شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الدخول على الميت بعد الموت إذا أدرج في كفنه

          ░3▒ بَابُ: الدُّخُولِ عَلَى المَيِّتِ إِذَا أُدْرِجَ في أَكْفَانِهِ.
          فيهِ: عَائِشَةُ: (أن أَبَا بَكْرٍ(1) دَخَلَ عَلَى النَّبيِّ صلعم وَهُوَ مُسَجًّى بِبُرْدِ حِبَرَةٍ، فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ ثمَّ أَكَبَّ / عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ، ثمَّ بَكَى فَقَالَ: بأبي أَنْتَ يَا نَبِيَّ اللهِ لا يَجْمَعُ اللهُ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ، أَمَّا المَوْتَةُ الَّتي كُتِبَتْ عَلَيْكَ فَقَدْ مُتَّهَا. [خ¦1241] [خ¦1242]
          فخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ يُكَلِّمُ(2) النَّاسَ فَقَالَ: اجْلِسْ، فَأَبَى، فَقَالَ: اجْلِسْ، فَأَبَى، فَتَشَهَّدَ أَبُو بَكْرٍ فَمَالَ إِلَيْهِ النَّاس وَتَرَكُوا عُمَرَ، فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ(3) مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ فَإِنَّ اللهَ حيٌّ لا يَمُوتُ، وقالَ(4) اللهُ ╡: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} إلى قوله:(5) {الشَّاكِرِينَ}[آل عِمْرَان:144]وَاللهِ لَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ ذلكَ(6) حَتَّى تَلاهَا أَبُو بَكْرٍ، فَتَلَقَّاهَا مِنْهُ النَّاسُ، فَمَا سَمِعَ بَشَرٌ إِلَّا يَتْلُوهَا(7)).
          وفيهِ: أُمُّ العَلاءِ: (بَايَعَتِ النَّبيَّ صلعم قَالَتْ(8): اقْتُسِمَتِ(9) المُهَاجِرُونَ قُرْعَةً، فَطَارَ لَنَا عُثْمَانُ بنُ مَظْعُونٍ فَأَنْزَلْنَاهُ في أَبْيَاتِنَا، فَوَجِعَ وَجَعَهُ الَّذي تُوُفِّيَ(10) فِيهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَغُسِّلَ وَكُفِّنَ في أَثْوَابِهِ، دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلعم فَقُلْتُ: رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ، فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللهُ، فَقَالَ النَّبيُّ صلعم: وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللهَ أَكْرَمَهُ؟ قُلْتُ(11): بأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي(12) يَا رَسُولَ اللهِ! فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللهُ؟ فَقَالَ: أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ اليَقِينُ، وَاللهِ إِنِّي لأرْجُو لَهُ الخَيْرَ، وَاللهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللهِ مَا يُفْعَلُ بِي)، قَالَتْ: فَوَاللهِ لا أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا(13). [خ¦1243]
          وفيهِ: جَابِرٌ: (لَمَّا قُتِلَ أَبِي جَعَلْتُ أَكْشِفُ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ أَبْكِي وَيَنْهَوْنِي، والنَّبيُّ صلعم لا يَنْهَانِي فَجَعَلَتْ عَمَّتِي فَاطِمَةُ تَبْكِي(14)، فَقَالَ النَّبيُّ صلعم: تَبْكِينَ أَوْ لا تَبْكِينَ مَا زَالَتِ المَلائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رَفَعْتُمُوهُ(15)). [خ¦1244]
          قال المُهَلَّبُ: فيه جواز كشف الثَّوب عن الميِّت إذا لم يبدُ منه أذًى، وفيه جواز تقبيل الميِّت عند وداعه(16)، ونهي النَّبيِّ(17) صلعم عن البكاء معَه(18)، إنَّما هي في حال الحياة، فلمَّا ارتفعت(19) في الميِّت جاز تقبيله، وقد روى عبد الرَّزَّاق عن الثَّوْرِيِّ عن عاصِمِ بنِ عُبَيْدِ اللهِ عن القاسمِ بنِ مُحَمَّدٍ عن عائشةَ: ((أنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم دَخَلَ على عُثْمَانَ بنِ مَظْعُوْنٍ(20) فأَكَبَّ عَلَيْهِ فقَبَّلَهُ ثُمَّ بَكَى، حَتَّى رَأَيْتُ الدُّمُوْعَ تَسِيْلُ عَلَى وَجْنَتَيْهِ)).
          وفيه جواز البكاء على الميِّت(21) مِن غير نوحٍ، وكذلك في قوله ◙ في حديث جابرٍ: ((تَبْكِيْنَ أَوْ لَا تَبْكِيْنَ)) إباحة البكاء أيضًا، وسيأتي ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى [خ¦1303].
          وأمَّا قول أبي بَكْرٍ الصِّدِّيق ☺: (لا يَجْمَعُ اللهُ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ(22))، فإنَّما قال ذلك _والله أعلم_ لأنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ ☺ وغيرَهُ قالَ(23): إنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم لم يَمُتْ وسيُبْعَثُ ويقطعُ أيديَ رِجَالٍ وأرجلَهُمْ، ذكرته(24) عن عُمَرَ في فضائل أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيْقِ [خ¦3667]، فأراد أنَّه لا يجمعُ اللهُ عليه ميتتين في الدُّنيا، بأن يميته هذه الميتة الَّتي قد ماتها ثمَّ يحييه، ثمَّ يميته ميتةً أُخرى.
          وليس قوله: (لا يَجْمَعُ اللهُ عَلَيْكَ ميتَتَيْنِ(25)) بمعارضٍ لقوله ╡: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ}[غافر:11]، لأنَّ الميتة الأُولى: خلقَه الله(26) من ترابٍ ومن نطفةٍ، لأنَّ التُّراب والنُّطفة مَوَاتٌ، والمَوَات كلُّه لم يُمِت نفسه، إنَّما أماته الله الَّذي خلقه، والموت الثَّاني: الَّذي يموت(27) الخلق.
          وأمَّا قوله: {وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ}[غافر:11]يعني حياة الدُّنيا والحياة في الآخرة بعد الموت، هذا قول ابنِ مَسْعُودٍ والسَّائِبِ بنِ يزيدٍ وابنِ جُرَيْجٍ، فقوله: (لا يَجْمَعُ اللهُ عَلَيْكَ ميتَتَيْنِ) كقوله(28) تعالى: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا المَوْتَ إِلَّا المَوْتَةَ الأُولَى}[الدخان:56]. وفي الآية قولٌ(29) آخرُ رُوِيَ عن الضَّحَّاكِ أنَّه قال: الميتة الأُولى ميتته(30)، والثَّانية موته في القبر بعد الفتنة والمُسَاءلة، واحتجَّ(31) بأنَّه لا يجوز أن يُقَال للنُّطفة والتُّراب ميتٌ(32)، وإنَّما يُقَالُ: ميتٌ لمن تقدَّمت له الحياة، وهذا اعتراضٌ فاسدٌ، قال الله تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الأَرْضُ المَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا}[يس:33]ولم يتقدَّم لها حياة قطُّ، وإنَّما خلقها(33) الله تعالى جمادًا ومَوَاتًا، وهذا من سعة كلام العرب، والقول الأوَّل هو الَّذي عليه العلماء.
          وفيه أنَّ أبا بَكْرٍ الصِّدِّيق ☺ أعلم مِن عُمَرَ، وهذه إحدى المسائل الَّتي ظَهَرَ فيها ثاقب عِلْمِ أبي بَكْرٍ، وفضل معرفته، ورجاحة رأيه(34) وبارع فهمه، وحسُن(35) انتزاعه بالقرآن، وثبات نفسه، وكذلك(36) مكانته عند الأمَّة لا يساويه فيها أحدٌ، ألَا ترى أنَّه حين تشهَّد وبدأ بالكلام مال النَّاس إليه، وتركوا عُمَرَ. ولم يكن ذلك إلَّا لعظيم منزلته في نفوسهم على عُمَرَ، وسُمُو محلِّه عندهم، أخذوا ذلك روايةً(37) عن نبيِّهم صلعم وقد أقرَّ بذلك عُمَرُ بنُ الخطَّابِ ☺ حين مات أبو بَكْرٍ ☺ فقال: واللهِ(38) ما أُحِبُّ أَنْ أَلْقَى اللهَ بِمثْلِ عَمَلِ أَحَدٍ إلَّا بمثلِ(39) عَمَلِ أبي بَكْرٍ، ولَوَدِدْتُ أنِّي شَعْرَةٌ في صَدْرِ أَبِي بَكْرٍ.
          وذكر الطَّبَرِيُّ عن ابنِ عبَّاسٍ، قالَ(40): واللهِ إنِّي لأمشي مَعَ عُمَرَ في خلافتِهِ وبيدِهِ الدِّرَةُ، وهو يُحَدِّثُ نَفْسَهُ ويضربُ قدمَهُ بدِرَّتِهِ، ما معَهُ غيرِي / إذْ قالَ لي: يا ابنَ عبَّاسٍ، هلْ تَدْرِي ما حَمَلَنِي على مقالتِي الَّتي قُلْتُ حينَ ماتَ رَسُولُ اللهِ صلعم؟ قُلْتُ: لا أدري واللهِ يا أميرَ المؤمنين. قالَ: فإنَّه(41) ما حَمَلَنِي على ذلك إلَّا قوله ╡: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ على النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}[البقرة:143]فواللهِ إنْ(42) كنْتُ لأظنُّ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم سيبقَى في أمَّتِهِ حتَّى يشهد عليها بآخر أعمالِها. وفي(43) تأويل عُمَرَ هذه الحُجَّة لمالكٍ ☺ في قوله: في الصَّحَابَةِ مُخْطِئٌ ومُصِيْبٌ، يعني في التَّأويل.
          وقال(44) المُهَلَّبُ: وفي حديث أُمِّ العلاءِ أنَّه لا يُقطَعُ على أَحَدٍ مِنْ أهلِ القِبْلَةِ بجنَّةٍ ولا نارٍ، ولكن يُرجَى للمُحْسِنِ، ويُخَافُ على المُسِيءِ.
          وأمَّا قوله صلعم: (وَاللهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللهِ مَا يُفْعَلُ بِي)، فيُحتملُ أن يكون قبل أن يُعْلِمَهُ الله ╡ بأنَّه قد غُفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، وقد رُوِيَ في هذه الآية(45) (مَا يُفْعَلُ بِي(46)) وهو الصَّواب؛ لأنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم لا يعلم من ذلك إلا ما يُوحَى به(47) إليه، والله الموفِّق للصَّواب.
          وقال عبدُ الواحدِ(48): فإنْ قيل: هذا المعنى يُعارض قوله في حديث جَابِرٍ: ((مَا زَالَتِ المَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ بأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رَفَعْتُمُوهُ))، قيل: لا تعارض بينهما، وذلك أنَّ النَّبيَّ(49) صلعم لا يَنْطِقُ عن الهوى، فأنكر على أُمِّ العلاء قطعها على ابنِ مَظْعُونٍ؛ إذ لم يعلم هو مِن(50) أمرِه شيئًا، وفي قصَّة جَابِرٍ قال(51) بما علمه من طريق الوحي؛ إذ لا يجوز أن يقطع(52) صلعم على مثل هذا إلَّا بوحيٍ، فسقط التعارض(53).


[1] في (ص): ((بكر)).
[2] صورتها في (ز): ((يحلم)).
[3] في (م): ((أمَّا بعد: فإنَّ من كان يعبد منكم)).
[4] في (م) و(ي) و(ص): ((قال)).
[5] قوله: ((قوله)) ليس في المطبوع و(ص).
[6] في (م): ((أنزلها)).
[7] قوله: ((فَمَا سمَعُ بَشَرٌ إِلا يَتْلُوهَا)) ليس في (م).
[8] قوله: ((قالت)) ليس في (م).
[9] في (م) و(ي) و(ص): ((اقتسم)).
[10] في المطبوع و(ص): ((مات)).
[11] في (م): ((فقلت)).
[12] قوله: ((وأمِّي)) ليس في (م) و(ص).
[13] في (م): ((لا أزكِّي بعده أحدًا)).
[14] في (م): ((فاطمة عمَّتي تبكي)).
[15] في المطبوع و(ص): ((رفعتموها)).
[16] في (م): ((إذا لم يبد منه أذًى عند وداعه، وفيه جواز تقبيل الميِّت هو أصل ما يصنعه النَّاس اليوم من تقبيل الميِّت عند وداعه)).
[17] في (ص): ((الرسول)).
[18] في (م) ((عن المكامعة))، في حاشية (ز): ((نسخة: عن المكامعة، وهي المعانقة)).
[19] في حاشية (ز): ((أي الحياة)).
[20] زاد في (م): ((وهو ميِّت)).
[21] زاد في (م): ((بالعين)).
[22] في (ي) و(ص): ((ميتتين)).
[23] في (م) و(ص): ((قالوا)).
[24] زاد في (م): ((عائشة)).
[25] في (م): ((موتتين)).
[26] قوله: ((الله)) ليس في (م).
[27] في (م): ((بموتة)).
[28] في (م): ((مثل قوله)).
[29] في (م): ((وفيها قول)).
[30] في (م): ((ميتة الدُّنيا)).
[31] زاد في (م): ((له)).
[32] في (م): ((ميتة)).
[33] في المطبوع و(ص): ((جعلها)).
[34] قوله: ((رأيه)) ليس في (ص).
[35] في (م): ((وسرعة)).
[36] زاد في (م): ((كانت)).
[37] في (م): ((وراثة)).
[38] في (م): ((عمر بن الخطَّاب ☺ فقال حين مات أبو بكر الصِّدِّيق: والله)).
[39] قوله: ((بمثل)) ليس في (م).
[40] في (م) و(ص): ((فقال)).
[41] قوله: ((فإنَّه)) ليس في المطبوع و(ص).
[42] في المطبوع و(ص): ((إنِّي)).
[43] في (ص): ((في)).
[44] في (م) و(ي): ((قال)).
[45] في (م): ((في هذا الحديث))
[46] في (ص): ((به)).
[47] قوله: ((به)) ليس في (ي) و(ص).
[48] قوله: ((وقال عبد الواحد)) ليس في (م).
[49] في (ص): ((الرسول)).
[50] في (م): ((في)).
[51] زاد في (م): ((◙)).
[52] في (م): ((إذ لا يقطع)).
[53] زاد في (م): ((والحمد لله)).