شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب فضل من مات له ولد فاحتسب

          ░6▒ بَابُ: فَضْلُ مَنْ مَاتَ لَهُ وَلَدٌ فَاحْتَسَبَ وَقَوْلُ اللهِ(1): {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}[البقرة:155].
          فيه: أَنَسٌ قَالَ(2): قَالَ النَّبيُّ صلعم(3): (مَا مِنَ النَّاسِ مِنْ(4) مُسْلِمٍ يُتَوَفَّى لَهُ ثَلاثٌ(5) لَمْ يَبْلُغُوا الحِنْثَ، إِلا أَدْخَلَهُ اللهُ الجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ). [خ¦1248]
          وفيه: أَبُو سَعِيدٍ: (أَنَّ النِّسَاءَ قُلْنَ للنَّبيِّ صلعم: اجْعَلْ لَنَا يَوْمًا، فَوَعَظَهُنَّ فقَالَ(6): أَيُّمَا امْرَأَةٍ مَاتَ لَهَا ثَلاثَةٌ مِنَ الوَلَدِ، كُنَّ(7) حِجَابًا مِنَ النَّارِ، قَالَتِ امْرَأَةٌ: وَاثْنَانِ(8)؟ قَالَ: وَاثْنَانِ).
          [خ¦1249]
          وقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: (لَمْ يَبْلُغُوا الحِنْثَ).
          وفيهِ: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ النَّبيُّ صلعم: (لا يَمُوتُ(9) لِمُسْلِمٍ ثَلاثَةٌ مِنَ الوَلَدِ فَيَلِجَ النَّارَ، إِلَّا تَحِلَّةَ القَسَمِ) {وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا}[مريم:71]. [خ¦1251]
          قال المُهَلَّبُ: هذه الأحاديث تدلُّ على(10) أنَّ أولاد المسلمين في الجنَّة، وهو قول جمهور العلماء، وشذَّت المجبرة فجعلوا الأطفال في المشيئة، وهو قولٌ مهجورٌ مردودٌ بالسُّنَّة وإجماع(11) الجماعة الَّذين لا يجوز عليهم الغلط؛ لأنَّه يستحيل أن يكون الله تعالى يغفر لآبائهم بفضل رحمته، ولا يُوجب الرَّحمة للأبناء، وهذا بَيِّنٌ لا إشكال فيه، وسيأتي الكلام في الأطفال بعد هذا في موضعه(12) إن شاء الله تعالى [خ¦23/91-2178]، وقد جاء(13) أنَّه من مات له ولد واحد دخل الجنَّة، رُوِي عن النَّبيِّ(14) صلعم أنَّه قال: ((قالَ اللهُ ╡: ما جَزَاءُ عَبْدِي إذا قَبَضْتُ(15) صَفِيَّه مِنَ الدُّنيا فيَصْبِرُ ويَحْتَسِبُ(16) إلَّا الجنَّةَ))(17)، ولا صَفِيٌّ أَصْفَى من الولد(18).
          قال عبدُ الواحدِ(19): وقوله صلعم: (وَاثْنَانِ) بعد أن قال: (ثَلاثَةٌ) يحتمل أنَّه لمَّا قالت له(20) المرأة: أو اثنان؟ نزل عليه الوحي في الحين أن يجيبها بقوله: (وَاثْنَانِ) ولا(21) يمتنع نزول الوحي على النَّبيِّ صلعم في(22) أسرع من طرفة العين(23) ويدلُّ على ذلك ما ثَبَتَ عنِ النَّبيِّ صلعم أنَّه لما نزلت عليه: {لَا يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ}[النساء:95]قام إليه ابنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فقال: يا رَسُولَ اللهِ، إنِّي رَجُلٌ ضريرُ البَصَرِ، فنَزَلَتْ: {غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ}[النساء:95]، فأُلحقت بها(24).
          وقوله صلعم: (إِلَّا تَحِلَّةَ القَسَمِ) هو مخرَّجٌ في التفسير المسند؛ لأنَّ القَسَمَ(25) عند العلماء قوله تعالى: {وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ على رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا}[مريم:71]هذا قول أبي عُبَيْدٍ يقول: فلا يَرِدُهَا إلَّا بقدر ما يبرُّ اللهُ قَسَمَهُ.
          قال الخَطَّابي: وعارضنا(26) ابنُ قُتَيْبَةَ وقال(27): هذا حسن من الاستخراج إن كان هذا(28) قَسَمًا، قال: وفيه(29) وجهٌ آخرُ، وهو أشبه بكلام العرب ومعانيهم، وهو إذا أرادوا تقليل مكث الشَّيء وتقصير مُدَّته شبَّهوه بتحليل القَسَم، وذلك أن يقول الرَّجُل بعد(30): إن شاء الله فيقولون: ما يقيم فلانٌ عنه إلَّا تَحِلَّة القَسَم، وما ينام العليل إلَّا كتحليل الألية،(31) مشهور في كلامهم قال: ومعناه أنَّ النَّار لا تمسُّهُ إلَّا قليلًا كتحليل اليمين(32)، ثمَّ ينجيه الله منها. قال(33): ولا إشكال أنَّ المعنى ما ذهب إليه أبو عُبَيْد، إلَّا أنَّه أغفل(34) بيان موضع القَسَم، فتوهَّم ابنُ قُتَيْبَةَ أنَّه ليس بقَسَمٍ.
          وقد جاء ذلك في حديثٍ مرفوعٍ رواه زَبَّانُ بنُ / فَائِدٍ عن سَهْلِ بنِ مُعَاذِ بنِ أَنَسٍ الجُهَنِيِّ عن أبيه قال: قال رَسُولُ اللهِ صلعم: ((مَنْ حَرَسَ ليلةً وراءَ عَوْرَةِ المسلمِيْنَ تَطَوُّعًا لمْ يَرَ النَّارَ تَمَسُّهُ(35) إلَّا تَحِلَّةَ القَسَمِ قال الله سبحانه: {وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ على رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا}))[مريم:71]وفي هذا ما يقطع بصِحَّة قول أبي(36) عُبَيْدٍ.
          قال الخطَّابيُّ: وموضع القَسَم مردودٌ إلى قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} الآية[مريم:68]، وفيه وجهٌ آخرُ وهو أنَّ العربَ تَحْلِفُ وتَضْمِرُ المُقْسَمَ(37) بِهِ كقوله تعالى: {وَإِنْ مِنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا(38)}[مريم:71]المعنى(39): وإنْ منكم والله إلَّا واردها، وقال(40) الحَسَن وقَتَادَة: {حَتْمًا مَّقْضِيًّا}[مريم:71]قَسَمًا واجبًا، وهو قول ابنِ مَسْعُودٍ.
          واختلف العلماء في هذا(41) الورود المذكور في الآية، فقال جابرُ بنُ عبدِ اللهِ وابنُ عبَّاسٍ(42): لا يبقى بَرٌّ ولا فاجرٌ إلَّا دخلها، فتكون على المؤمن بَرْدًا وسَلامًا كما كانت على إبراهيمَ.
          وقال آخرون: الورود الممرُّ على الصِّراط. ورُوِي(43) ذلك عن ابنِ مَسْعُودٍ وكَعْبِ الأحبارِ، وروايةٌ عن ابنِ عبَّاسٍ.
          وقال آخرون: هو خِطَابٌ للكفَّار، رُوِي ذلك عن ابنِ عبَّاسٍ، قال: هو ردٌّ على الآيات الَّتي قبلها في الكفَّار قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} إلى قوله(44): {وَإِنْ مِّنكُمْ(45) إِلَّا وَارِدُهَا}[مريم:68-71].
          وقال ابنُ الأَنْبَارِيِّ وغيره: جائزٌ أن يرجع من مخاطبة الغائب إلى لفظ المواجهة، ومن المواجهة إلى الغائب، قال الله تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا. إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً} [الإنسان:21-22]فأبدل الكاف مِن الهاء، فعلى هذا صَلُح(46) أن يكون خِطابًا للمؤمنين.
          وقال مُجَاهِدٌ: الحُمَّى حظُّ المؤمن مِن النَّار. ثُمَّ قرأ: {وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا}[مريم:71]قال: الحُمَّى في الدُّنيا الورود، فلا يَرِدُها في الآخرة.
          والحُجَّة له ما رواه أبو أُمَامَةَ(47) عن عبدِ الرَّحمنِ بنِ يزيدِ بنِ جابرٍ عن إِسْمَاعِيْلَ بنِ عبدِ اللهِ الأشعَرِيِّ، عن أبي هريرةَ، قال: عادَ رَسُولُ اللهِ صلعم وأنا مَعَهُ مَريضًا كانَ يَتَوعَّكُ(48)، فقالَ: ((أَبْشِرْ فإنَّ اللهَ تعالى يقولُ: هي نَارِي أُسَلِطُها على عَبْدِي المؤمِنِ لتكونَ حَظَّهُ مِنْ نارِ(49) الآخِرَةِ)).
          وقال صاحبُ «العين»: بلغَ الغُلامُ الحِنْثَ إذا جَرَى عليه القَلَمُ. والحِنْثُ: الذَّنْبُ العظيمُ.


[1] زاد في (ي): ((╡)).
[2] قوله: ((قال)) ليس في (م).
[3] في (ص): ((قال ◙)).
[4] قوله: ((من)) ليس في (م).
[5] في (م): ((ثلاثة)).
[6] في المطبوع: ((وقال)).
[7] في (م): ((كن لها))، وفي المطبوع: ((كانوا)).
[8] في (م): ((أو اثنان)).
[9] في المطبوع: ((لا يتوفَّى)). في (ص): ((لا يتوف)).
[10] قوله: ((على)) ليس في (م).
[11] في (م): ((وبإجماع)).
[12] في (م): ((وسيأتي الكلام في الأطفال في موضعه))، وفي المطبوع و(ي): ((وسيأتي الكلام في الأطفال في موضعه بعد هذا)).
[13] زاد في (م): ((ما يدلُّ على)).
[14] في (ص): ((الرسول)).
[15] في (ي): ((قضيت)).
[16] في (م): ((فصبر واحتسب)).
[17] زاد في (م): ((ذكره في كتاب الرقاق في باب من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله إليه)).
[18] زاد في (م): ((وأقرب)).
[19] في (م): ((قال غيره)).
[20] قوله: ((له)) ليس في (م).
[21] في (م): ((إذ لا)).
[22] قوله: ((من)) ليس في (م).
[23] في (م): ((عين)).
[24] قوله: ((ويدلُّ على ذلك ما ثبت عن النَّبيِّ ◙ أنَّه لما نزلت عليه: {لَا يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ} [النساء: 95] قام إليه ابن أمِّ مكتوم فقال: يا رَسُول الله، إنِّي رجل ضرير البصر، فنزلت: {غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ} [النساء: 95]، فألحقت بها)) ليس في (م).
[25] في (ص): ((القول)).
[26] في (م): ((وعارضه)).
[27] في المطبوع و(ص): ((فقال)).
[28] قوله ((هذا)) ليس في (ي).
[29] في (ي): ((فيه))
[30] في (م): ((الرَّجل بعده))، وفي المطبوع: ((للرَّجل بعده)).
[31] زاد في (م): ((وكحشو... الطَّير)).
[32] قوله: ((اليمين)) ليس في (م).
[33] زاد في (م): ((الخطَّابي)).
[34] في (ي) و(ص): ((غفل))
[35] في (م): ((متطوِّعًا لم تمسّه النَّار)).
[36] قوله: ((أبي)) ليس في (م).
[37] في (ز) و(ي): ((القسم)).
[38] في (م): (({وَإِنْ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ})).
[39] في (م): ((معناه)).
[40] في (م): ((والله {لَمَنْ ليبطِّئنَّ} فأضمروا الله وكذلك قوله {وإِنْ مِنْكُمْ إلَّا وارِدُهَا} قال)).
[41] قوله: ((هذا)) ليس في (ص).
[42] في (م): ((فقال ابنُ عبَّاسٍ وجابرُ بنُ عبدِ اللهِ، الورود الدُّخُول، قال جابرٌ:))، وفي (ي): ((فقال ابنُ عبَّاسٍ وجابرُ بنُ عبدِ اللهِ)).
[43] في (م): ((روي)).
[44] قوله: ((قال: هو ردٌّ على الآيات الَّتي قبلها في الكفَّار قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِيْنَ ثمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} إلى قوله: {وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 68 ـ 71])) ليس في (م). وبدله قوله: ((وزيد بن أسلم قال تعالى: {وَيَقُوْلُ الإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} [مريم: 66] وهم الَّذين ينكرون البعث يقول الله: {أَفَلَا يَذْكُرُ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقَنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا، فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ} _أهل هذا القول_ {والشَّيَاطِيْنُ ثمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيْعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} [مريم: 68 ـ 69] المكذِّبين بالبعث)).
[45] قوله: ((وإن منكم)) ليس في (ص).
[46] في (م): ((يصلح)).
[47] في (م): ((أبو أسامة)).
[48] في (م): ((كان به وعك)).
[49] في (م): ((من النَّار في)).