شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب قول النبي: إنا بك لمحزونون

          ░43▒ بَابُ: قَوْلِ الرَّسُولِ(1) صلعم: (إِنَّا بِكَ لَمَحْزُونُونَ)
          وَقَالَ ابنُ عُمَرَ / عَنِ الرَّسُولِ(2) صلعم: (تَدْمَعُ العَيْنُ وَيَحْزَنُ القَلْبُ).
          فيهِ أَنَسٌ: (دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلعم على أبي سَيْفٍ القَيْنِ، وَكَانَ ظِئْرًا لإبْرَاهِيمَ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ، ثمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللهِ صلعم تَذْرِفَانِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ(3) بنُ عَوْفٍ: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ: يَا ابنَ عَوْفٍ(4) إِنَّهَا رَحْمَةٌ، ثمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى، فَقَالَ(5): إِنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، وَالقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا(6) وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ). [خ¦1303]
          قال المُؤَلِّفُ: قد تقدَّم في الأبواب قبل هذا بيان البكاء والحزن المباحين والمحرَّمين بما فيه كفاية [خ¦1290] [خ¦1291]، لكنَّا كرهنا أن نخلي هذا الباب من(7) شيءٍ مِن الكلام في هذا المعنى، هذا الحديث(8) تفسير البكاء المباح والحزن الجائز، وذلك ما كان بدمع العين ورقَّة النَّفس، ولم يكن تَسَخُّطًا لأمر الله ╡، إذ الفِطَرُ مجبولةٌ على الحزن، وقد قال الحَسَنُ البصريُّ: العين(9) لا يملكها أحدٌ، صبابة المرء بأخيه.
          وروى ابن أبي شَيْبَةَ مِن حديث أبي هريرةَ: أنَّ النَّبيَّ صلعم كان في جنازةٍ مع عُمَرَ فرأى امرأةً تبكي فصاح عليها عُمَرُ، فقالَ النَّبيُّ: ((دَعْهَا يا عُمَرُ، فإنَّ العينَ دامعةٌ، والنَّفْسَ مصابةٌ، والعَهْدَ قَرِيْبٌ)). فعذرها ◙ مع قرب العهد؛ لأنَّ بعده ربَّما يكون بلاء الثُّكْل، وفتور فورة الحزن(10)، فإذا كان الحزن على الميِّت وفاءً له ورقِّةً عليه ولم يكن سخطًا للقضاء ولا تشكِّيًا به، فهو مباحٌ كما تقدَّم قبل هذا، لقوله صلعم: (إنَّها رَحْمَةٌ) [خ¦1284].
          وقال أبو الحَسَنِ بن القَابِسِيِّ: قول أَنَسٍ في أبي سَيفٍ القَيْنِ: (وكان ظِئْرًا لإبراهيم) هو الذي(11) يحتَجُّ به في أنَّ اللَّبن للفحل، وقيل: كان ظِئْرًا أي: رضيعه وليس بشيءٍ؛ لأنَّ أبا سيفٍ كان كالرَّبيب؛ لأنَّ في نصَّ الحديث ما يدلُّ أنَّ إبراهيم كان عند زوج أبي سيفٍ وهو مريضٌ(12).
          فيهِ: شدَّة إغراق النِّسَاء في الحزن وتجاوزهنَّ الواجب فيه لنقصهنَّ، ومن رَتَعَ حول الحِمَى يُوشِكُ أن يواقعه، وقد روى مَعْمَرٌ عن الزُّهْرِيِّ، قال: ثلاثةٌ مِن أمر الجاهليَّة لا يدعها النَّاس أبدًا: الطَّعْنُ في الأحسابِ، والنِّياحةُ، والاستسقاءُ بالأنواءِ.
          ورُوِيَ(13) عن الحَسَنِ البصريِّ في قوله تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً}[الرُّوم:21]أنَّ(14) المودَّةَ: الجِمَاع، والرَّحمةَ: الولد، ذكره ابن وَهْبٍ.


[1] في (م) و(ي): ((النبي)).
[2] في (م) و(ي): ((النبي)).
[3] قوله: ((عبد الرَّحمن)) ليس في (م).
[4] قوله: ((يا ابن عَوْف)) ليس في (م).
[5] قوله: ((ثمَّ أتبعها أخرى فقال)) ليس في (م).
[6] في (ص): ((يُرضي لربنا)) والمثبت من (م) و(ي).
[7] في (ي): ((عن)).
[8] في (ص): ((البكاء)) والمثبت من (م) و(ي).
[9] في (م): ((العبرة)).
[10] في (م) صورتها: ((لأنَّ مع بعده ما يقوِّي بلاء الثُّكل وفتور قوَّة الحزن على الميِّت)).
[11] في (م): ((لإبراهيم مؤمنًا)).
[12] قوله: ((مريض)) ليس في (م).
[13] في (م): ((روي)).
[14] قوله: ((أن)) ليس في (م).