شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب زيارة القبور

          ░31▒ بَابُ: زِيَارَةِ القُبُورِ.
          فيهِ: أَنَسٌ قَالَ(1): (مَرَّ النَّبِيُّ صلعم بِامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ(2)، فَقَالَ: اتَّقِي اللهَ وَاصْبِرِي، قَالَتْ(3): إِلَيْكَ عَنِّي، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي، وَلَمْ تَعْرِفْهُ، فَقِيلَ لَهَا: إِنَّهُ النَّبِيُّ صلعم فَأَتَتْ بَابَ النَّبِيِّ(4) صلعم فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ، فَقَالَتْ: لَمْ أَعْرِفْكَ، فَقَالَ: إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُوْلَى). [خ¦1283]
          كره قومٌ زيارة القُبُور؛ لأنَّه رُوِيَ عَنِ النَّبيِّ صلعم أحاديث في النَّهي عنها، وقال الشَّعْبِيُّ: لولا أنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم نهى عن زيارة القُبُور لزرتُ قبر ابنتي(5).
          قال(6) إبراهيمُ النَّخَعِيُّ: كانوا يكرهون زيارة القُبُور، وعن ابنِ سِيرِينَ مثله.
          ثمَّ وردت أحاديث بنسخ النَّهي وإباحة زيارتها، روى ابنُ أبي شَيْبَةَ عن عبدِ الرَّحيمِ(7) بنِ سُلَيْمَانَ عن يحيى بنِ الحارث عن عَمْرِو بنِ عامرٍ عن أَنَسِ بنِ مالكٍ(8): نهى رَسُولُ اللهِ صلعم عن زيارة القُبُور، ثمَّ قالَ: ((زُوْرُوْهَا ولَا تَقُوْلُوا هُجْرًا)).
          وروى مَعْمَرٌ عن عَطَاءٍ الخُرَاسَانِيِّ، قال: حدَّثني عبدُ اللهِ بنُ بُرَيْدٍ(9) عن أبيهِ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: ((إنِّي كُنْتُ نَهِيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ القُبُوْرِ فزُوْرُوْهَا فَإنَّها تُذَكِّرُ الآخِرَةِ))(10). ورُوِيَ من حديثِ ابنِ مَسْعُودٍ عن النَّبيِّ صلعم.
          وحديث أَنَسٍ في هذا الباب يشهد لصِحَّةِ أحاديث الإباحة؛ لأنَّ النَّبيَّ صلعم إنَّما عَرَضَ على المرأةِ الباكية(11) الصَّبْرَ ورَغَّبَهَا فيه، ولم يُنكر عليها جُلُوسها عنده، ولا نهاها عن زيارته؛ لأنَّه صلعم لا يترك أحدًا يستبيح ما لا يجوز بحضرته ولا ينهاه، لأنَّ الله تعالى فرض عليه التَّبليغ والبيان لأمَّته، فحديث أَنَسٍ وشَبَهَهُ ناسخٌ لأحاديث النَّبيِّ صلعم(12) في ذلك(13)، وأظنُّ الشَّعْبِيَّ والنَّخَعِيَّ لم تبلغهم أحاديث الإباحة، والله أعلم.
          وكان(14) النَّبيُّ صلعم يأتي قُبُورَ الشُّهَدَاءِ عندَ رأسِ الحَوْل فيقولُ: ((السَّلامُ عَلِيْكُمْ بما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)). وكان أبو بَكْرٍ وعُمَرَ وعُثْمَانَ يفعلون ذلك.
          وزارَ النَّبيُّ صلعم قبر أمِّه يوم فتح مكَّة في ألفِ مُقَنَّعٍ(15). ذكره ابنُ أبي الدُّنيا، وذكر ابنُ أبي شَيْبَة، عن عليٍّ وابنِ مَسْعُودٍ وأَنَسِ بنِ مالكٍ(16)، إجازة زيارة القُبُور.
          وكانت فاطمةُ تزور قبرَ حَمْزَة كلَّ جمعةٍ، وكان ابنُ عُمَرَ يزور(17) قبر أبيه(18) فيقف عليه ويدعو له(19)، وكانت عائشةُ تزور قبر أخيها عبد الرَّحمن وقبرُه(20) بمكَّة، ذكر ذلك كلَّه عبد الرَّزَّاق.
          وقال ابنُ حَبِيْبٍ: لا بأس بزيارة القُبُور والجُلُوس إليها والسَّلام عليها عند المُرُور بها.
          وقد فعل ذلك النَّبيُّ صلعم، وفي(21) «المجموعة»: قال عليُّ بن زيادٍ: سُئِلَ مالكٌ عن زيارة القُبُور، فقال: قد كان نهى / عنه(22)◙ ثمَّ أَذِنَ فيه، فلو فعل ذلك إنسانٌ ولم يقل إلَّا خيرًا، لم أرَ بذلك بأسًا(23). ورُوِيَ عنه أنَّه كان يُضَعِّفُ زيارتها، وقوله الَّذي تعضده الآثار وعمل به السَّلف(24) أَوْلى بالصَّوَاب(25)، والأمُّة مجمعةٌ على زيارة قبر الرَّسول(26) صلعم وأبي بَكْرٍ وعُمَرَ، ولا يجوز على الإجماع(27) الخطأ، قاله المُهَلَّبُ. وكان ابنُ عُمَرٍ إذا قَدِمَ من سَفَرٍ أَتَى قبرَ النَّبيِّ صلعم فقال: السَّلامُ عليكَ يا رَسُولَ اللهِ، السَّلامُ عليكَ يا أبا بَكْرٍ، السَّلامُ عليكَ يا أَبَتَاهُ. رواه مَعْمَرٌ عن أَيُّوبَ عن نافعٍ.
          قال المُهَلَّبُ: ومعنى النَّهي عن زيارة القُبُور، إنَّما كان في أوَّل الإسلام عند قُرْبِهم(28) بعبادة الأوثان، واتِّخاذ القُبُور مساجد _والله أعلم(29)_ فلمَّا استحكم الإسلام وقوي في قلوب النَّاس، وأُمِنَتْ عبادة القُبُور والصَّلاة إليها، نُسِخَ النَّهي عن زيارتها؛ لأنَّها تُذَكِّرُ الآخرةَ وتُزهِّدُ في الدُّنيا(30).
          وقد حدَّثنا أبو المُطَرِّفِ القَنَازِعِي قال: حدَّثنا أبو مُحَمَّد بن عُثْمَانَ، قال(31) أبو عبدِ اللهِ الشِّبْلِيُّ الزَّاهِدُ: حدَّثنا محمَّد بن وَضَّاحٍ، حدَّثنا موسى بن مُعَاوِيَةَ، عن يحيى بن يَمَانٍ، عن طَاوُسٍ قال: كانوا يستحبُّون ألَّا يَتَفَرَّقُوا عن الميِّت سبعة أيَّامٍ؛ لأنَّهم يُفتنون ويُحاسبون في قُبُورهم سبعة أيَّامٍ.
          وفي حديث أَنَسٍ(32) ما كان عليه النَّبيُّ صلعم من التَّوَاضُعِ والرِّفْقِ بالجاهلِ؛ لأنَّه لم يَنْهَرِ المرأةَ حين قالَتْ له(33): إليكَ عنِّي، وعَذَرَها بمصيبتِها، وإنَّما لم يتَّخذْ بوابين، لأنَّ الله تعالى أعلمه أنَّه(34) يعصمه من النَّاس. وفيه أنَّه من اعتذر إليه بعُذْرٍ لائحٍ أنَّه يجب عليه قبوله.(35)


[1] قوله: ((قال)) ليس في (م).
[2] قوله: ((عند قبر)) ليس في (م).
[3] في المطبوع و(ص): ((فقالت)).
[4] في (ص): ((الرسول)).
[5] في (م): ((بنتي)).
[6] في (م): ((وقال)).
[7] في (ص): ((الرحمن)).
[8] زاد في (م): ((قال)).
[9] في (م): ((بريدة)).
[10] زاد في (م): ((وذكر الحديث)).
[11] زاد في (م): ((عند القبر)).
[12] في (ص): ((لأحاديث النهي)).
[13] في (م): ((لأحاديث النَّهي في ذلك)).
[14] في (م): ((وقد)).
[15] في (ص): ((في البقيع)).
[16] قوله: ((بن مالك)) ليس في (م).
[17] في (م): ((يمرُّ على)).
[18] في (ص): ((ابنه)).
[19] في (م): ((فيدعو له ويصلِّي عليه)).
[20] في (م): ((وقبر)).
[21] في (م): ((ومن)).
[22] قوله: ((عنه)) زيادة من (م) و(ي).
[23] زاد في (م): ((وليس من عمل النَّاس)).
[24] في (م): ((وعمل النَّاس)).
[25] في (م): ((ذكر ذلك كلَّه عبد الرَّزَّاق. وقال ابن حَبِيْبٍ: لا بأس بزيارة القُبُور... ورُوِيَ عنه أنَّه كان يضعف زيارتها، وقوله الَّذي تعضده الآثار وعمل به السَّلف أولى بالصَّواب)) أتى بعد قوله: ((رواه مَعْمَرٌ عن أيُّوب عن نافعٍ)).
[26] في (م) و(ي): ((النَّبيِّ)).
[27] في (م): ((ولا يجوز عليها الإجماع على)).
[28] في (م): ((قرب عهدهم)).
[29] زاد في (م): ((ألا ترى أنَّه ◙ قال: لعن الله اليهود اتَّخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذِّر ما صنعوا)).
[30] زاد في (م): ((والله أعلم)).
[31] في (م): ((حدثنا)).
[32] زاد في (ص): ((أن)) والمثبت من (م) و(ي).
[33] قوله: ((له)) ليس في (م).
[34] في (م): ((أن الله)).
[35] قوله: ((وفيه أنَّه من اعتذر إليه بعذرٍ لائحٍ أنَّه يجب عليه قبوله)) ليس في (م).