على نفسِهِ، وتسقط عنه(52) المشقَّةُ الَّتي تكون على مَنْ هو بعيدٌ منها من المشي وصعوبته عند البَعْثِ والحَشْرِ.
          قال غيره(53): ومعنى بُعده منها رميةً بحجرٍ(54) ليُعمي قبره، لئلَّا يَعْبُدَ قبرَهُ جُهَالُ(55) أهل مِلَّتِهِ، ويقصدوه(56) بالتعظيمِ _والله أعلم_ لأنَّ النَّبيَّ صلعم أخبر أنَّ اليهودَ تفعلُ ذلك بقولِهِ: ((لَعَنَ اللهُ اليَهُوْدَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ)) يُحَذِّرُ ذلك.


[1] قوله: ((قال)) ليس في (م).
[2] في (م): ((وقل)).
[3] في (م): ((ما أعطت يده بكلِّ)).
[4] قوله: ((إلى)) ليس في (م).
[5] في (م): ((لم يقاص)).
[6] في (م): ((بعثه الله)).
[7] في (م): ((ابن إبراهيم)).
[8] في (م): ((وناداه)).
[9] زاد في (م) و(ي):((الله تعالى)).
[10] في (ص): ((ألهم)). والمثبت من (م) و(ي).
[11] في (م) و(ي): ((اللطمة من موسى مباحة عنده)) وبعدها في (ي): ((إذ)).
[12] في (ص): ((عنده)) والمثبت من (م) و(ي).
[13] في (م) و(ي): ((النبي)).
[14] في (ي): ((فقع)).
[15] في (م): ((ففقؤوا)).
[16] في (ص): ((لا ينظره إلَّا بعلمه)) والمثبت من (م) و(ي).
[17] في (م) و(ص): ((ولما)).
[18] في (م) و(ي): ((قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ، فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيْفَةً)).
[19] قوله: ((الله)) ليس في (م).
[20] في (ص): ((وجس)) والمثبت من (م) و(ي).
[21] زاد في (م) و(ي): ((قد)).
[22] في (م): ((فلو علمت مريم أنَّه ملك في الابتداء)).
[23] زاد في (م): ((إليه)).
[24] زاد في (م) و(ي): ((وأناب)).
[25] قوله: ((وسأله)) زيادة من (ي) وفي (م): ((حين سأله)).
[26] في (م): ((خبره ◙)).
[27] في (م) و(ي): ((قط في صورة)).
[28] في (م): ((كان)).
[29] قوله: ((مرَّة)) ليس في (م) و(ي).
[30] في (م): ((على)).
[31] في (م): ((يقاصَّ)).
[32] في (م) و(ي): ((بين الملائكة والآدميين)).
[33] في (م): ((القود)). وفيها بعدها: ((فلم يقاصَّه)).
[34] في (م): ((يقصَّ)).
[35] في (م): ((ويقال)). وقوله: ((له)) زيادة من (م) و(ي).
[36] في (م): ((أيكون)).
[37] في (م): ((فيها)).
[38] في (م): ((يترك)).
[39] في (م): ((فقؤه)).
[40] زاد في (م): ((في)).
[41] في (م): ((معنى)).
[42] في (م): ((كأمره)).
[43] في (م): ((الواطئ)).
[44] قوله: ((به المرأة)) ليس في (م) وبعدها في (ي) و(م): ((كان بريًّا)).
[45] قوله: ((باثنين)) ليس في (م).
[46] في (م): ((أحنُّ)).
[47] قوله: ((إحداهما)) زيادة من (م) و(ي).
[48] في (م): ((يخبره)).
[49] زاد في (م): ((الله)).
[50] في (م): ((دفن بالأرض)).
[51] في (م): ((لهم)).
[52] في (م): ((عنها)).
[53] في (م): ((والحشر... وغيره)).
[54] في (م): ((بعده منه بحجر)).
[55] في (م): ((لئلَّا يعبد جهال)).
[56] في (ص): ((ويقصدونه)) والمثبت من (م) و(ي).