شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الصلاة على القبر بعد ما يدفن

          ░66▒ بابُ: الصَّلَاةِ عَلَى القَبْرِ بَعْدَ مَا يُدْفَنَ.
          فيهِ: ابنُ عَبَّاسٍ: (أنَّ النَّبيَّ صلعم مَرَّ على قَبْرٍ مَنْبُوذٍ فَأَمَّهُمْ، وَصَلَّوْا خَلْفَهُ). [خ¦1336]
          وفيهِ: أَبُو هُرَيْرَةَ: (أَنَّ أَسْوَدَ، رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً، كَانَ يَقُمُّ(1) المَسْجِدَ فَمَاتَ، وَلَمْ يَعْلَمِ الرَّسُولُ(2) صلعم بِمَوْتِهِ، فَذَكَرَهُ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: مَا فَعَلَ ذَلِكَ(3) الإِنْسَانُ؟ قَالُوا: مَاتَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: أَفَلا آذَنْتُمُونِي؟ قَالُوا(4): كَانَ كَذَا وَكَذَا فَحَقَرُوا شَأْنَهُ، فَقَالَ: دُلُّونِي(5) عَلَى قَبْرِهِ، فَأَتَى قَبْرَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ). [خ¦1337]
          اختلف العلماء فيمن فاتته الصَّلاة على الجنازة، هل يُصَلِّي على قبرها؟ فرُوِيَ عن عليٍّ وابنِ مَسْعُودٍ وعائشةَ(6) أنَّهم أجازوا ذلك، وبه قال الأوزاعيُّ والشَّافعيُّ وأحمدُ وإِسْحَاقُ، واحتجُّوا بأحاديث هذا الباب وغيرها وقالوا: لا يُصَلَّى(7) على قبرٍ إلَّا قُرْبَ ما يُدْفَنُ، وأكثر ما حَدُّوا فيه(8) شهرًا إلَّا إِسْحَاقَ فإنَّه قال: يُصَلِّي(9) الغائب مِن شهرٍ إلى شهرٍ، والحاضر إلى ثلاثةٍ.
          وكره قومٌ الصَّلاة على القبر، ورُوِيَ(10) عنِ ابنِ عُمَرَ أنَّه كان إذا انتهى إلى جنازةٍ قد صَلَّى عليها دعا وانصرف ولم يُصَلِّ عليها، وهو قول النَّخَعِيِّ والحَسَنِ البَصْرِيِّ ومالكٍ والثَّوْرِيِّ وأبي حَنِيْفَةَ واللَّيْثِ.
          وقال(11) ابنُ القَاسِمِ: قلت لمالكٍ: فالحديث الَّذي جاء عَنِ النَّبيِّ صلعم أنَّه صَلَّى على قَبْرِ امرأةٍ؟ قال: قد جاء هذا(12) الحديث وليس(13) عليه العمل. وقال أبو الفَرَجِ: صلاةُ النَّبيِّ صلعم على من دُفِنَ خاصٌ له(14)، لا يجوز لغيرِهِ، لقوله صلعم: ((إنَّ هَذِهِ القُبُورُ مَمْلُوْءَةٌ ظُلْمَةً حتَّى أُصَلِّيَ عَلِيْهَا)).
          وقال أبو حَنِيْفَةَ: لا يُصَلِّي على قبرٍ مَرَّتين إلَّا أن يُصَلِّيَ عليها غير وليِّها، فيُعِيْدُ وليُّها الصَّلاة عليها. وقال الطَّحَاوِيُّ: يسقط الفرض بالصَّلاة الأُولى إذا صَلَّى عليها الوليُّ، والصَّلاة الثَّانية(15) لو فعلت لم تكن فرضًا فلا يُصَلَّى عليها(16)؛ لأنَّهم لا يختلفون أنَّ الوليَّ(17) إذا صَلَّى عليه لم يَجُزْ له إعادة الصَّلاة(18) ثانيةً لسُقُوط الفرض، وكذلك غيره مِن النَّاس إلَّا أن يكون الَّذي صَلَّى عليها غير الوليِّ(19)، فلا يسقط حقُّ الوليِّ؛ لأنَّ الوليَّ كان إليه فعل فرض الصَّلاة على الميِّت.
          وما رُوِيَ عَنِ الرسول(20) صلعم في إعادة الصَّلاة؛ فلأنَّه كان إليه فعل فرض الصَّلاة، فلم يكن يسقط(21) فعل غيره، وقد كان(22) صلعم تَقَدَّم إليهم أن يُعْلِمُوهُ، وقد قال ◙(23): ((لَا يَمُوتُ مِنْكُمْ مَيِّتٌ مَا دُمْتُ بينَ أَظْهُرِكُمْ إلَّا آذَنْتُمُونِي بِهِ، فإنَّ صَلَاتِي عَلِيْهِ رَحْمَةٌ)).
          وقد ذكر ابن القَصَّار نحو(24) هذه الحُجَّة سواء، واحتَجَّ أيضًا بالإجماع في ترك الصَّلاة على قبر الرسول(25) صلعم، ولو جاز ذلك لكان قبره أَوْلى أن يُصَلَّى عليه أبدًا، ثمَّ كذلك أبو بَكْرٍ وعُمَرُ ☻، فلما لم يُنقَلْ أنَّ أَحَدًا صَلَّى عليهم، كان ذلك مِن أقوى الدلالة على أنَّه لا يجوز.
          واختلفوا فيمن دُفِنَ ونُسِيَتِ الصَّلاة عليه، فقال أبو حَنِيْفَةَ ومحمَّدٌ: يُصَلِّي على القبر ما بينهم وبين ثلاثٍ.
          وقال(26) ابن وَهْبٍ: إذا ذَكَرُوا ذلكَ عند انصرافِهِم مِن دَفْنِهِ، فإنَّه لا يُنْبَش وليُصَلُّوا على قَبْرِهِ(27)، سَمِعْتُ هذا. وقاله يحيى بن يحيى، وروى موسى(28) عن ابنِ القَاسِمِ أنَّه يُخْرَج بحضرة ذلك ويُصَلَّى عليه، وإن خَافُوا أن يَتَغَيَّرَ(29). وقاله عيسى بن دِيْنَارٍ(30)، وروى موسى عن ابنِ القَاسِمِ قال: وكذلك إذا نسوا غسله مع الصَّلاةِ عليهِ، وفي «المبسوط»: روى(31) ابن نافعٍ عن مالكٍ إذا نُسِيَت الصَّلاة(32) حتَّى يُفرَغَ(33) من دَفْنِهِ لا ينشره(34)، ولا يُصَلَّى على قبره(35)، ولكن يَدْعُونَ له، وهو قول أَشْهَبَ وسَحْنُون، ولم يريا الصَّلاة(36) على القبر.
          وقوله: (يقُمُّ المسجد) يعني يَكْنُسُهُ، يُقَالُ: قَمَّ فلانٌ بَيْتَهُ يَقُمُّهُ(37)، إذا كَنَسَهُ، والقُمَامَةُ: الكُنَاسَةُ، والمِقَمَّةُ المِكْنَسَةُ، ومنه قولهم(38): اقتَمَّ فلانٌ ما على الخِوَان، إذا أكَلَهُ فصَيرَهُ كالبَيْتِ المَكْنُوسِ، والقَمِيْمُ يَبَسُ البَقْلِ، وقَمَّتِ الشَّاةُ: رَعَتْ، والإقْمَامُ: ضَرْبُ الفَحْلِ الإبِلَ، يُقَالُ: أقمَّ الفَحْلُ الإبِلَ إذا ضَرَبَهَا.
          وقال(39) الخَطَّابِيُّ: حديث ابن عَبَّاسٍ يُرْوَى على وجهَين:
          أحدهما: أن يجعل المنبوذ نعتًا للقبر(40) ومعناه أنَّه قبرٌ منبوذٌ(41) عن القُبُور.
          والوَجْه الآخر: أن تكون الرِّواية على إضافة القبر إلى المنبوذِ، معناه(42): أنَّه مرَّ بقبرِ لَقِيْطٍ فصَلَّى عليه، والمَنْبُوذُ المَلْقُوطُ، وهو المَزْكُومُ أيضًا، يُقَالُ: زَكَمَتْ بِهِ أُمُّهُ فهو(43) زُكْمَةُ فلانٍ. /


[1] زاد في (ي): ((في)) والعبارة في (م): ((كان يكون في المسجد يقمُّه)).
[2] في (م) و(ي): ((النبي)).
[3] في (م): ((ذاك)) وقوله: ((الإنسان)) زيادة من (م) و(ي).
[4] في (م): ((فقالوا له)) وفي (ي): ((فقالوا إنَّه)).
[5] في (م) و(ي): ((قال: فدلوني)).
[6] زاد في (م) و(ي): ((وأبي موسى)).
[7] في (م): ((هذا الباب وغيرها وأجمع القائلون بذلك أنَّه لا يُصلَّى)).
[8] في (م): ((في ذلك)).
[9] زاد في (م): ((عليه)).
[10] في (م): ((روي)). وقوله بعدها: ((أنَّه كان)) ليس فيها.
[11] في (م): ((قال)).
[12] قوله: ((هذا)) ليس في (م).
[13] في (ص): ((ليس)) والمثبت من (م) و(ي).
[14] في (م): ((أنَّه)).
[15] في (م): ((الولي والثانية)).
[16] في (م): ((عليه)).
[17] في (م): ((الوالي)).
[18] زاد في (م): ((عليه)).
[19] في (م): ((الوالي)).
[20] في (م) و(ي): ((النبي)).
[21] في (م): ((فلم يسقطه)).
[22] زاد في (م) و(ي): ((النبي)).
[23] في (م): ((وقد كان قال)).
[24] في (م): ((مثل)).
[25] في (م) و(ي): ((النبي)).
[26] قوله: ((أبو حَنِيْفَة ومحمَّد: يصلِّي على القبر ما بينهم وبين ثلاث. وقال)) ليس في (م).
[27] في (م): ((فليصلوا على قبره بأربع تكبيرات)).
[28] زاد في (ي): ((وعيسى)) وفي (م): ((يحيى بن يحيى وعن ابن القاسم)).
[29] في (م): ((فإن خافوا أن يتغير صلَّوا على قبره)).
[30] زاد في (م): ((وقال أبو حَنِيْفَة ومحمَّد يصلَّى على القبر ما بينهم وبين ثلاث)).
[31] في (م): ((وروى)).
[32] زاد في (م): ((عليه)).
[33] في (م): ((يفرغوا)).
[34] صورتها في (م): ((لا ينبشوه))، وضع علامة دائرة صغيرة فوق الكلمات: ((ابن نافع.. نسيت... يفرغوا... لا ينبشوه)) وكتب في الحاشية: ((قال وهذا المعلم عليه وقع في نسخة للأصل)).
[35] في (م): ((ولا يصلُّوا على القبر)).
[36] في (ص): ((ولم يريا لصلاة)) والمثبت من (م) و(ي).
[37] زاد في (م): ((قمًّا)).
[38] في (م) و(ي): ((ومنه قيل)).
[39] قوله: ((وقال)) ليس في (م).
[40] في (ي) و(ص): ((للقطع)) والمثبت من (م).
[41] في (م): ((منتبذ)).
[42] في (م): ((ومعناه)).
[43] في (م): ((وهو)).