شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما جاء في قاتل النفس

          ░83▒ باب: مَا جَاءَ في قَاتِلِ النَّفْسِ.
          فيه: ثَابِتُ بْنُ الضَّحَّاكِ قال: قال(1) النَّبيُّ صلعم: (مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الإسْلامِ كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ عُذِّبَ بِهَا(2) في نَارِ جَهَنَّمَ). [خ¦1363]
          وفيه: جُنْدَبٌ عن الرَّسولِ(3) قَالَ: (كَانَ برَجُلٍ) جِرَاحٌ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَقَالَ اللهُ: (بَدَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ، حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ). [خ¦1364]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ ◙(4): (الذي يَخْنُقُ نَفْسَهُ يَخْنُقُهَا في النَّارِ، وَالذي يَطْعُنُهَا يَطْعُنُهَا في النَّارِ). [خ¦1365]
          أجمع الفقهاء وأهل السُّنة(5) أنَّ من قتل نفسه أنَّه لا يخرج بذلك عن الإسلام، وأنَّه يُصلَّى عليه، وإثمه عليه كما قال مالك، ويُدفن في مقابر المسلمين، ولم يكره الصَّلاة عليه إلَّا عُمَر بن عبد العزيز والأوزاعيُّ في خاصَّة أنفسهما، والصَّواب قول الجماعة؛ لأنَّ الرَّسول(6) سنَّ الصَّلاة على المسلمين، ولم يستثن منهم أحدًا، فيُصلَّى على جميعهم الأخيار والأشرار إلَّا الشُّهداء الذين أكرمهم الله بالشَّهادة.
          قال المُهَلَّب: وقولُه ◙(7): (بَدَرَني عَبدِي بنفْسِهِ، حَرَّمتُ عليهِ الجنَّةَ) وسائر الأحاديث، فمحملها عند العلماء في وقت دون وقت إن(8) أراد الله ╡ أن ينفذ عليه الوعيد لأنَّ الله في(9) وعيده للمذنبين بالخيار عند أهل السُّنَّة، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذَّبه، فإن عذَّبه فإنَّما يعذِّبه مدَّة(10) ما ثمَّ يخرجه بإيمانه إلى الجنَّة، ويرفع عنه الخلود والتَّأبيد على ما جاء في نصِّ القرآن وحديث الرَّسول، فالقرآن قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء}[النساء:48]، وقوله ◙: ((من قال: لا إله إلا الله، حرَّمه الله على النَّار))، يعني حرَّم خلوده على النَّار.
          وقوله: (مَنْ حَلفَ بِمِلَّةٍ غَيرِ الإِسْلامِ كَاذِبًا فَهُوَ كَما قَالَ) يعني فهو(11) كاذب لا كافر، ولا يخرج بهذا القول من الإسلام إلى الدِّين الذي حلف به؛ لأنَّه لم يقل ما يعتقده، ولذلك استحقَّ اسم الكذب فوجب أن يكون كما قال كاذبًا لا كافرًا.
          قال غيره: ومعنى الحديث النَّهي عن الحلف بما حلف به من ذلك والزَّجر عنه، وتقدير الكلام: من حلف بملَّة غير الإسلام كاذبًا متعمِّدًا، فهو كما قال، يعني فهو(12) كاذب حقًا؛ لأنَّه حين حلف بذلك ظنَّ أنَّ إثم الكذب واسمه ساقطان عنه لاعتقاده أنَّه لا حرمة لما حلف به، لكن لمَّا تعمَّد ترك الصِّدق في يمينه، وعدل عن الحقِّ في ذلك لزمه اسم الكذب وإثم الحلف(13)، فهو كاذب كذبتين: كاذب(14) بإظهار تعظيم ما يعتقد خلافه، وكذب بنفيه ما يعلم إثباته أو بإثبات ما يعلم نفيه(15).
          فإن ظنَّ ظانٌّ أنَّ في هذا الحديث دليلًا على إباحة الحلف بملَّة غير الإسلام صادقًا لاشتراطه في الحديث أن يحلف بذلك كاذبًا، قيل له: ليس كما توهَّمت، لورود نهي رسول الله صلعم عن الحلف بغير الله نهيًا مطلقًا، فاستوى في ذلك الكاذب والصَّادق، وفي النَّهي عنه، وسيتكرَّر هذا الحديث في كتاب النُّذور [خ¦6652]، وفي كتاب الأدب [خ¦6105]، ويأتي هناك من الكلام فيه ما يقتضيه التَّبويب له إن شاء الله(16).


[1] قوله: ((قال)) لم تتكرر في (م).
[2] في (م): ((به)).
[3] في (م): ((عن النبي صلعم)) وبعدها فيها: ((كان رجل)).
[4] في (م): ((قال النبي صلعم)).
[5] قوله: ((وأهل السنة)) ليس في (م).
[6] في (م): ((لأن النبي)).
[7] زاد في (م): ((في حديث جندب)). وقوله بعدها: ((عبدي)) ليس في (م).
[8] في (م): ((لمن)).
[9] في (م): ((والله تعالى في)).
[10] في (م): ((فإنما يعذب من يشاء مدة)).
[11] قوله: ((يعني فهو)) زيادة من (م).
[12] قوله: ((يعني فهو)) ليس في (م).
[13] زاد في (م): ((مما نهي عنه)).
[14] في (م): ((كذبين: كذب)).
[15] في (م): ((انتفاءه)).
[16] العبارة في (م): ((وسيتكرر هذا الحديث في كتاب.... فإن ظن ظان أن في هذا الحديث... الكاذب والصادق في النهي عنه)).