شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الصلاة على الشهيد

          ░72▒ بَابُ الصَّلاَةِ عَلَى الشَّهِيدِ
          فيه: جَابِرٌ قَالَ: (كَانَ(1) صلعم يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ ثُمَّ يَقُولُ: أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ؟ فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إلى أَحَدِهِمَا، قَدَّمَهُ في اللَّحْدِ(2)، وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ). [خ¦1343]
          وفيه: عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ: (أَنَّ النَّبِيَّ صلعم خَرَجَ يَوْمًا فَصَلَّى على أَهْلِ أُحُدٍ صَلاتَهُ على الْمَيِّتِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إلى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: إِنِّي فَرَطٌ لَكُمْ، وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ، وَإِنِّي وَاللهِ لأنْظُرُ إلى حَوْضِي الآنَ، وَإِنِّي أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الأرْضِ(3)، وَإِنِّي وَاللهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي، وَلَكِنْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا). [خ¦1344]
          وترجم لحديث جابرٍ: بَاب دَفْنِ الرَّجُلَيْنِ وَالثَّلاثَةِ في قَبْرٍ وَاحِدٍ، وباب مَنْ لَمْ يَرَ غَسْلَ الشُّهَيد، وباب مَنْ يُقَدَّمُ في اللَّحْدِ.
          اختلف العلماء في هذا الباب، فقال مالكٌ: الذي سمعته(4) من أهل العلم والسُّنَّة أنَّ الشهداء لا يغسَّلون، ولا يصلَّى على أحدٍ منهم، ويدفنون في ثيابهم(5) التي قتلوا فيها، وهو قول عطاءٍ والنخعيِّ والحكم واللَّيث والشافعيِّ وأحمد.
          وقال أبو حنيفة والثوريُّ والأوزاعيُّ: يصلَّى عليه ولا يغسَّل، وهو قول مكحولٍ.
          وقال عِكْرِمَة(6): لا يغسَّل الشهيد؛ لأنَّ(7) الله قد طيَّبه، ولكن يصلَّى عليه.
          وقال سعيد بن المسيِّب والحسن البصريُّ: يغسَّل الشهيد ويصلَّى عليه؛ لأنَّ كلَّ ميِّتٍ يجنب(8).
          وحجَّة مالكٍ ومن وافقه حديث جابرٍ أنَّهم لم يغُسَّلوا ولم يُصلَّ عليهم(9)، وأيضًا فإنَّ النبيَّ صلعم قال في دم الشهيد: ((اللَّون لون دمٍ(10)، والريح ريح المسك)).
          وقد روي في الحديث: ((إذا كان يوم القيامة وبعث الله العباد، قام الشهداء من قبورهم ووثبوا على خيولهم مستشفعين إلى الله تعالى بذلك)). فوجب ألَّا تُغيَّر أحوالهم أخذًا بالسُّنَّة التي رواها جابرٌ في قتلى أُحُد.
          قال ابن القصَّار: ويوم أُحُد قتل فيه سبعون نفسًا، فلا يجوز أن تخفى الصلاة عليهم.
          وقوله صلعم: ((اللَّون لون دمٍ، والريح ريح مسكٍ(11))) نهيٌ عن الصلاة عليه؛ لأنَّه ميِّتٌ لا يُغسَّل فوجب ألَّا يصلَّى عليه، دليله السقط الذي لم يستهلَّ، وإذا سقط فرض الطهارة سقط فرض الصلاة، قال(12) الله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ(13)}[آل عِمْرَان:169]وقال(14) صلعم: ((صلُّوا على موتاكم)). وقد نفى الله عنهم الموت وأوجب لهم الحياة فلا تجب الصلاة عليهم.
          واحتجَّ أبو حنيفة ومن وافقه بحديث عقبة بن عامرٍ: ((أنَّ النبيَّ صلعم صلَّى على أهل أُحُد بعد ثمان سنين صلاته على الميِّت))، وبما(15) روي: ((أنَّه صلَّى على حمزة سبعين صلاةً))، قالوا: فلو لم(16) تجز الصلاة على الشهداء(17) ما صلَّى عليهم، روي ذلك من حديث ابن عبَّاسٍ وابن الزبير، فأمَّا حديث ابن عبَّاسٍ(18) فرواه أحمد بن عبد الله بن يونس، عن أبي بكر بن عيَّاشٍ، عن يزيد بن أبي زيادٍ، عن مقسمٍ، عن ابن عبَّاسٍ: ((أنَّ رسول الله صلعم كان يوضع بين يديه يوم أُحُد عشرةٌ فيصلِّي عليهم و على حمزة، ثمَّ ترفع العشرة، وحمزة موضوعٌ، ثمَّ توضع عشرةٌ فيصلِّي عليهم وعلى حمزة معهم، يُكبِّر عليهم سبع تكبيراتٍ حتَّى فرغ(19))).
          وحديث ابن الزُّبير ذكره ابن إسحاق، عن يحيى بن عَبَّاد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن جدِّه.
          وقال أهل المقالة الأولى: يحتمل أن يكون(20) حديث ابن عبَّاسٍ وابن الزُّبير أنَّه صلَّى ◙ على قتلى أُحُد على من حُمِل فعاش، حتَّى تستعمل الأحاديث، ويجوز أن يكون صلَّى(21) عليهم أي: دعا لهم، و على هذا يُتأوَّل حديث عقبة أنَّه دعا لهم كما يُدعى للميِّت بالمغفرة والرحمة؛ لأنَّ الصلاة من النَّبيِّ صلعم لأمَّته هي بمعنى الدعاء لهم، ألا ترى قوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ}[التوبة:103]أنَّ المراد به الدعاء لهم.
          والدليل على صحَّة هذا التأويل حديث ابن إسحاق، عن عبد الله بن عمر العَبَليِّ عن عبيد بن جبيرٍ عن(22) عبد الله بن عَمْرو بن العاص قال: أخبرني أبو مُوَيْهِبَة، مولى النبيِّ صلعم قال: قال لي رسول الله صلعم(23): ((إنِّي قد أُمِرت أن أستغفر لأهل البقيع))، فاستغفر لهم ثمَّ انصرف، فقال لي: ((إنَّ الله قد(24) خيَّرني في مفاتيح خزائن الأرض والخلد فيها ثمَّ الجنَّة أو لقاء ربِّي فاخترت لقاء ربِّي)). وأصبح(25) رسول الله صلعم من ليلته تلك فبدأه وجعه الذي مات فيه، فكان خروجه صلعم إلى البقيع كالمودع للأحياء والأموات، حتَّى نُعِيَت إليه نفسه.
          فهذا تفسير حديث ابن عبَّاسٍ وابن الزبير وحديث عقبة، وأنَّ الصلاة فيها بمعنى الدعاء والاستغفار، كما دلَّ عليه كتاب الله تعالى.
          وأمَّا صلاته صلعم على حمزة فهو خصوصٌ له؛ لأنَّه كبَّر عليه سبع تكبيرتٍ، وهم لا يقولون بأكثر من أربعٍ، وحمزة مخصوصٌ بإعادة الصلاة عليه لو صحَّ ذلك؛ لإجماع العلماء أنَه لا يجوز أن يصلَّى على قبرٍ لم يصل عليه إلَّا بحدثان ذلك، وأكثر ما حُدَّ(26) في ذلك ستَّة أشهرٍ.
          وقد عارض حديث ابن عبَّاسٍ وابن الزبير ما روى أسامة بن زيدٍ عن الزهريِّ، عن ابن عبَّاسٍ(27): ((أنَّ النبيَّ صلعم لم يصلِّ على أحدٍ من قتلى أُحُدٍ غير حمزة)). فصار مخصوصًا بذلك؛ لأنَّه(28) وجده في القتلى قد جُرِح(29) ومُثِّل به، فقال: ((لولا أن تجزع عليه صفيَّة لتركته حتَّى يحشره الله من بطون الطَّير والسِّباع))، فكفَّنه في نَمِرةٍ إذا خمَّر رأسه بدت رجلاه، وإذا خمَّر رجليه بدا رأسه، ولم يصلِّ على أحدٍ غيره، وقال: ((أنا شهيدٌ عليكم اليوم(30))). ويشهد لهذا المعنى حديث جابرٍ، وهذا(31) أولى ما قيل به(32) في هذا الباب؛ لأنَّه أصحُّ من الأحاديث المعارضة له، وقول سعيد بن المسيِّب والحسن مخالفٌ للآثار فلا وجه له(33).
          واختلف الفقهاء إذا جُرِح(34) في المعركة ثمَّ عاش بعد ذلك، أو قتل ظلمًا بحديدةٍ أو غيرها فعاش(35)، فقال مالكٌ: يُغسَّل ويصلَّى عليه. وبه قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفة: إن قتل ظلمًا في المصر بحديدةٍ لم يُغسَّل، وإن قتل بغير الحديدة(36) غُسِّل.
          وحجَّة مالكٍ ما رواه نافعٌ عن ابن عمر أنَّ عمر غُسِّل وصلِّي عليه؛ لأنَّه عاش بعد طعنته وكان شهيدًا.
          قال ابن القصَّار: ولم ينكر هذا أحدٌ من الصحابة. قال: وكذلك جُرِح عليُّ بن أبي طالبٍ فعاش ثمَّ مات من ذلك، فغُسِّل وصلِّي عليه، ولم ينكره أحدٌ.
          قال الطَّبريُّ: وفيه(37) من الفقه أنَّ الموت إذا كثر في موضعٍ(38) بطاعونٍ أو غيره، أو كثر القتل في معركةٍ حتَّى تعظم المؤنة في حفر قبرٍ لكلِّ رجلٍ منهم أن تدفن الجماعة منهم في حفرةٍ(39) واحدةٍ، كالذي فعل(40) ◙ في جمع مشركي بدرٍ(41) في قليبٍ واحدٍ، وهم سبعون رجلًا.
          واختلفوا في دفن(42) الاثنين والثلاثة في قبرٍ، فكره ذلك(43) الحسن البصريُّ، وأجازه غير واحدٍ من أهل العلم، فقالوا(44): لا بأس أن يدفن الرجل والمرأة في القبر الواحد(45)، وهو قول مالكٍ وأبي حنيفة والشافعيِّ وأحمد وإسحاق، غير أنَّ الشافعيَّ وأحمد قالا ذلك في موضع الضرورات، وحجَّتهم حديث جابرٍ المتقدِّم، وقال: يقدَّم أسنُّهم وأكثرهم أخذًا للقرآن، ويقدَّم الرجل أمام المرأة(46).
          قال المُهَلَّب: وهذا خطابٌ(47) للأحياء أن يتعلَّموا القرآن ولا يغفلوه حين أكرم الله حملته في حياتهم وبعد مماتهم.
          والفَرَط: المتقدِّم. والنَّمِرة: كساءٌ من شعرٍ أو شقَّة من شعرٍ(48)، عن الطبريِّ. وقال ابن السِّكِّيت: إذا نُسِج الصوف وجُعِل له(49) هدبٌ، فهي نَمِرةٌ وبردٌ(50) وشملةٌ.


[1] زاد في (م) و(ي): ((النبي)).
[2] زاد في (م): ((وقال: أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة، وأمر بدفنهم في ثيابهم ولم يغسلُّوا)).
[3] زاد في (ي): ((أو مفاتيح الأرض)).
[4] في (م): ((مالك الأمر الذي سمعت)).
[5] في (م) و(ي): ((بثيابهم)).
[6] في (م): ((عليٌّ)).
[7] في (م): ((فإنَّ)).
[8] زاد في (م): ((وقال أحدهما: إنما لم يغسل شهداء أحد لكثرتهم وللشغل عن ذلك)).
[9] في (م): ((حديث جابر المذكور في هذا الباب)).
[10] في (م) و(ي): ((الدم)).
[11] في (م): ((لون الدم والريح ريح المسك)).
[12] في (م) و(ي): ((وقال)).
[13] زاد في (م): ((فرحين)).
[14] زاد في (م) و(ي): ((النبي)).
[15] في (م): ((ومما)).
[16] في (م): ((فلولا ما)). وبعدها في (ي): ((تجوز)).
[17] في (م): ((الشهيد)).
[18] في (ص): ((ابن الزبير)) والمثبت من (م) و(ي).
[19] زاد في (م): ((منهم)).
[20] زاد في (م): ((يعني)).
[21] قوله: ((على قتلى أحد على من حمل... أن يكون صلى)) ليس في (م).
[22] قوله: ((عبد الله بن عمر العبلي عن عبيد بن جبير عن)) زيادة من (م).
[23] زاد في (م): ((يا أبا مويهبة)).
[24] قوله: ((قد)) ليس في (م).
[25] في (م): ((فأصبح)).
[26] في (م): ((ما حدوا)).
[27] في (م): ((عن أنسٍ)).
[28] قوله: ((لأنه)) ليس في (م).
[29] في (م): ((جدع)).
[30] قوله: ((اليوم)) ليس في (م).
[31] في (م): ((وهو)).
[32] في (ي): ((فيه)).
[33] في (م): ((فلا حجة لهما)) وزاد بعدها: ((قال الطحاوي: ولم يقل بقولهما أحد من فقهاء الأمصار غير عبيد الله بن الحسن، واختلف)).
[34] في (م): ((قتل)).
[35] في (م): ((ثم عاش)).
[36] في (م) و(ي): ((الحديث)) وزاد في (م): ((مما لا قصاص فيه عنده)).
[37] في (م): ((وقال الطبري في حديث جابر)).
[38] قوله: ((في موضع)) ليس في (م).
[39] في (م): ((حفيرة)).
[40] زاد في (م): ((النبي صلعم يوم أحد من دفن الثلاثة والاثنين منهم في قبر وكالذي فعل)).
[41] في (م): ((◙ بمشركي بدر حين جمعوهم)). وقوله: ((قال الطبري وفيه من الفقه... وهم سبعون رجلًا)) جاء في (م) بعد قوله الآتي: ((واختلفوا في دفن... وقدم الرجل أما المرأة))
[42] قوله: ((دفن)) ليس في (م).
[43] في (م): ((في القبر فكرهه)).
[44] في (م): ((وقالوا)).
[45] قوله: ((الواحد)) ليس في (م)، وفيها بعدها: ((وبه قال مالك والأوزاعي وأبوحنيفة)).
[46] العبارة في (م): ((وبه قال مالك والأوزاعي وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق، قالوا: يقدم أكثرهم أخذًا للقرآن وحجتهم حديث جابر، وقال أكثرهم لا يكون ذلك إلا عند الضرورة، وقال ابن حبيب: لا بأس عند الوباء وما يشتد على الناس من الموت أن يقبروا بغير غسل إذا لم يوجد من يغسلهم ويجعل منهم النفر في قبر. قاله أصبغ وغيره)).
[47] في (م): ((وقال المهلب: في تقديمه صلعم أهل القرآن في اللحد حضٌّ)).
[48] قوله: ((من شعر)) ليس في (م).
[49] في (م): ((وجعل شقة لها)).
[50] في (م) و(ي): ((وبردة)).