شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما يكره من الصلاة على المنافقين والاستغفار للمشركين

          ░84▒ بابُ: مَا يُكْرَهُ مِنَ الصَّلاةِ على الْمُنَافِقِينَ وَالاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِين.
          فيه: عُمَرُ بنُ الخطَّاب أنَّه قالَ: (لَمَّا(1) مَاتَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أبيٍّ ابنُ سَلُولٍ دُعِيَ لَهُ رَسُولُ اللهَِّ(2) صلعم لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللهِ وثَبْتُ(3) إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَتُصَلِّي على ابنِ أُبيٍّ وَقَدْ(4) قَالَ / يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، كَذَا وَكَذَا، أُعَدِّدُ عَلَيْهِ(5)، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ صلعم، وَقَالَ: أَخِّرْ عَنِّي يَا عُمَرُ، فَلَمَّا أَكْثَرْتُ عَلَيْهِ قَالَ: إِنِّي خُيِّرْتُ فَاخْتَرْتُ، لَوْ(6) أَعْلَمُ أَنِّي لَوْ(7) زِدْتُ على السَّبْعِينَ يُغْفَرُ لَهُ لَزِدْتُ عَلَيْهَا، فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ثُمَّ(8) انْصَرَفَ، فَلَمْ يَمْكُثُوا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى نَزَلَتِ الآيَتَانِ(9) مِنْ بَرَاءَةٌ: {وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا} إلى: {وَهُمْ فَاسِقُونَ}[التوبة:84]، قَالَ: فَتَعَجَّبْتُ مِنْ جُرْأَتِي على رَسُولِ اللهِ، وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ)(10). [خ¦1366]
          قال المؤلِّف: فرضٌ على جميع المؤمنين، متعيِّن على كلِّ واحدٍ(11) منهم ألَّا يدعو للمشركين، ولا يستغفر لهم إذا ماتوا على شركهم لقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} إلى {الْجَحِيمِ}(12)[التوبة:113]، فإن قيل: إنَّ(13) إبراهيم ◙ استغفر لأبيه وهو كافر، فالجواب: أنَّ الله تعالى قد بيَّن عذره في ذلك، فقال: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ(14) إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ}[التوبة:114]، فدعا(15) له وهو يرجو إجابته(16) ورجوعه إلى الإيمان {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ}[التوبة:114].
          ففي هذا من الفقه: أنَّه جائز أن يُدعى لكلِّ من يُرجى من الكفَّار إنابته بالهداية ما دام حيًّا؛ لأنَّ النَّبيَّ صلعم قد دعا لدوس وكان ◙ إذا شَمَّتَهُ(17) أحد المنافقين واليهود قال: ((يهديكم الله ويصلح بالكم))، وقد يعمل الرَّجل بعمل أهل النَّار ثمَّ يختم(18) له بعمل أهل الجنَّة.
          وفيه: تصحيح القول بدليل الخطاب؛ لاستعمال الرَّسول(19) له،وذلك أنَّ إخبار الله تعالى أنَّه لا يغفر له ولو(20) استغفر له سبعين مرَّة، يحتمل أنَّه لو زاد على السَّبعين أنَّه يغفر له ويحتمل أنَّه لا يغفر له(21) لكن لمَّا شهد الله تعالى أنَّه كافر بقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ}[التوبة:80]دلَّت هذه الآية على تغليب أحد الاحتمالين، وهو أنَّه لا يغفر له لكفره(22)، فلذلك أمسك عن الدُّعاء له.
          قال الطَّبريُّ: وفيه الإبانة عن نهي الله تعالى رسوله ◙ عن(23) الصَّلاة على المنافقين؛ لاعتقادهم للكفر(24) وإن كانوا يظهرون الإسلام اعتصامًا به وحقنًا لدمائهم، فأمَّا القيام على قبورهم فغير محرَّم على غير رسول الله ◙، بل جائز لوليِّه القيام عليه لإصلاحه(25) ودفنه، وبذلك صحَّ الخبر عن الرَّسول(26)، وعمل به أهل العلم بعده، فدلَّ ذلك(27) أنَّ القيام على قبرِه كان مخصوصًا بتحريمه(28) رسول الله.
          والدَّليل على صحَّة ذلك ما حدَّثنا(29) إسماعيل بن موسى، حدَّثنا شَرِيك بن عبد الله عن أبي إسحاق، عن نَاجِيَة بن كعب، عن عليٍّ، قال: ((لمَّا مات أبو طالب أتيت النَّبيَّ صلعم فقلت له: إنَّ عمَّك الضالَّ قد(30) هلك، قال: اذهب فوارِه، ولا تُحدِثَنَّ شيئًا، فأتيته، فأمرني أن أغتسل، ودعا لي(31) بدعوات ما يسرُّني أنَّ لي بها حمر النَّعم)). وروى الثَّوريُّ، عن الشَّيبانيِّ، عن سعيد بن جبير، قال: مات رجل يهوديٌّ وله ابن مسلم فلم يخرج معه(32)، فذُكر ذلك لابن عبَّاس قال(33): كان ينبغي له أن يمشي معه ويدفنه، ويدعو له بالصّلاح ما دام حيًّا، فإذا مات وكلَه إلى شأنه ثمَّ قرأ: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ} الآية(34)[التوبة:114].
          وقال النَّخَعِيُّ: توفِّيت أمُّ الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة وهي نصرانيَّة، فاتَّبعها أصحاب رسول الله صلعم تكرمة للحارث ولم يصلُّوا عليها.
          قال المؤلِّف(35): وفي إقدام عمر على مراجعة الرَّسول(36) في الصَّلاة عليه من الفقه: أنَّ الوزير الفاضل النَّاصح لا حرج عليه في(37) أن يخبر سلطانه بما عنده من الرَّأي، وإن كان مخالفًا لرأيه، وكان عليه فيه بعض الجفاء إذا علم فضل الوزير وثقته وحسن مذهبه، فإنَّه(38) لا يلزمه اللَّوم على ما يؤدِّيه اجتهاده إليه، ولا يتوجَّه إليه سوء الظَّنِّ، وأنَّ صَبْرَ السُّلطان على ذلك من تمام الفضل(39)؛ ألا ترى سكوت النَّبيِّ عن عمر، وتركه الإنكار عليه، وفي رسول الله أكبر الأسوة.


[1] في (م): ((فيه: عُمَرُ لَمَّا)). قوله: ((ابن سلول)) ليس فيها.
[2] في (م): ((النبي)).
[3] في (م): ((النبي صلعم وثبت)).
[4] في (م): ((تصلي عليه وقد)).
[5] قوله: ((أعدد عليه)) ليس في (م).
[6] في (م): ((ولو)).
[7] في (م): ((إن)).
[8] في (م): ((النبي صلعم ثم)).
[9] في (م): ((انْصَرَفَ، فنَزَلَتِ الآيَتَانِ)).
[10] في (م): ({وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا}الآية [التوبة: 84] فَعَجِبْتُ بَعْدُ مِنْ جُرْأَتِي يومئذٍ على رَسُولِ اللهِ، وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ). وقوله بعدها: ((قال المؤلف)) ليس في (م).
[11] في (م): ((أحد)).
[12] في (م): ((للمشركين وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ)).
[13] في (م): ((فإن)).
[14] قوله: ((لأبيه)) ليس في (م).
[15] في (م): ((ودعا)).
[16] في (م): ((إنابته)).
[17] في (ص): ((لأن النبي ◙ لما شَمَّتَهُ)) والمثبت من (م) وبعدها في (م): ((أحد من المنافقين)).
[18] في (ص): ((يعمل الرجل ويختم)) والمثبت من (م).
[19] في (م): ((النبي)).
[20] في (م): ((لو)).
[21] قوله: ((ويحتمل أنه لا يغفر له)) زيادة من (م). وبعدها في (ص): ((لكان)) والمثبت من (م).
[22] في (م): ((لا يغفر له لو زاد على السَّبعين بكفره)).
[23] في (ص): ((نهي الله ورسوله عن)) والمثبت من (م).
[24] في (م): ((الكفر)).
[25] في (م): ((بإصلاحه)). وبعدها في (ص): ((ولذلك)) والمثبت من (م).
[26] في (م): ((عن النبي)).
[27] زاد في (م): ((على)).
[28] زاد في (م): ((على)).
[29] في (م): ((حدثناه)).
[30] قوله: ((قد)) ليس في (م) وبعدها فيها: ((فقال)).
[31] قوله: ((لي)) ليس في (م) وكذا قوله بعدها: ((بها)).
[32] قوله: ((فلم يخرج معه)) زيادة من (م). وقوله بعدها: ((ذلك)) ليس في (م).
[33] في (م): ((فقال)).
[34] في (م): (({لأبيه إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} ولم يدع له)).
[35] قوله: ((قال المؤلف)) ليس في (م) وقوله: ((وفي إقدام عمر على مراجعة... وفي رسول الله أكبر الأسوة)) جاء فيها بعد قوله السابق: ((وفيه تصحيح القول بدليل الخطاب لاستعمال الرسول له)).
[36] في (م): ((النبي)).
[37] زاد في (م): ((في)).
[38] في (م): ((وإنه)).
[39] في (م): ((فضله)).