شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: إذا قال المشرك عند الموت لا إله إلا الله

          ░80▒ باب: إِذَا قَالَ الْمُشْرِكُ عِنْدَ الْمَوْتِ لا إِلَهَ إِلا اللهُ
          فيه: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: (لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللهِ(1) صلعم فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ(2)، وَعَبْدَ اللهِ بْنَ أبي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ(3) صلعم لأبِي طَالِبٍ:
          أي عَمِّ، قُلْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ، قَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أبي(4) أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ، أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللهِ(5) صلعم يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ، وَيَعُودَانِ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ، آخِرَ مَا كَلَّمَهُم(6): هُوَ على مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وأبى أَنْ يَقُولَ: لا إِلَهَ إِلا اللهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ(7) صلعم: أَمَا وَاللهِ لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْهُ(8)، فَأَنْزَلَ اللهُ...). [خ¦1360]
          قال المُهَلَّب: إنَّما تنفع كلمة التوحيد لمن قالها قبل المعاينة للملائكة التي تقبض الأرواح، فحينئذٍ تنفعه شهادة التوحيد، وهو(9) الذي يدلُّ عليه كتاب الله ╡، قال تعالى(10): {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ(11) الْمَوْتُ}[النساء:18]، يعني: حضور ملك الموت، وهي المعاينة لقبض روحه، ولا يراهم أحدٌ إلَّا عند الانتقال من الدنيا إلى دار الآخرة فَأُعْلِمَ ما(12) انتقل إليه كقول فرعون حين أدركه الغرق(13): {آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}[يونس:90]فقيل له: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ}[يونس:91]وجاء(14) في التفسير أنَّه لمَّا عاين ملك الموت ومن معه من الملائكة أيقن، قال(15): آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل. حثا جبريل في فمه الحمأة ليمنعه استكمال كلمة(16) التوحيد حنقًا عليه، ويدلُّ على ذلك قوله تعالى: {يَوْمَ(17) يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ(18)}[الأنعام:158]، أي لمَّا رأى(19) الآية التي جعلها الله علامةً لانقطاع التوبة وقبولها، لم ينفعه ما كان قبل(20) ذلك كما لم ينفع الإيمان بعد رؤية ملك الموت.
          قال المؤلِّف(21): وقد روي عن الرسول صلعم أنه قال لعمِّه عند الموت: ((قل لا إله إلا الله(22)، أحاجُّ لك بها عند الله))، فإن قال قائلٌ: فأيُّ(23) محاجَّةٍ يحتاج إليها من وافى ربَّه بما يدخله به الجنَّة؟
          فالجواب: أنَّه يحتمل وجوهًا(24) من التأويل: أحدها: أن يكون ظنَّ صلعم أنَّ عمَّه اعتقد أنَّ من آمن في مثل حاله(25) لا ينفعه إيمانه، إذ لم يقارنه عملٌ سواه من صلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ(26) وحجٍّ وشرائط الإسلام كلِّها، فأعلمه صلعم أنَّ(27) من قال: لا إله إلا الله، عند موته أنَّه يدخل(28) في جملة المؤمنين، وإن تعرَّى من عملٍ سواها(29).
          ويحتمل وجهًا آخر، وهو أن يكون(30) أبو طالبٍ قد عاين أمر الآخرة وأيقن بالموت، وصار في حالة من لا ينتفع بالإيمان لو آمن، وهو الوقت الذي قال فيه: أنا على ملَّة عبد المطَّلب عند خروج نفسه، فرجا(31) له صلعم إن قال: لا إله إلا الله، وأيقن(32) بنبوَّته أن يشفع له بذلك، ويحاجَّ له عند الله في أن يتجاوز عنه، ويتقبَّل منه إيمانه في تلك الحال، ويكون ذلك خاصًّا لأبي طالبٍ وحده لمكانه من الحماية والمدافعة عن النبيِّ صلعم، وقد روي مثل هذا المعنى عن ابن عبَّاسٍ.
          قال المؤلِّف(33): ألا ترى أنَّه صلعم قد نفعه وإن كان(34) مات على غير الإسلام؛ لأنَّه(35) يكون أخفَّ أهل النَّار عذابًا(36)، فنفعه له لو شهد بشهادة التوحيد وإن(37) كان ذلك عند المعاينة، أحرى بأن يكون.
          ويحتمل وجهًا آخر، وهو أنَّ أبا طالبٍ كان ممَّن عاين براهين النبيِّ صلعم وصدق معجزاته، ولم يشكَّ في صحَّة نبوَّته وإن كان ممَّن(38) حملته الأنفة وحميَّة الجاهليَّة على تكذيب النبيِّ صلعم.
          وكان سائر المشركين ينظرون إلى رؤسائهم ويتبعون ما يقولون، فاستحقَّ أبو طالبٍ ونظراؤه على ذلك من عظيم الوزر وكبير الإثم أن باءوا بإثمهم(39) على تكذيب النبيِّ صلعم فرجا له(40) صلعم المحاجَّة بكلمة الإخلاص عند الله، حتَّى يسقط عنه إثم العناد والتكذيب لما قد تبيَّن حقيقته وإثم من اقتدى به في ذلك، وإن كان الإسلام يهدم ما قبله لكن آنسه ◙ بقوله: ((أحاجُّ لك بها عند الله)) لئلَّا يتردَّد في الإيمان، ولا يتوقَّف عليه لتماديه(41) على خلاف ما تبيَّن حقيقته، وتورُّطه في أنَّه كان مضلًّا لغيره.
          وقيل(42): إن قوله: ((أحاجُّ لك بها عند الله)) كقوله: (أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ) لأنَّ الشهادة المرجِّحة له في طلب حقِّه(43)، ولذلك ذكر البخاريُّ هذا الحديث في هذا الباب بلفظ الشهادة(44)؛ لأنَّه أقرب للتأويل، وذكر قوله: ((أحاجُّ لك بها عند الله)) في قصَّة أبي طالبٍ في كتاب مبعث النبيِّ صلعم لاحتمالها(45) التأويل، والله الموفق.


[1] في (م): ((النبي)).
[2] قوله: ((ابن هشام)) ليس في (م).
[3] في (م): ((النبي)) وقوله: ((لأبي طالب)) ليس فيها.
[4] قوله: ((أبي)) زيادة من (م) و(ي).
[5] في (م): ((النبي)).
[6] زاد في (م): ((به)).
[7] في (م): ((النبي)).
[8] في (م): ((عن ذلك)) وبعدها فيها وفي(ي): ((فأنزل الله فيه)).
[9] في (م): ((ينفعه الإقرار بالوحدانية وهذا)).
[10] في (م) و(ي): ((قال الله تعالى)).
[11] قوله: ((أحدهم)) ليس في (م) وزاد بعدها في الآية: (({قال إني تبت الآن}))فمعنى قوله تعالى (({حضر أحدهم الموت})).
[12] في (م): ((دار الآخرة فحكم له بما)) وفي (ي): ((دار الآخرة فلم يحكم بما)).
[13] في (ص) و(ي): ((انتقل إليه حين أدركه الغرق بقوله)) والمثبت من (م).
[14] في (م): ((وقد جاء)).
[15] في (م) و(ي): ((وأيقن وقال)).
[16] قوله: ((كلمة)) زيادة من (م).
[17] قوله: ((يوم)) ليس في (م).
[18] زاد في (م) و(ي): (({أو كسبت في إيمانها خيرا})).
[19] في (م): ((أي إذا جاءت)).
[20] في (م): ((بعد)).
[21] قوله: ((قال المؤلف)) ليس في (م) وكذا قوله: ((عن الرسول)) ليس فيها وفي (ي): ((عن النبي)).
[22] زاد في (م): ((كلمة)).
[23] في (م): ((وأي)).
[24] في (م): ((أوجهًا)).
[25] زاد في (م) و(ي): ((أنه)) وفي (م) بعدها: ((إذا لم يقارنه)).
[26] في (م) و(ي): ((وزكاة وصيام)).
[27] في (م) و(ي): ((أنه)).
[28] زاد في (م): ((بها)).
[29] في (م): ((سواه)).
[30] في (م): ((وهو أنه لما كان)).
[31] في (م): ((رجا)).
[32] في (ي): ((وأقر)) وفي (م): ((وصدَّق)) وبعدها في (م): ((أن يشفع بذلك)).
[33] قوله: ((قال المؤلف)) ليس في (م).
[34] زاد في (ي): ((قد)).
[35] في (م): ((أنه قد نفعته شفاعته ◙ وإن كان مات كافرًا فإنه)).
[36] زاد في (م): ((وأنه يكسى نعلين من نار يغلي منهما دماغه أعاذنا الله من النار)) وفيها بعدها: ((فنفعه لها)).
[37] في (م): ((فإن)).
[38] في (م): ((وكان من جملة من)).
[39] زاد ي (م): ((وإثم من اتبعوهم)).
[40] زاد في (م) و(ي): ((النبي)).
[41] في (م): ((ولا يتوقف عنه لتماديه أيام حياته)).
[42] في (م): ((وقد قيل)).
[43] في (ي): ((للمرجحة له في طلب حقه)) وفي (م): ((للمرجحة له في مطالبه)) وفي (م) بعدها: ((ولذلك ذكره)).
[44] في (م): ((بلفظ الشهادة في هذا الباب)) وقوله: ((لأنه أقرب للتأويل)) ليس فيها.
[45] زاد في (م): ((لوجوه)).