شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: هل يخرج الميت من القبر واللحد لعلة؟

          ░77▒ بَابٌ: هَلْ يُخْرَجُ المَيِّتُ مِنَ القَبْرِ وَاللَّحْدِ لِعِلَّةٍ(1)
          فيه: جَابِرٌ: (أَتَى النَّبيُّ صلعم عَبْدَ اللهِ بْنَ أُبيًّ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ حُفْرَتَهُ فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ، فَوَضَعَهُ على رُكْبَتَيْهِ(2) وَنَفَثَ في(3) فيهِ مِنْ رِيقِهِ، وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ _فَاللهُ(4) أَعْلَمُ_ وَكَانَ كَسَا عَبَّاسًا قَمِيصًا). [خ¦1350]
          قَالَ أَبُو هَرُيرة: (وَكَانَ عَلَى النَّبيِّ صلعم قَمِيصَانِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبْدِ اللهِ: يَا رَسُولَ اللهِ(5)، أَلْبِسْ أبي قَمِيصَكَ الذي يَلِي جِسْدَكَ(6)، قَالَ سُفْيَانُ: فَيُرَوْنَ أَنَّ النَّبيَّ ╕ أَلْبَسَ عَبْدَ اللهِ قَمِيصَهُ مُكَافَأَةً لِمَا صَنَعَ).
          وفيه: جَابِرٌ: لَمَّا حَضَرَ أُحُدٌ دَعَانِي أبي مِنَ اللَّيْلِ(7)، فَقَالَ: مَا أُرَانِي إِلَّا مَقْتُولًا في أَوَّلِ مَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلعم(8)، وَإِنِّي لا أَتْرُكُ بَعْدِي أَعَزَّ عَلَيَّ مِنْكَ غَيْرَ نَفْسِ رَسُولِ اللهِ صلعم وَإِنَّ عَلَيَّ دَيْنًا فَاقْضِ، وَاسْتَوْصِ بِأَخَوَاتِكَ خَيْرًا. فَأَصْبَحْنَا فَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ، وَدَفَنْتُ مَعَهُ آخَرَ فِي قَبْره(9)، ثُمَّ لَمْ تَطِبْ نَفْسِي أَنْ أَتْرُكَهُ مَعَ آخَرِ، فَاسْتَخْرَجْتُهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإِذَا هُوَ كَيَوْمِ وَضَعْتُهُ هُنَيَّةً غَيْرَ أُذُنِهِ. [خ¦1351]
          قال المُهَلَّب: في هذا الحديث(10) جواز إخراج الميِّت بعد ما يُدفَن إذا كان لذلك معنى(11)، مثل أن ينسى غسله أو ما أشبه ذلك.
          قال ابن المنذر: اختلف العلماء في النبش عمَّن دُفِن ولم يُغسَّل، فكلُّهم(12) يجيز إخراجه وغسله، هذا قول مالكٍ والثوريِّ والشافعيِّ، إلَّا أنَّ مالكًا قال: ما لم يتغيَّر، في رواية عليِّ بن زيادٍ عنه(13).
          وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا وضع في اللَّحد وغُطِّي بالتراب، ولم يُغسَّل، لم ينبغ لهم أن ينبشوه من(14) قبره، وهو قول أشهب، والقول الأوَّل أصحُّ؛ بدليل حديث جابر(15).
          وكذلك اختلفوا فيمن دُفِن بغير صلاةٍ، قال ابن القاسم: يخرج بحدثان ذلك ما لم يتغيَّر حتَّى يُغسَّل(16) ويصلَّى عليه. وهو قول سحنون، وقال أشهب: إن ذكروا ذلك قبل أن يُهَال عليه التراب أُخرِج وصُلِّي عليه، وأن أهالوا عليه التراب فليترك، وإن لم يُصلَّ عليه، وروى ابن نافعٍ عن مالكٍ في «المسبوط»: إذا نُسيت الصلاة على الميِّت حتَّى يفرغ من دفنه لا أرى أن ينبشوه لذلك، ولا يُصلَّى على قبره، ولكن يدعون له(17).
          ومن كتاب ابن سحنون(18): وإذا نسوا في القبر ثوبًا، أو كساءً لرجلٍ فإنَّه ينبش ويخرج(19)، وفي «العتبيَّة» قال سحنون: ولو ادَّعى رجل أنَّ الثوب الذي على الكفن له أو كان خاتمًا أو دينارًا(20)، فإن كان ذلك يعرف، أو أقرَّ(21) بِهِ أهل الميِّت، ولم يَدَّعُوه لهم أو للميِّت، جعل لهم(22) سبيلٌ إلى إخراج الميِّت(23). وفي سماع عيسى عن ابن القاسم: إذا دفن في ثوبٍ ليس له فلينبش لإخراجه لربِّه، إلَّا بأن يطول أو يروح الميِّت فلا أرى لذلك سبيلًا.
          وفي قول جابرٍ: (نَفَثَ عَلَيهِ مِنْ رِيقِهِ) حجَّةٌ على من قال: إنَّ ريق ابن آدم ونخامته نجسٌ، وهو قولٌ يروى عن سلمان الفارسيِّ، والعلماء كلُّهم على خلافه، والسنن وردت بردِّه، ومعاذ(24) الله أن يكون ريق النبيِّ صلعم نجسًا، وينفثه(25) على وجه التبرُّك به، وهو صلى الله عليه عَلَّمنا النظافة والطَّهارة(26)، وبه طهَّرنا الله من الأدناس.
          وجماعة الفقهاء يقولون بطهارة ريق ابن آدم ونخامته على نصِّ هذا الحديث، وفيه أنَّ الشهداء لا تأكل الأرض لحومهم، ويمكن(27) أن يكون ذلك في قتلى أُحُدٍ خاصَّةً، ويمكن أن يشركهم في ذلك غيرهم ممَّن خصَّه الله تعالى بذلك من خيار خلقه، ومثل هذا الحديث ما روى مالكٌ في «الموطَّأ» عن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، أنَّه بلغه أنَّ عَمْرو بن الجموح، وعبد الله بن عَمْرٍو الأنصاريَّين كانا قد حفر السَّيل قبريهما(28)، وهما ممَّن استشهد يوم أُحُدٍ، فحفر عنهما ليُغيَّرا من مكانهما، فَوُجِدا لم يتغيَّرا كأنَّهما ماتا(29) بالأمس، وكان أحدهما قد جرح فوضع يده على جرحه، فدفن وهو كذلك، فأميطت يده(30) عن جرحه ثمَّ أرسلت فرجعت كما كانت، وكان بين أُحُدٍ وبين يوم حُفر عنهما ستٌّ وأربعون سنةً.
          وروى ابن عيينة، عن أبي الزبير، عن جابرٍ قال: لمَّا أراد معاوية أن يُجريَ العَيْنَ بأُحُدٍ، نودي بالمدينة: من كان له(31) قتيلٌ فليأت.
          قال جابرٌ: فأتيناهم فأخرجناهم رطابًا يتثنَّون، فأصابت المسحاة أصبع رجلٍ منهم فانفطرت دمًا. وقال سفيان: بلغني أنَّه حمزة بن عبد المطَّلب، وهذا الوقت غير الوقت الذي أخرج فيه جابرٌ أباه من قبره(32).


[1] في (م): ((للعلة)).
[2] في (م): ((ركبته)) وبعدها: ((ونفث عليه من ريقه)).
[3] قوله: ((في)) ليس في (ي).
[4] في (ي): ((والله)).
[5] قوله: ((يا رسول الله)) ليس في (م).
[6] في (م): ((جلدك)).
[7] قوله: ((من الليل)) ليس في (م).
[8] في (ي): ((النبي صلعم))، وقوله: ((من أصحاب رسول الله صلعم)) ليس في (م).
[9] في (م): ((قبر)).
[10] في (م): ((الباب)).
[11] زاد في (م): ((وليس ذلك من باب نبش القبور في شيء)).
[12] في (م) و(ي): ((فأكثرهم)).
[13] في (م): ((في رواية علي بن زياد ما يتغير)).
[14] في (ي): ((عن)).
[15] في (ي): ((أصح لدليل حديث جابر))، وفي (م): ((أصح لشهادة أحاديث هذا الباب له والله الموفق)).
[16] في (م): ((بحدثان ذلك إن أمنوا ألا يتغير)).
[17] قوله: ((وهو قول سحنون... ولكن يدعون له)) ليس في (م) ومكانه عبارة مغايرة وهي: ((وخالفه مالك وأشهب فقالا: لا يخرج ولا يصلى عليه ولكن يدعون له، وقد تقدم هذا في باب الصلاة على القبر بعدما يدفن)).
[18] في (ي): ((ابن إسحاق)).
[19] في (م): ((يخرج وينبش)).
[20] زاد في (م): ((دعاها)).
[21] زاد في (م) و(ي): ((له)).
[22] في (م) و(ي): ((له)).
[23] في (م) و(ي): ((ذلك)).
[24] في (ي): ((فمعاذ)).
[25] زاد في (م): ((على الميت)).
[26] قوله: ((والطهارة)) ليس في (م).
[27] في (م): ((وممكن)) وكذا في الموضع بعده وفي (ي) في الموضع الثاني فقط.
[28] في (م): ((قبرهما)) وزاد بعدها: ((وكانا في قبر واحد)).
[29] في (م): ((كأنما كانا)).
[30] في (ص): ((يداه)) والمثبت من (م) و(ي).
[31] قوله: ((له)) ليس في (م).
[32] زاد في (م): ((بعد ستة أشهر وخلافة معاوية بعد ذلك بزمن كثير)).