شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما ينهى عن النوح والبكاء والزجر عن ذلك

          ░45▒ بَاب: مَا يُنْهَى عَنْهُ مِنَ النَّوْحِ وَالبُكَاءِ وَالزَّجْرِ عَنْ ذَلِكَ.
          فيهِ: عَائِشَةُ(1): قُتِلُ جَعْفَرٍ وَزَيْدِ بنِ حَارِثَةَ... الحديثَ. إلى قوله: (فَزَعَمَتْ أنَّ النَّبيَّ صلعم قَالَ: فَاحْثُ في أَفْوَاهِهِنَّ(2) التُّرَابَ، فَقَالَتْ: أَرْغَمَ اللهُ أَنْفَكَ فواللهِ(3)، مَا أَنْتَ بِفَاعِلٍ، وَمَا تَرَكْتَ رَسُولَ اللهِ مِنَ العَنَاءِ). [خ¦1305]
          وفيهِ: أُمُّ عَطِيَّةَ قَالَتْ(4): (أَخَذَ عَلَيْنَا النَّبيُّ صلعم عِنْدَ البَيْعَةِ: ألَّا نَنُوْحَ، فَمَا وَفَتْ مِنَّا امْرَأَةٌ غَيْرَ خَمْسِ نِسْوَةٍ) الحديثَ. [خ¦1306]
          قال المُؤَلِّفُ(5): قد تقدَّم معنى هذا الباب، وأنَّ النَّوح والبكاء على سُنَّة الجاهليَّة حرامٌ قد نسخه الإسلام ألا ترى أنَّ النَّبيَّ ◙ كانَ يشترطُ على النِّساء في بيعةِ الإسلامِ ألَّا يَنُحْنَ تأكيدًا للنَّهي عنه، وتحذيرًا منه.
          وفيه: أنَّه مَن نُهِيَ عمَّا لا ينبغي له فعله ولم ينته، أنَّه يجب أن يؤدَّب على ذلك ويُزجر، ألَّا ترى قوله صلعم للرَّجل: / (فَاحْثُ في أَفْوَاهِهِنَّ التُّرَاب)(6) حين انصرف إليه المرَّة الثَّالثة وقال: (إنَّهنَّ غَلَبنَنَا)، وهذا يدلُّ أنَّ بكاء نساء جعفرَ وزيدٍ الَّذي نُهين عنه لم يكن من النَّوح المُحَرَّم؛ لأنَّه لو كان من النَّوح المُحَرَّم لزجرهُنَّ حتَّى ينتهين عنه؛ لأنَّ الله فرض عليه التَّبليغ والبيان، ولا يؤمَن على النِّساء عند بكائهنَّ الهائج لهنَّ أن يضعف غيرهنَّ، فيصلن به نوحًا مُحَرَّمًا فلذلك نهاهنَّ صلعم قطعًا للذَّريعة.
          وفيه من الفِقْه: أنَّ للعالم أن ينهى عن المباح إذا اتَّصل به فعلٌ محذورٌ، أو خيف مواقعته؛ لأنَّ الرَّاتع حول الحِمَى يُوشِكُ أن يواقعه، وهذا الحديث يدلُّ أنَّ قوله صلعم في حديثِ «الموطَّأِ» حينَ دخلَ الرَّسول(7) صلعم على عبدِ اللهِ بنِ الرَّبيعِ يعوده، فصاح به فلم يجبه، فاسترجع رَسُولُ اللهِ صلعم وقالَ: ((غُلِبْنَا عَلَيْكَ أَبَا الرَّبِيْعِ))، فصاح النِّسوة وبكين، فجعل جابرٌ يُسكتهنَّ، فقال رسول الله(8) صلعم: ((دَعْهُنَّ، فَإِذَا وَجَبَتْ فَلَا تَبْكِيَنَّ بَاكِيَةٌ))، والوُجُوب: الموت.
          فدلَّ أنَّ هذا الحديث على النَّدب لا على الإيجاب؛ لأنَّه لو كان ترك البكاء عليه فرضًا بعد موته لما(9) جاز لنساء جعفر أن يبكين بعد موته، ولوجب أن يقتصرن على السُّكُوت، فلمَّا اعترضت عائشة لرَسُولِ اللهِ صلعم حين قالَتْ له: (واللهِ ما أنتَ بفاعلٍ). ومثله قوله ◙: ((لَكِنَّ حَمْزَةَ لَا بَوَاكِيَ لَهُ))، فدلَّ(10) على جواز البكاء على الميِّت بعد موته.
          وقول أُمِّ عَطِيَّةَ: (أَخَذَ عَلَيْنَا النَّبيُّ صلعم ألَّا نَنُوْحَ) يبيِّن أنَّ النَّوح بدعوى الجاهليَّة مُحَرَّمٌ، لأنَّه لم يقع في البيعة شيءٌ غير فرضٍ.
          وقولها: (فما وَفَتْ منَّا امرأةٌ غير خمسٍ) يصدِّق قول النَّبيِّ صلعم في النِّساء: ((إِنَّهُنَّ نَاقِصَاتُ العَقْلِ والدِّينِ، وإنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِنْ ضِلَعٍ أَعْوَجٍ))، ومن كان بهذه الصِّفة يعسر رجُوعه إلى الحقِّ وانقياده إليه.
          وروى مَعْمَرٌ عن الزُّهْرِيِّ قال: ثلاثةٌ من أمر الجاهليَّة لا يدعها النَّاس أبدًا: الطَّعْنُ(11) في الأحسابِ، والنَّيَاحةُ، والاستسقاءُ بالأنواءِ(12).


[1] زاد في (م): ((لما)).
[2] زاد في (م): ((من)) وفيها بعدها: ((فقلت: أرغم)).
[3] قوله ((فوالله)) زيادة من (م) و(ي).
[4] قوله: ((قالت)) ليس في (م).
[5] قوله: ((قال المُؤَلِّفُ)) ليس في (م).
[6] زاد في (م): ((وفيه)).
[7] في (م) و(ي): ((النبي)).
[8] في (م) و(ي): ((النبي)).
[9] في (م) و(ي): ((ما)).
[10] في (م) و(ي): ((يدلُّ)).
[11] في (ص): ((اللعن)) والمثبت من (ي).
[12] قوله: ((بالأنواء)) زيادة من (ي). وقوله: ((وأن هذا يدل أن بكاء نساء جعفر....والاستسقاء بالأنواء)) عبارته مختلفة في (م) وبدله: ((وهذا كقول أمِّ عطيَّة أخذ علينا النَّبيِّ صلعم أن لا ننوح يعني أنَّ النَّوح بدعوى الجاهليَّة مُحَرَّمٌ لأنَّه لم يعيَّن في البيعة شيءٌ غير فرضٍ، وقوله: فما وَفَتْ منَّا امرأةٌ غير خمسٍ، فدلَّ هذا أنَّه قد كان في زمن النَّبيِّ صلعم من يعصيه ويخالف أمره كالأعرابي الَّذي استقاله حين ناله وباء المدينة وكان ◙ إذا رأى خلافًا لأمره غيره وزجر فيه ألا ترى أنَّه راجع نساء جعفر بإنكار النَّوح عليهنَّ مرَّةً بعد أخرى، فإن قيل: فما وجه قول عائشة لرسول رَسُولِ الله ما أنت بفاعلٍ؟ وهي أشدُّ النَّاس اتباعًا لأمر رَسُولِ اللهُ صلعم لفضلها وعلمها؟ قيل: إنَّما أرادت عائشة والله أعلم بقولها: والله ما أنت بفاعلٍ، أي: ما أنت بمانعهنَّ البكاء جملةً لأنَّه منه ما هو مباحٌ لهنَّ وهو دمع العين وحزن القلب، ولم ترد عائشة معارضة الرَّسول ◙ وإباحة نوح الجاهليَّة المُحَرَّم لكن لما كان المباح من البكاء متِّصلًا بالمحظور منه وخيف مواقعة المحظور جاز النَّهي عن جملته وقوي قطع الذَّريعة فيه بشدِّة إغراق النِّساء في الحزن وتجاوزهنَّ الواجب فيه لنقصهن، ومن رتع حول الحمى يوشك أن يواقعه، وقد روى مَعْمَرٌ عن الزُّهْرِيِّ، قال: ثلاثةٌ من أمر الجاهليَّة لا يدعها النَّاس أبدًا: الطَّعن في الأحساب، والنِّياحة، والاستسقاء بالأنواء، وحديث عائشة يدلُّ أن قوله ◙ في حديث «الموطَّأ» حين دخل النَّبيِّ صلعم على عبد الله بن الرَّبيع يعوده فصاح فلم يجبه فاسترجع رَسُولُ الله صلعم وقال: ((غلبنا عليك أبا الرَّبيع)) فصاح النِّسوة وبكين فجعل جابر يسكتهنَّ، فقال النَّبيُّ ◙: دعهنَّ فإذا وجب فلا تبكين باكيًا، والوجوب الموت. أنَّ هذا على النَّدب لا على الإيجاب لأنَّه لو كان ترك البكاء على الميت فرضًا بعد موته ما جاز لنساء جعفر أن تبكين بعد موته ولوجب أن يقصرن على السُّكُوت ولما اعترضت عائشة لرسول رَسُول الله صلعم حين قالت له: والله ما أنت بفاعل ومنه قوله ◙: ((لكنَّ حمزة لا بواكي له)) يدلُّ على جواز البكاء على الميت بعد موته)).