شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب سنة الصلاة على الجنائز

          ░56▒ بَابُ: سُنَّةِ الصَّلَاةِ عَلَى الجَنَائِزِ.
          وَقَالَ الرَّسُولُ(1) صلعم: (مَنْ صَلَّى عَلى الجَنَازَةِ)، وَقَالَ: (صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ)، وَقَالَ: (صَلُّوا عَلَى النَّجَاشِيِّ)، فسَمَّاهَا(2) صَلَاةً لَيْسَ فيها رُكُوعٌ ولا سُجُودٌ، ولا يُتَكَلَّمُ فيها وفيها تَكْبِيْرٌ وَتَسْلِيْمٌ.
          وَكَانَ ابنُ عُمَرَ لا يُصَلِّي إِلا طَاهِرًا، ولا يُصَلِّي عِنْدَ طُلُوْعِ الشَّمْسِ ولا(3) غُرُوبِهَا وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ.
          وقَالَ الحَسَنُ: أَدْرَكْتُ النَّاسَ وَأَحَقُّهُمْ بِالصَّلَاةِ عَلَى جَنَائِزِهِمْ مَنْ رَضُوهُ لِفَرَائِضِهِمْ، وَإِذَا(4) أَحْدَثَ يَوْمَ العِيْدِ أَوْ عِنْدَ الجَنَازَةِ يَطْلُبُ المَاءَ وَلا يَتَيَمَّمُ، وَإِذَا انْتَهَى إلى الجَنَازَةِ وَهُمْ يُصَلُّونَ دَخَلَ(5) مَعَهُمْ بِتَكْبِيْرَةٍ، وَقَالَ ابنُ المُسَيَّبِ: يُكَبِّرُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالسَّفَرِ وَالحَضَرِ أَرْبَعًا.
          وَقَالَ أَنَسٌ: التَّكْبِيْرَةُ الوَاحِدَةُ اسْتِفْتَاحٌ للصَّلاةِ(6)، وَقَالَ اللهُ ╡: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا}[التَّوبة:84]، وفِيهِ صُفُوفٌ وإِمَامٌ.
          وفيهِ(7): ابنُ عَبَّاسٍ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم صَلَّى(8) عَلَى قَبْرٍ مَنْبُوذٍ، فَأَمَّنَا، فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَمْرٍو، مَنْ حَدَّثَكَ؟ قَالَ: ابنُ عَبَّاسٍ). [خ¦1322]
          قال المُؤَلِّفُ(9): غرض البخاريِّ(10) الرَّدُّ على الشَّعْبِيِّ، فإنَّه أجاز الصَّلاة(11) على الجنازة بغير طهارة، قال: لأنَّها دعاءٌ ليس فيها رُكُوعٌ ولا سُجُودٌ، والفقهاء مجمعون من السَّلف والخلف على خلاف قوله، فلا يُلتفت إلى شُذُوذه.
          وأجمعوا أنَّها لا تُصَلَّى إلَّا إلى القِبْلَة، ولو كانت(12) دعاءً كما زَعَمَ الشَّعْبِيُّ لجازت إلى غير القِبْلَة، واحتجاج البخاريِّ في هذا الباب(13) يكفي بعضه، وهو أنَّ النَّبيَّ صلعم سمَّاها صلاةً، وقول السَّلف الَّذين ذكرهم في هذا(14) الباب أنَّ حُكْمَها عندهم حُكْمُ الصَّلاةِ في أنَّ لا تُصَلَّى إلَّا بطهارةٍ، وفيها تكبيرٌ وسلامٌ، ولا تُصَلَّى عند طلوع الشَّمْسِ ولا غروبها، وأنَّ الرسول(15) صلعم أَمَّهم فيها وصَلَّوا خلفه كما فَعَلَ في الصَّلاة، إلَّا أنَّهم اختلفوا في صلاتها إذا خُشي فوتها بالتَّيمُّم، فقالَ(16) مالكٌ والشَّافعيُّ وأحمدُ وأبو ثَوْرٍ: ولا(17) تُصَلَّى إلَّا بطهارةٍ ولا يجوز التَّيمُّم لها، وأجاز التَّيمُّم لها إذا خاف فوتها(18): عطاءٌ وسالمٌ والنَّخَعِيُّ والزُّهْرِيُّ ورَبِيْعَةُ واللَّيثُ والثَّوْرِيُّ وأبو حنيفةَ والأوزاعيُّ وابنُ وَهْبٍ صاحب مالكٍ، وقالَ ابن حَبِيْبٍ: الأمر في ذلك(19) واسعٌ، واحتَجَّ هؤلاء بأنَّ صلاةَ الجنازةِ لها مَزِيَّةٌ على سائرِ النَّوَافِلِ لأنَّه قد اختُلِفَ فيها، فقيل: إنَّها فريضةٌ على الكفاية، وقيل: إنَّها سُنَّةٌ مؤكَّدةٌ، فإذا خِيْفَ عليها الفَوْت جاز استدراك فضيلتها بالتَّيمُّم.
          واحتَجَّ أهل المقالة الأولى(20)، فقالوا: أجمع أهل العلم على أنَّ مَن خاف فَوْت(21) الجمعة أنَّه لا يجوز له التَّيمُّم مثل أن يدرك الإمام في الرَّكعة الثَّانية، فإن تيمَّم أدركها مع الإمام، وإن توضَّأ فاتته، فكلُّهم قال: لا يتيمَّم وإن فاتته الجمعة، فالَّذي يخاف فوت الجنازة أَوْلى بذلك؛ لأنَّها صلاةٌ تفتقر إلى القِبْلَة مع القدرة، وفيها تكبيرٌ وسلامٌ، والتَّيمُّم طهارةٌ ضروريَّةٌ(22)، وصلاة الجنازة لا ضرورة إليها؛ لأنَّه لا يخلو إمَّا أن يكون(23) وحده فيتوضَّأ ويُصَلِّي، أو يكون مع غيره ممَّن هو على وضوءٍ، وإن كان ذلك الغير إذا صلَّى عليها كفى، وسَقَطَتْ عن غيره، قال ابنُ القَصَّارِ: وهذا لازمٌ لهم.
          واختلفوا في رفع اليدين في تكبير الجنازة(24)، فقال مالكٌ في «المدوَّنة»: لا يرفع يديه إلَّا في التَّكبيرة الأُولى، وروى(25) مُطَرِّفٌ وابنُ المَاجِشُون مثله، وإليه ذَهَبَ الكوفيُّون والثَّوْرِيُّ(26). وروى ابنُ وَهْبٍ عن مالكٍ أنَّه يُعْجِبُه الرَّفع في كلِّ تكبيرةٍ. ورُوِيَ مثله عن ابن عُمَرَ وسَالِمٍ وعَطَاءٍ والنَّخَعِيِّ ومَكْحُوْلٍ والزُّهْرِيِّ والأوزاعيِّ والشَّافعيِّ وأحمدَ وإِسْحَاقَ.
          وذكر ابن حَبِيْبٍ عنِ ابن القَاسِمِ أنَّه لم يكن يرى الرَّفع(27) في الأُولى ولا في(28) غيرها، قال ابن أبي زَيْدٍ: والمعروف عن ابنِ القاسِمِ الرَّفع في الأُولى، خلاف ما ذَكَرَهُ(29) عنه ابن حَبِيْبٍ.
          واختلفوا في التَّسليم على الجنازة، فقال كثير من أهل العلم: يُسَلِّمُ واحدةً، رُوِيَ ذلك عن عليٍّ وابنِ عَبَّاسٍ وابنِ عُمَرَ وجابرٍ وأبي هريرةَ وأبي أُمَامَةَ بن سَهْلٍ وأَنَسٍ وجماعةٍ من التَّابعين، وهو قول مالكٍ وأحمدَ وإِسْحَاقَ، وقال الكوفيُّون: يُسَلِّمُ تسليمتين، واختلف قول الشَّافعيِّ على القولَين.
          وقال مالكٌ في «المجموعة»: ليس عليهم رَدُّ السَّلام على الإمام، وروى عنه ابنُ غَانِمٍ قالَ: يرُدُّ على الإمام مَن يسمع سلامه(30).
          وكره أكثر العلماء الصَّلاة على الجنازة في غير مواقيت الصَّلاة، رُوِيَ ذلك(31) عن ابن عُمَرَ أنَّه كان يُصَلِّي عليها بعد العصر / وبعد الصُّبح إذا صُلِّيَتَا لوقتهما، وروى ابنُ وَهْبٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ وعَطَاءٍ وسَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ مثله وهو قول مالكٍ في «المدوَّنة» قال: لا بأس بالصَّلاة عليها بعد العصر(32) حتَّى(33) تصفرَّ الشَّمسُ وبعد الصُّبح حتى يُسْفِرْ(34)، ونحوه عن الأوزاعيِّ والثَّوْرِيِّ والكوفيِّين وأحمدَ وإسحاقَ، وكرهوا الصَّلاة عليها عند الطُّلوع، وعند الغروب وعند الزَّوال زادوا وقتًا ثالثًا وخالَفَهم الشَّافعيُّ، فقال: لا بأس بالصَّلاة عليها أيُّ ساعةٍ شاء من ليلٍ أو نهارٍ، وقال(35): إنَّما وَرَدَ النَّهي في التَّطوُّع لا في الواجب والمسنون من الصَّلوات. واحتَجَّ الكوفيُّون بحديث عُقْبَةَ بن عامرٍ، قال: ثلاث ساعاتٍ نهانا رَسُولُ اللهِ صلعم أن نُصَلِّيَ فيها ونَقْبُرُ فيها مُوْتَانَا: عندَ طُلوعِ الشَّمْسِ حَتَّى تبيضَّ، وعندَ انتصافِ النَّهَارِ حَتَّى تزولَ، وعندَ اصفرارِ الشَّمْسِ حَتَّى تَغِيْبَ.
          وقول الحَسَنِ: أحقُّ النَّاس بالصَّلاة على جنائزهم من رضوه لفرائضهم. فإنَّ(36) أهل العلم اختلفوا مَنْ(37) أحقُّ بالصَّلاة عليها الوليُّ، أو الوالي؟ فقال أكثر أهل العلم(38): الوالي أحقُّ من الوليِّ، رُوِيَ(39) عن عَلْقَمَةَ والأَسْوَدَ والحَسَنِ وجماعةٍ وهو قول مالكٍ وأبي حَنِيْفَةَ والأوزاعيِّ وأحمدَ وإِسْحَاقَ. إلَّا أنَّ مالكًا قال في الوالي والقاضي: إن كانت الصَّلاة إليهم فهُمْ أحقُّ من الوليِّ.
          وقال مُطَرِّفٌ وابنُ عبدِ الحَكَمِ وأَصْبَغُ: ليس ذلك إلى من إليه الصَّلاة مِن قاضٍ، أو صاحب شرطةٍ، أو خليفة الوالي الأكبر، وإنَّما ذلك إلى الوالي الأكبر الَّذي تُؤْدَى إليه الطاعة، وقال أبو يُوسُفَ والشَّافعيُّ: الوليُّ أحقُّ من الوالي، واحتج أصحاب الشَّافعيِّ بقوله تعالى(40): {وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}[الأحزاب:6]فهُمْ أَوْلى من غيرهم في كلِّ شيءٍ إلَّا أن تقوم دلالة.
          وحُجَّة القول الأوَّل ما رواه الثَّوْرِيُّ، عن أبي حازمٍ قال: شهدت الحُسَيْن بن عليٍّ قدَّم سَعِيدَ بنَ العاصِ يوم مات الحَسَنُ بن عليٍّ، ☻، وقال له(41): تقدَّم فلولا السُّنَّة ما قدَّمْتُك، وسَعِيدٌ يومئذٍ أمير المدينة.
          وقال(42) ابن المنذر: ليس في هذا الباب(43) أعلى من هذا؛ لأنَّ جنازة الحَسَنِ شَهِدَها عَوَامُّ النَّاسِ من أصحابِ الرسول(44) صلعم والمهاجرون والأنصارُ، فلم يُنْكِرْ ذلك منهم أحدٌ(45)، فدلَّ أنَّه كان عندهم الصَّواب.


[1] في (م) و(ي): ((النبي)).
[2] في (م): ((سمَّاها)).
[3] في (م): ((ولا عند)).
[4] في (ص): ((إذا)) والمثبت من (م) و(ي).
[5] في (م) و(ي): ((يدخل)).
[6] في (م) و(ي): ((الصلاة)).
[7] في (م): ((فيه)).
[8] في (م): ((مرَّ)).
[9] قوله: ((فَقُلْت: يَا أَبَا عَمْرٍ، مَنْ حَدَّثَكَ؟ قَالَ: ابنُ عَبَّاسٍ... قال المٌؤَلِّفُ)) ليس في (م).
[10] زاد في (م) و(ي): ((في هذا الباب)).
[11] في (م): ((أن يُصَلَّى)).
[12] في (م): ((كان)).
[13] زاد في (م): ((حسن)).
[14] قوله: ((هذا)) زيادة من (م) و(ي).
[15] في (م) و(ي): ((الرسول)).
[16] في (م): ((فواتها بالتيمم، قال)).
[17] في (م): ((والشَّافعيُّ وأبو ثورٍ وأحمدُ بن حنبل: لا)).
[18] في (م): ((فواتها)).
[19] في (م): ((هذا)).
[20] زاد في (م): ((مع ما ذكره البخاري)).
[21] في (م): ((فوات)).
[22] في (م) و(ي): ((ضرورة)).
[23] زاد في (ص): ((مع)) والمثبت من (م) و(ي).
[24] في (م): ((الجنائز)).
[25] زاد في (م): ((عن)).
[26] زاد في (م): ((في رواية)).
[27] في (م): ((لم يكن يرفع)).
[28] قوله: ((في)) ليس في (ي).
[29] في (م): ((حكاه)).
[30] في (ص): ((سمع كلامه)) والمثبت من (م) و(ي).
[31] قوله: ((ذلك)) ليس في (م).
[32] قوله: ((وبعد الصُّبح إذا صلِّيتا لوقتهما.... بالصَّلاة عليها بعد العصر)) زيادة من (م) و(ي).
[33] في (م): ((ما لم)).
[34] في (م) و(ي): ((ما لم يسفر)). وبعدها في (م): ((ونحوه قال)) وفي (ي): ((ونحوه قول)).
[35] في (م): ((قال)).
[36] في (م): ((قال)).
[37] في (م): ((فيمن)).
[38] في (م): ((أكثر العلماء)).
[39] زاد في (م): ((هذا)).
[40] في (م): ((بعموم قوله)).
[41] قوله: ((له)) ليس في (م).
[42] في (م): ((قال)).
[43] في (م): ((وليس في الباب)).
[44] في (م) و(ي): ((النبي)).
[45] في (م): ((أحد منهم)).