شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الميت يسمع خفق النعال

          ░67▒ بَابُ: المَيِّتِ يَسْمَعُ خَفْقَ النِّعَالِ.
          فيه: أَنَسٌ: قَالَ النَّبيُّ صلعم: (إِذَا وُضِعَ العَبْدُ في قَبْرِهِ، وَتُوُلِّيَ وَذَهَبَ(1) أَصْحَابُهُ، حتَّى إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، أَتَاهُ مَلَكَانِ فَأَقْعَدَاهُ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ في هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ؟ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، فَيُقَالُ: انْظُرْ إلى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ أَبْدَلَكَ اللهُ بِهِ(2) مَقْعَدًا مِنَ الجَنَّةِ)، [خ¦1338]
          قَالَ صلعم: (فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا، وَأَمَّا الكَافِرُ والمُنَافِقُ(3) فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ، فَيُقَالُ: لا دَرَيْتَ وَلا تَلَيْتَ، ثمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً(4) بَيْنَ أُذُنَيْهِ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ).
          قوله ◙ في الميِّتِ: (إِنَّهُ يَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ)، وكلامه مع الملَكين يبيِّن قوله: {وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّنْ فِي القُبُورِ}[فاطر:22]أنَّه على غير العموم.
          قال المُهَلَّب: ولا معارضةٌ بين الآية والحديث(5)؛ لأنَّ كلَّ ما نُسِبَ إلى الموتى مِن استماع النِّداء(6) والنَّوح فهي في هذا الوقت عند الفتنة أوَّل ما يوضع الميِّت في قبره(7) أو متى شاء الله أن يَرُدَّ أرواح الموتى رَدَّها إليهم لمَّا شاء {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ(8)}[الأنبياء:23]، ثمَّ قال(9) بعد ذلك: لا يسمعون، كما قال ╡: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ المَوْتَى}[النمل:80]، {وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي القُبُورِ}[فاطر:22]. وفيه: أنَّ فتنة القبر حقٌّ، وهو مذهب أهل السُّنَّة، وسيأتي الكلام فيه في بابه إن شاء الله [خ¦1372].
          وأمَّا قوله: (يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ) فالَّذي يليه هم(10) الملائكة الَّذين يلون فتنته ومسألته في قبره، والثَّقلان: الجِنُّ والإنسُ منعهم الله سماع صيحته إذا دُفِنَ(11) في قبره.
          فإن قال قائل: الجِنُّ مِن الثَّقلين(12)، وقد منعهم الله سماع هذه الصَّيحة، ولم يمنعهم سماع كلام الميِّت إذا حُمِلَ وقال: قدِّموني قدِّموني، فما الفرق بين ذلك؟ قيل: إنَّ كلام الميِّت حين يُحْمَل إلى قبره هو في حُكم الدُّنيا، وليس فيه شيءٌ من الجزاء والعقوبة؛ لأنَّ الجزاء لا يكون إلَّا في الآخرة، وإنَّما كلامه اعتبارٌ لمن سمعه وموعظةٌ، فأسمعها(13) الله الجِنَّ؛ لأنَّه جعل فيهم قوةٌ يثبتون بها عند سماعه، ولا يضعفون بخلاف الإنسان الَّذي كان يصعق لو سمعه، وصيحة الميِّت في القبر عند فتنته هي عقوبةٌ وجزاءٌ، فدخلت(14) في حُكْمِ الآخرة، فمنع الله الثَّقلين الَّلذين هما في دار الدُّنيا سماعَ عقوبته وجوابه في الآخرة، وأسمعه سائر خلقه.
          وقوله: (لا دَرَيْتَ وَلا تَلَيْتَ)(15) الأصل فيه تَلَوت، فردُّوه إلى الياء ليزدوج الكلام، هذا قول ثَعْلَبٍ(16). وقال ابن السِّكِيْتِ: تَلَيْتَ هاهنا اتِّباع ولا معنى لها.
          وقال ابنُ الأَنْبَارِي: إنَّما(17) قيل للجِنِّ والإنس: الثَّقلان: لأنَّهما كالثِّقل للأرض وعليها، والثِّقل بمعنى الثَّقيل وجمعها: أثقالٌ، ومجراهما مجرى قول العرب مِثْلُ وَمَثِيْل، وشِبْهُ وشَبِيْه، وكانت العرب تقول للرَّجُل(18) الشُّجاع: ثقلٌ على الأرض، فإذا مات أو قُتِلَ: سقط ذلك عنها(19).
          قالت الخَنْسَاءُ ترثي أخاها(20):
أبعدَ ابنِ عَمْرٍو مِنْ آلِ الشَّرِيْدِ(21) حَلَتْ بِهِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا.


[1] قوله: ((وذهب)) ليس في (م).
[2] قوله: ((به)) ليس في (م) وبعدها في (م) و(ي): ((قال النبي صلعم)).
[3] في (ي): ((أو المنافق)).
[4] قوله: ((ضربة)) ليس في (م).
[5] في (م): ((وهذا الحديث)).
[6] في (ي): ((السَّماع النِّداء))، وفي (م): ((السماع للنداء والنوح والخفق فهو)).
[7] قوله: ((في قبره)) ليس في (م).
[8] قوله: ((وهم يسألون)) ليس في (م).
[9] قوله: ((قال)) ليس في (م).
[10] في (م): ((من يليه فهم)).
[11] في (م): ((فتن)).
[12] قوله: ((منعهم الله سماع.... الجنُّ من الثَّقلين)) ليس في (ي).
[13] في (م): ((وأسمعه)).
[14] في (م): ((قد دخلت)).
[15] زاد في (م): ((قال ثعلب)).
[16] قوله: ((هذا قول ثعلب)) ليس في (م). وزاد في: (م): ((وقال ابن الأنباري: في قولهم لا تليت خمسة أقوالٍ: لا تلوت على معنى لا أحسنت أن تتبع من قولهم: تلوت الرَّجُل إذا تبعته، وقال الأصمعي: هو ائتليت الشَّيء من ألوت الشَّيء إذا استطعته، يقال: ما ألوت الصَّيام أي: ما استطعته. قال الأخطل:
~فمن يبتغي مسعاةَ قومي فَلْيَرُمْ صعودًا إلى الجوزاءِ هلْ هوَ مؤتلي
معناه: هل هو مستطيع. وقال الفرَّاء: ولا ائتليت هو افتعلت... من ألوت في الشَّيء إذا قصَّرت في طلب الدِّراية... ثمَّ لا دريت ليكون انتقال. كذا قال امرؤ القيس:
~وما المرءُ ما دامَتْ حُشاشةُ نفسِهِ بمدركِ أطرافِ الخُطُوب ولا آلِ
معناه ولا مقصر. يونس بن حبيب: هو لا أبليت بفتح الألف وتسكين التَّاء والمعنى: ولا أبيلت إليك أي: لا كان لها أولاد ابتلوها، يدعو عليه بالفقر وذهاب المال. وحكى أبو عُبَيْدٍ وجهًا سادسًا: لا دريت ولا أليت ولم يفسِّره. قال ابنُ الأنباريُّ: والأصل فيه عندي ولا ألوت أي ولا قصَّرت، أو على مذهب الأصمعي ولا استطعت، فردَّه إلى الياء ليزدوج... مع دريت)).
[17] في (م): ((وإنَّما)).
[18] في (م): ((الرَّجُل)).
[19] في (م): ((سقط عنها بذلك ثقل)).
[20] قوله: ((ترثي أخاها)) ليس في (م).
[21] في (ص): ((أبعد ابن عمرو من الزيد)) والمثبت من (م) و(ي).