شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب من جلس عند المصيبة يعرف فيه الحزن

          ░40▒ بَابُ: مَنْ جَلَسَ عِنْدَ المُصِيبَةِ يُعْرَفُ فِيهِ الحُزْنُ.
          فيه: عَائِشَةُ: (لَمَّا قُتِلَ زَيْدُ بنُ حَارِثَةَ وَجَعْفَرٌ وَابنُ رَوَاحَةَ، جَلَسَ النَّبيُّ صلعم يُعْرَفُ فِيهِ الحُزْنُ، وَأَنَا أَنْظُرُ مِنْ صَائِرِ البَابِ _شَقِّ البَابِ_ فَأَتَاهُ(1) رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّ نِسَاءَ جَعْفَرٍ وَذَكَرَ بُكَاءَهُنَّ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَنْهَاهُنَّ، فَذَهَبَ ثمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ، لَمْ يُطِعْنَهُ، فَقَالَ: انْهَهُنَّ، فَأَتَاهُ الثَّالِثَةَ فقَالَ: وَاللهِ غَلَبْنَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، فَزَعَمَتْ أَنَّهُ قَالَ: فَاحْثُ في أَفْوَاهِهِنَّ التُّرَابَ، فَقُلْتُ: أَرْغَمَ اللهُ أَنْفَكَ، لَمْ تَفْعَلْ مَا أَمَرَكَ(2) رَسُولُ اللهِ صلعم وَلَمْ تَتْرُكْ رَسُولَ اللهِ صلعم مِنَ العَنَاءِ). [خ¦1299]
          وفيه: أَنَسٌ: (قَنَتَ رَسُولُ اللهِ صلعم شَهْرًا حِينَ قُتِلَ القُرَّاءُ، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم حَزِنَ حُزْنًا قَطُّ(3) أَشَدَّ مِنْهُ). [خ¦1300]
          قال الطَّبَرِيُّ: إن قال قائلٌ: إنَّ أحوال النَّاس في الصَّبر متفاوتةٌ، فمنهم من يَظهر حُزْنُه على المصيبة في وجهه بالتَّغيُّر(4) له، وفي عينيه بانحدار الدُّمُوع، ولا ينطق بالسَّيِّء(5) من القول، ومنهم من يَظهر ذلك في وجهه، وينطق بالهُجْرِ المنهيِّ عنه، ومنهم من يَجمع ذلك كلَّه، ويزيد عليه إظهاره في مطعمه وملبسه، ومنهم من يكون حاله في حال المصيبة وقبلها سواءٌ، فأيُّهم المستحقُّ اسم الصَّبر؟.
          قيل: قد اختلف السَّلف قبلنا في ذلك، فقال بعضهم: المستحقُّ اسم الصَّبر(6) الَّذي يكون في حال المصيبة مثله قبلها، ولا يظهر عليه حُزْنٌ(7) في جارحةٍ ولا لسانٍ.
          قال غيره كما زَعَمَته الصُّوفِيَّة(8)، أنَّ الوَلِيَّ لا تتمُّ له الولاية إلَّا إذا تمَّ له الرِّضا بالقدر ولا(9) يحزن على شيءٍ.
          والنَّاس في هذا الحال مختلفون، فمنهم من في طبعه الجَلَد وقلَّة المبالاة بالمصائب، ومنهم من هو بخلاف ذلك، فالَّذي يكون في طبعه الجزع ويملك نفسه، ويستشعر الصَّبر أعظم أجرًا من الَّذي الجَلَد طباعه والله أعلم.
          قال الطَّبَرِيُّ(10): كما رُوِيَ عن ابن مَسْعُودٍ أنَّه لما نُعِيَ إليه أخوه عُتْبَة قال(11): لقد كان مِن أعزِّ النَّاس عليَّ، وما يسرُّني أنَّه بين أظهركم الآن(12) حيًّا، قالوا: وكيف وهو مِن أعزِّ النَّاس عليك؟ قال(13): إنِّي لأُؤجر فيه أحبُّ إليَّ من أن يُؤجَر فيَّ.
          وقال ثابتٌ: إنَّ صِلَةَ بن أَشْيَمَ مات أخوه فجاءه رجلٌ، وهو يطعم فقال: يا أبا الصَّهْبَاء، إنَّ أخاك مات. قال(14): هلَّم فَكُلٌّ(15) قد نُعِيَ إلينا إِذَنْ فَكُلْ. قال: والله ما سبقني إليك أحدٌ ممَّن نَعَاه. قال: يقول الله ╡: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ}[الزمر:30].
          وقال الشَّعْبِيُّ: كان شُرَيحٌ يدفن جنائزه ليلًا يغتنم ذلك، فيأتيه الرَّجل حين يُصبح فيسأله عن المريض، فيقول: هَدَأَ، للهِ الشُّكر، وأرجو أن يكون مستريحًا. أخذه(16) من قصَّة أُمِّ سُلَيْمٍ. وكان ابن سِيرِين يكون عند المصيبة كما هو(17) قبلها، يتحدَّث ويضحك إلَّا يوم ماتت حَفْصَةُ ◄ فإنَّه جعل يُكَشِّر، وأنت تعرف في وجهِهِ.
          وسُئِلَ رَبِيْعَةُ: ما مُنتهى الصَّبر؟ قال(18): أن يكون يوم تصيبه / المصيبة مثله قبل أن تصيبه.
          وقال آخرون: الصَّبر المحمود هو ترك العبد عند حُدُوث المكروه عليه وصفه وبثِّه للنَّاس، ورضاه بقضاء ربِّه، وتسليمه لأمره، فأمَّا حزن(19) القلب وحزن النَّفس ودمع العين، فإنَّ ذلك لا يُخرج العبد عن معاني الصَّابرين إذا لم يتجاوزه إلى ما لا يجوز له فعله، لأنَّ نفوس بني آدم مجبولةٌ على الجزع على المصائب.
          قالوا: وقد مدح الله الصَّابرين، ووعدهم جزيل الثَّواب عليه، قالوا: وثواب الله عباده إنَّما هو على ما اكتَسَبُوه مِن أعمال الخير دون ما لا صنع لهم فيه، وتغيير الأجساد عن هيئاتها، ونقلها عن طباعها الذي(20) جُبِلَتْ عليه لا يقدر عليه إلَّا الَّذي أنشأها.
          والمحمود من الصَّبر هو ما أمر الله به، وليس فيما أمر به أمر تغيير(21) جِبِلَّتِهِ عما خُلِقَتْ عليه، والَّذي أمر به عند نُزُول البلاء الرِّضا بقضائه، والتَّسليم لحكمه، وترك شكوى ربِّه، وكذلك فعل(22) السَّلف.
          قال رَبِيْعَةُ بن كُلْثُوْمٍ: دخلنا على الحَسَن وهو يشتكي ضرسَهُ، فقال: رَبِّ مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِيْنَ، وروى المَقْبُرِيُّ(23) عن أبي هريرة عن النَّبيِّ صلعم أنَّه(24) قالَ: ((قَالَ اللهُ تَعَالَى: إِذَا ابتَلَيْتُ عَبْدِي المُؤْمِنَ فَلَمْ يَشْتكِ(25) إِلَى عُوَّادِهِ أَنْشَطْتُهُ مِنْ عِقَالي، وبَدَّلْتُهُ لَحْمًا خَيْرًا مِنْ لَحْمِهِ، ودَمًا خَيْرًا مِنْ دَمِهِ، ويَسْتَأْنِفُ العَمَلَ)).
          وقال طَلْحَةُ بن مُصَرِّفٍ: لا تشكُ ضرَّك(26) ولا مصيبتك، قال: وأُنْبِئْتُ بأنَّ يَعْقُوبَ بنَ إِسْحَاقَ ♂ دخل عليه جاره(27) فقال: يا يَعْقُوْبُ، ما لي أراك قد تهشَّمت(28) وفنيت ولم تبلغ من السِّنِّ ما بلغ أبوك! قال(29): هشَّمني(30) ما ابتلاني الله به من يُوسُفَ، فأوحى الله تعالى إلى(31) يَعْقُوبَ: أتشكوني إلى خلقي؟ قال: يا ربِّ، خطيئةٌ فاغفرها، قال: قد غفرتها لك. فكان إذا سُئِلَ بعد ذلك قال(32): {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إلى اللهِ}(33)[يوسف:86].
          وقد تَوَجَّعَ الصَّالحون على فَقْدِ الرَّسول(34) صلعم وحزنوا له أشدَّ الحُزْن، قال طَاوُسٌ: ما رأيت خلقًا مِن خلق الله أشدُّ تعظيمًا لمحارم الله مِن ابن عبَّاسٍ، وما ذكرته قطُّ فشئت أن أبكي إلَّا بكيت، ورأيت(35) على خدَّيه مثل الشِّراكين مِن بكائه على رَسُولِ اللهِ صلعم. وقال(36) أبو عُثْمَانَ: ورأيت عُمَرَ بن الخَطَّاب لمَّا جاءه نعي النُّعْمَان بن مُقَرِّن وضعَ يدَه على رأسِه وجعلَ يبكي. ولمَّا مات سَعِيدُ بنُ(37) الحَسَنِ بكى عليه الحَسَنُ حولًا، فقيل له: يا أبا سَعِيدٍ، تأمر(38) بالصَّبر وتبكي؟ قال: الحمد لله الَّذي جعل هذه الرَّحمة في قلوب المؤمنين يرحم بها بعضهم بعضًا، تدمع العين، ويحزن القلب، وليس ذلك من الجزع، إنَّما الجزع ما كان مِن اللِّسان واليد، الحمد لله الَّذي لم يجعل بكاء يَعْقُوْبَ على يُوسُفَ وبالًا عليه وقد بكى عليه حتَّى ابيضَّت عيناه من الحزن(39).
          وقال يحيى بن سَعِيدٍ: قُلْتُ لعُرْوَةَ: إنَّ ابن عُمَرَ يشدِّد في البكاء على الميِّت، فقال(40): قد بكى على ابنه، وبكى أبو وائلٍ في جنازة خَيْثَمَةَ.
          فهؤلاء معالم الدِّين لم يروا إظهار الوَجْدِ على المصيبة بجوارح الجسم إذا(41) لم يتجاوزوا فيه المحذور(42) خُرُوجًا مِن معنى الصَّبر، ولا دُخُولًا في معنى الجزع.
          وقد بكى(43) صلعم على ابنتِهِ زَيْنَب، وعلى ابنه إبراهيم، وفاضت عيناه، وقال: ((هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللهُ في قُلُوبِ عِبَادِهِ))، وبكى ◙ لقتلِ جِلَّةِ الإسلامِ وفُضَلاءِ الصَّحابةِ(44)، وتوجَّع لفقدهم، فإذا كان النَّبيُّ صلعم الإمامُ(45) المتَّبَعُ به نرجو الخلاص مِن(46) ربِّنا ╡، وقد كان(47) حزن بالمصيبة، وأظهر ذلك بجوارحه ودمعه، وأخبر أنَّ ذلك رحمةٌ جعلها الله في قلوب عباده، فقد صحَّ قول من وافق ذلك، وسقط ما خالفه.


[1] في (م): ((شقه، فأتى)).
[2] زاد في (م): ((به)).
[3] قوله: ((قط)) زيادة من (م) و(ي).
[4] في (م) و(ي): ((بالتَّغيير)).
[5] في (ت): ((السَّيِّء)).
[6] زاد في (م) و(ي):((هو)).
[7] في (ص): ((خرم)) والمثبت من (م) و(ي).
[8] في (م): ((قال المُؤَلِّفُ: وهذا يشبه مذهب الصوفية)) وجاءت فيها هذه العبارة إلى قوله: ((ولا يحزن على شيءٍ)) بعد قوله الآتي ((قال: أن يكون يوم تصيبه المصيبة مثله قبل أن تصيبه)).
[9] في (م): ((ولم)).
[10] قوله: ((والنَّاس في هذا الحال مختلفون،... قال الطَّبَرِيُّ)) ليس في (م).
[11] في (م): ((فقال)).
[12] في (م): ((اليوم)).
[13] قوله: ((قال)) زيادة من (م) وبعدها فيها: ((إني لأن أؤجر)).
[14] في (م): ((فقال)).
[15] قوله: ((فكل)) ليس في (م) وبعدها في (م) و(ي): ((نعي لنا)).
[16] في (م): ((أخذ هذا)).
[17] في (م): ((يكون)).
[18] في (م): ((فقال)).
[19] في (م) و(ي): ((جزع)).
[20] في (م): ((التي)).
[21] في (م): ((بتغيير)).
[22] في (م): ((وبذلك قال)). في (ي): ((وبذلك فعل)).
[23] قوله: ((المقبري)) ليس في (م).
[24] قوله: ((أنَّه)) ليس في (م).
[25] في (م): ((يشكني)).
[26] في (م): ((مرضك)).
[27] في (م): ((جار له)).
[28] في (م): ((فقال مالي أراك يا يعقوب قد انهمشت)).
[29] في (ي): ((فقال)).
[30] زاد في (م): ((وأفناني)).
[31] في (م): ((إليه يا)).
[32] في (م): ((فكان بعد ذلك إذا سئل يقول)).
[33] زاد في (ي): ((الآية)).
[34] في (م) و(ي): ((النبي)).
[35] في (م): ((ولقد رأيت)).
[36] في (م): ((قال)).
[37] زاد في (م): ((أبي)).
[38] في (م): ((تأمرنا)).
[39] قوله: ((الحمد لله الَّذي لم يجعل.... ابيضَّت عيناه من الحزن)) ليس في (ص).
[40] قوله: ((على الميِّت قال)) ليس في (م).
[41] في (م): ((إذ)).
[42] في (ي): ((المحظور)).
[43] زاد في (م) و(ي): ((النبي)).
[44] في (م): ((لقتل فضلاء أصحابه وحماة الإسلام)).
[45] قوله: ((النبي صلعم الإمام)) زيادة من (م) و(ي). وبعدها في (م): ((المتبع فيما به نرجو)).
[46] في (م): ((عند)).
[47] في (م): ((وكان قد)).