شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: رثى النبي سعد بن خولة

          ░36▒ بَابُ: رِثَاءِ النَّبيِّ صلعم لسَعْدِ(1) بنِ خَوْلَةَ.
          فيهِ: سَعْدٌ: (عَادَنِي النَّبيُّ صلعم في(2) حَجَّةِ الوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي) الحديثَ. إلى قولِهِ: (اللَّهُمَّ أَمْضِ لأصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ، وَلا تَرُدَّهُمْ على أَعْقَابِهِمْ، لَكِنِ البَائِسُ سَعْدُ بنُ خَوْلَةَ يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللهِ صلعم أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ). [خ¦1295]
          قال أبو عبدُ اللهِ بن أبي صُفْرَةَ: قوله: (يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللهِ صلعم أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ) من قولِ سَعْدٍ في بعضِ الطُّرُقِ، وأكثر الطُّرُقِ أنَّه من قولِ الزُّهْرِيِّ، وليس هو من قول الرَّسول(3)، وسَعْدُ بنُ خَوْلَةَ زوجُ سُبَيْعَةَ الأَسْلَمِيَّةَ، وإنَّما تَوَجَّعَ له إذ(4) مات بمكَّة في الأرض التي هاجر منها، وكان يحبُّ له أن يموت في مهاجره المدينة(5)، ولذلك قال عُمَرُ: اللَّهُمَّ ارزُقنِي شَهَادَةً في سَبِيلِكَ، ووَفَاةً ببَلَدِ رَسُولِكَ. لأنَّه حرامٌ على المهاجر الرُّجُوع إلى وطنه الَّذي هجره لله؛ ولذلك قال ◙: ((لَا يَبْقَيَنَّ مُهَاجِرٌ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ فَوْقَ ثَلَاثٍ)).
          وكان عُثْمَانُ وغيرُهُ لا يطوفون طَوَاَف الوَدَاعِ، إلَّا ورواحلهم قد رُحِّلَتْ، وذكر البخاريُّ أنَّ سَعْدَ بن خَوْلَةَ شهد بدرًا، ثمَّ انصرفَ إلى مكَّة ومات بها، وأنَّه من المهاجرين، خلاف قول عيسى بن دينارٍ الَّذي قال: إنَّه أسلَمَ ولم يهاجر، وكان مِن مهاجرة الحبشة الهجرة الثَّانية، وشهد بدرًا ابن خمسٍ وعشرين سنةً، وشهد أُحُدًا والخندقَ والحُدَيبية، وتُوُفِّي بمكَّة عند زوجته سُبَيْعَةَ الأَسْلَمِيَّة في حَجَّة الوَدَاع وهي حاملٌّ، ثمَّ وضعت بعد موته بليالٍ فتمَّت عدَّتها، ذكره(6) مسلمٌ عن ابن شهابٍ، عن عبد(7) الله بن عبد الله بن عُتْبَةَ، وروى(8) يحيى بن بُكَيرٍ عن اللَّيثِ عن يزيدَ بنِ أبي حَبِيْبٍ قال: تُوُفِّي سَعْدُ بن خَوْلَةَ في حَجَّة الوَدَاع.
          وقال الطَّبَرِيُّ: مات سَعْدُ بنُ خَوْلَةَ بمكَّة سنةَ سبعٍ في الهدنة التي كانت بين رَسُولِ اللهِ / وبين أهلِ مكَّة عام الحُدَيبية، فخرج سَعْدُ بنُ خَوْلَةَ(9) مجتازًا لا لحجٍّ ولا لجهادٍ؛ لأنَّه لم يفرض حينئذٍ الحجُّ(10)، وأمَّا سَعْدُ بنُ أبي وقَّاصٍ، فإنَّما خَرَجَ إلى مكَّة حاجًّا، ولو مات فيها لم يكن في معنى سَعْدِ بنِ خَوْلَةَ الَّذي رَثَى له النَّبيُّ صلعم؛ لأنَّ مَن خَرَجَ لفرضٍ وَجَبَ عليه وأدركه أجلُه فلا حَرَجَ عليه ولا إثمَ، ولا يُقالُ له: بائسٌ، ولا يُسَمَّى تاركًا(11) لدارِ هجرته(12). ورُوِيَ عن الأَعْرجِ قال: خَلَّفَ النَّبيُّ صلعم على سَعْدٍ رَجُلًا، وقال: ((إنْ مَاتَ بِمَكَّةَ فَلَا تَدْفِنْهُ بِهَا)).
          وقوله: (اللَّهُمَّ أَمْضِ لأصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ) أي: تردَّهم إلى المدينة دار الهجرة.
          وقوله: (ولَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ) يُقالُ: لكلِّ من رَجَعَ إلى حالٍ دونَ ما كان عليه: رَجَعَ عَلَى عَقِبِهِ وحَارَ، ومنه قوله(13): أَعُوُذ بِكَ من الحَوْرِ بعد الكَوْرِ، أي: مِن النُّقصان بعد الزِّيادة.


[1] في (م): ((سعد)).
[2] في (م): ((عام)).
[3] في (م) و(ي): ((النبيِّ)).
[4] في (ي): ((إذا)) وفي (م): ((توجَّع عليه إذ)).
[5] في (م): ((بالمدينة)).
[6] في (م): ((ذكرها)).
[7] في نسخنا: ((عبد الله)) والمثبت من المطبوع.
[8] في (ص): ((عن)) والمثبت من (م) و(ي).
[9] زاد في (م): ((إلى مكَّة)).
[10] زاد في (م): ((فإن صحَّ ما قال البخاري: أنَّه توفِّي عام حجَّة الوداع فوفاته كانت متقدِّمة لمرض سعد بن أبي وقَّاصٍ ولرثائه... ◙ لسعد يرجو... له لأنَّ مرض سعد والقصَّة كلُّها كانت في حجَّة الوداع)).
[11] في (ص): ((تارك)) والمثبت من (ي) و(م).
[12] زاد في (م): ((والبائس السَّيِّء الحال ومنه قوله تعالى: وأطعموا البائس الفقير)).
[13] في (م): ((قولهم)).